عادت أنّا مهجر، باحثة وكاتبة إيطالية من أصول مغربية، إلى النبش في ذاكرة بعض الجنود المغاربة الذين شاركوا في حرب الهند الصينية الأولى (1946-1954)، وخصوصا جدها الذي كان ضمن الكتائب التي جندتها فرنسا عام 1946، بعدما سقطت سايغون الفيتنامية تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية، فبدأت حرب علنية بين القوات الفرنسية وجماعة “فيت مينه” بقيادة الزعيم الشيوعي هوشي منه.
فرنسا حينها جندت نحو مائتي ألف جندي من مستعمراتها السابقة بالمغرب الكبير وبعض المستعمرات الإفريقية الأخرى، لكن الباحثة في مقالها المنشور بمنصة “موديرن طوكيو تايمز” اليابانية، تميل إلى التقديرات التي تقول إن عدد الجنود المغاربة حينها كان 250 فرد. وهؤلاء المغاربة كان منهم من وقف تأملا لما يجري، وقرر الاصطفاف إلى المظلوم: الشعب الفيتنامي، لا إلى الجلاد: الاحتلال الفرنسي حينها.
الكاتبة قالت: “من بين الذين تم تجنيدهم من المستعمرات الفرنسية في القارة الإفريقية يوجد جدي أحمد ماجر، الذي كان مغربي الأصل، وكان يعتبر نفسه مناهضا للفاشية منذ أن قاتل بمعية الجنود المغاربة من أجل [تحرير فرنسا] خلال الحرب العالمية الثانية”. وأضافت: “في عام 1943، تم إرسال جدي مع آلاف المغاربة الآخرين للقتال في كورسيكا ضد قوات الاحتلال الفاشية الإيطالية. كما تم إرساله إلى مناطق مختلفة في فرنسا لمواجهة القوات النازية”.
لكن أنّا مهجر أفادت بأن “الأوضاع مبدئيّا ستتغير حين ستجنّد فرنسا جدها في فيتنام ليشارك في حرب الهند الصينية الأولى؛ بحيث عندما وصل إلى البلد الآسيوي المحتل غمره جمال البلاد وثقافتها ومطبخها وكرم ضيافتها”. وأضافت: “لقد اكتشف أن قوات فيت مينه، التي واجهته في ساحة المعركة، كانت تقاتل من أجل الحرية، وأدرك أن هذا السيناريو كان مختلفا جذريا عما كان عليه الوضع في فرنسا في حين كان يقاتل ضد اضطهاد الأيديولوجيات الفاشية والنازية العنصرية”.
وأكدت الباحثة أن “هذه المرة، شعر جدي وكأنه كان يقاتل إلى جانب الظالم والجلاد”، فبالنسبة للمغربي، “كان من المستحيل الاستمرار في النضال لأجل قوة استعمارية كانت تقمع الشعب الفيتنامي وحركة استقلاله بالطريقة نفسها التي كانت تقمع بها آمال وتطلعات شعبه المغربي”، وحينها “بدأ المئات من الجنود المغاربة الاصطفاف إلى جانب قوات الشعب الفيتنامي في نضاله من أجل الحرية والاستقلال التمرد على القوى الاستعمارية”.
وفي الوقت نفسه، كان الجنود المغاربة الذين يقاتلون في الهند الصينية يحملون هم المغاربة الذين يناهضون الاستعمار الفرنسي في المغرب، بحيث كانت حركة التحرير الوطنية المغربية تنمو بشكل مطرد خلال تلك الفترة، وكانت تهدف إلى إنشاء ملكية مستقلة عن الحماية تحت قيادة السلطان محمد الخامس، وهو ما دفع سلطات الحماية الفرنسية لنفي السلطان وعائلته في عام 1953، أولا إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر”.
وكانت هذه الأحداث المتنامية تولد المزيد من الشعور الوطني حينها؛ بحيث في نهاية المطاف، أصبحت “حرب الهند الصينية لا تحظى بشعبية كبيرة في الوسط الفرنسي”، تورد مهجر قبل أن تضيف: “في ماي 1954، انهزمت فرنسا على يد قوات فيت منه في معركة دين بين فو، وكان العديد من الجنود المغاربة مساهمين في ميل كفة ميزان القوى ميدانيا لصالح الفيتناميين”.
ما تلا ذلك هو إعلان اتفاقيات جنيف 1954، التي قسمت فيتنام على طول خط العرض إلى الشمال الاشتراكي بقيادة الرئيس هو تشي منه، والجنوب المتحالف مع الغرب. وكان من المفترض أن يكون هذا الترتيب مؤقتا، مع وعد بإجراء انتخابات في عام 1956 لإعادة توحيد البلاد، لكن الولايات المتحدة أيدت في النهاية قرار جنوب فيتنام إلغاء الانتخابات.
لم يتم لم شمل فيتنام رسميا من تساو لانغ إلى كاو ماو إلا خلال 1976، بعد نهاية حرب الهند الصينية الثانية الطويلة والدموية، المعروفة باسم حرب فيتنام، وبعد سيطرة القوات الفيتنامية الشمالية على سايغون.
مع ذلك، لا تعرف الكاتبة “متى وكيف عاد جدها إلى المغرب، الذي حقق استقلاله عن فرنسا عام 1956، بعد عامين من نهاية حرب الهند الصينية، حين استعاد السلطان محمد الخامس السيطرة على المملكة الشريفة”، لكنها اعتبرت أن “العديد من الجنود المغاربة لم يفلحوا في العودة إلى المغرب بعد نهاية الحرب، ومنهم من تمت إعادتهم إلى الوطن في عام 1972”.
كما أكدت أن العديد من هؤلاء المغاربة انتهت “قصصهم الحربية” بفيتنام بالزواج من فيتناميات، ومنهم من يعيش أحفادهم اليوم في المغرب ويتشاركون في كلا الثقافتين. وبعدما كان الاصطفاف في الحرب إلى جانب الشعب الفيتنامي، قرر العديد من الجنود الانضمام للشعب الفيتنامي والتعايش معه وفيه.
وبين عامي 1956 و1960، أفادت الكاتبة بأن “العديد من أولئك الجنود المغاربة الذين انشقوا عن الجيش الفرنسي وبقوا في فيتنام، قاموا ببناء [باب المغاربة] في هانوي. ولا تزال البوابة بمثابة نصب تذكاري لتكريم المقاتلين المغاربة الشجعان الذين ساهموا في تحرير بلد طموح من نير الاستعمار”.
ومن تداعيات هذه المشاركة التاريخية للجنود المغاربة في فيتنام، توجد نواحي القنيطرة “القرية الفيتنامية”، التي دُشن فيها مؤخرا “باب فيتنام”، وهي المناطق التي كان جد الكاتبة يقيم فيها جنبا إلى جنب مع العديد من العائلات من أصل فيتنامي.
وقالت في النهاية: “ترمز هذه البوابة إلى القيم المشتركة للبلدين وماضيهما المشترك من النضال والتضحية، فضلاً عن التعاون بين الأمم الحرة والمتساوية”.
المصدر: وكالات