مازال القرار الفرنسي الذي يمنع الطالبات اللاتي يرتدين العباءة من الولوج إلى الفصل الدراسي يثير الكثير من النقاش داخل الأوساط الفرنسية وخارجها، بحكم أنه “يشكل ارتدادا عن القيم اللائكية التي تنتصر للتعددية والاختلاف والتعايش”، رغم أن السلطات الفرنسية تعتبر أن “ارتداء العباءة والقميص الطويل يعبر عن انتماء ديني في البيئة المدرسية لا يمكن التسامح معه”.
العديد من المغربيات يبدو أنهن معنيات بهذا القرار بشكل مباشر، بحكم أن المذكرة التي أرسلها وزير التربية الفرنسي، غابرييل أتال، إلى رؤساء المؤسسات التعليمية، لا تستثني أحدا، حتى الفرنسيات أنفسهن، ويبدو أن “استمرار إثارة النزاعات ذات الطابع الديني في فرنسا سيؤثر على العديد من المغربيات، وفي الغالب سيصبحن مرغمات على الامتثال”.
أزمة هوية
سعيد ناشيد، باحث في الفكر الفلسفي، اعتبر أن “مشكلة العباءة أو الحجاب بفرنسا هي تعبير عن أزمة هوية وجودية تعيشها فرنسا مثلما تعيشها أوروبا لأسباب في أصلها اقتصادية تلقي بظلالها على الاجتماعي والثقافي”، موضحا أن “الجاليات المسلمة في فرنسا بدورها بدت منسحبة في أوقات كثيرة من النقاش، لكونها تقوقعت في متاهات خلقت صورا مغلوطة عنها في العقل السياسي والاجتماعي الفرنسي”.
وفسر ناشيد، في تصريح لجريدة هسبريس، أن “الأصل في العلمانية أن تكون الدولة محايدة، لكن يبدو أن النموذج الفرنسي بات في أزمة حقيقية تعتمد ميكانيزمات أصولية”، محملا “جزءا من المسؤولية للجيل الثالث والجيل الرابع من المهاجرين، لأن الأجيال الأولى كان لها اعتزاز كبير بالهوية المرجعية للأوطان التي قدموا منها، لكن الأجيال الحالية صارت تعيش أزمة لأنها لم تستطع أن تندمج حقيقة ووجدت نفسها أمام غيتوهات تتحمل مسؤوليتها الجالية المسلمة وفرنسا”.
وأفاد الباحث في الفكر الفلسفي بأن “المشكل يكمن في ظاهرة شاملة هي أن أوروبا لم تعد تعيش رخاء مثل السبعينات، وصارت تعيش أزمة هوية، فلم يحسم النقاش بعد في فرنسا وغيرها إن كانت الهوية تعبيرا عن حضارة فيها مرجعية فكرية وقيمية أم هي هوية جغرافية أم هوية لها بعض الخصوصيات الدينية المسيحية”، مسجلا أن “ما يسمى بالحجاب والعباءة ليست لهما دلالة أو معايير واضحة ومضبوطة حتى لدى المسلمين أنفسهم”.
واعتبر أن “حق الإنسان، مغربيا كان أو غير مغربي، في جسده يبقى مطروحا بقوة في مواجهة التطرف الفرنسي، لكن يجب أن نقر بأنه لاعتبارات وظيفية أو حتى أمنية، يجب أن يكون الوجه مكشوفا، فلا يمكن تصور سائقة تخفي وجهها بدعوى لباس شرعي، لكون هذا يطرح تحديات حقيقية، ولكن خارج حدود الوجه، فالأمر فيه مبالغة ويدخل في نطاق المزايدات فقط”.
المغربيات ستتأقلمن
من جانبه، قال الباحث في الفكر الديني إدريس الكنبوري: “لا خيار بالنسبة للمهاجرات المغربيات على ما يبدو سوى التأقلم مع هذا القرار الجديد، الذي صار يتكرر مع كل دخول دراسي، ما يبين أن الرئيس ماكرون بمغازلته لليمين المتطرف هو يغامر بالقيم العلمانية الفرنسية التي تم الترويج لها بقوة منذ الثورة الفرنسية”، وزاد أن “مظاهر كراهية المسلمين بلغت نطاقا خطيرا في فرنسا”.
وأفاد الكنبوري، ضمن تصريح لجريدة هسبريس، بأن “فرنسا بعدما شعرت بأن صورة الجمهورية تتفكك وتعيش آخر مراحلها في الداخل والخارج، جعلت معركتها الحقيقية تدور في وجه المهاجرين، ومنهم المغاربة بطبيعة الحال”، مضيفا أن “جمعيات المهاجرين والحقوقيين ينتقدون بشدة هذه القرارات التي لا تعبر عن الفكر الأنواري الذي ظهر في فرنسا، والذي يبدو أن ماكرون يتجه في تعميق فشل فرنسا في استيعاب أهم أسسه: التعددية”.
واسترسل قائلا: “هذه اللائكية سوف تقضي على النموذج الفرنسي الليبرالي وستنسف القيم الكونية من تسامح وانفتاح بعد أن كانت من بشر بها؛ فرنسا تنقلب على نفسها، وستجعل القيم العلمانية ترتد على نفسها أيضا، لأن هذه السياسات ليست هي العلمانية الحقيقية، لكون الأخيرة تعني عدم التدخل في الشؤون الدينية للآخرين وإعطاءهم الحرية التي لا تضر بالفضاء العام”.
وختم الكنبوري بأن “فرنسا مازالت تحترف العداء لكل ما هو إسلامي، والمغاربة معنيون بهذه الحرب الخاسرة التي تشنها الجمهورية”.
تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال خلال زيارته إلى ثانوية مهنية، الجمعة، في أورانج جنوبي فرنسا، إن “الجمهورية ستكون حازمة تجاه كافة محاولات تحدي النظام الجمهوري”، مضيفا: “لا ينبغي أبدا ترك المعلمين ومديري المدارس يواجهون بمفردهم الضغوط أو التحديات القائمة بشأن هذا الموضوع”، الذي ما زال يؤرق بال العديد من المهاجرات، ومنهن المغربيات بالضرورة.
المصدر: وكالات