كثيرة هي الأزمات الدولية والإقليمية التي شهدتها عدد من الدول والمناطق في العالم، التي عرفت اصطفافات دولية واضحة إلى جانب أحد أطرافها على حساب الآخر، فيما تمكنت المملكة المغربية بحيادها الإيجابي والبناء من النأي بنفسها عن هذه الاصطفافات، لتحافظ بذلك على شبكة مصالحها السياسية والاقتصادية مع الدول المعنية بهذه الأزمات رغم منطق التجاذبات والتقاطبات الذي أصبح السمة المميزة للعلاقات الدولية في عالم القرن الواحد والعشرين.
من شرق أوروبا التي تشهد حربا مستمرة بين موسكو وكييف، وصولا إلى إفريقيا التي اجتاحتها موجة من الانقلابات العسكرية في الآونة الأخيرة، ومرورا بليبيا التي راحت ضحية الفوضى الأمنية والانقسام السياسي، وقبلها عدد من الأزمات الكبرى التي غيرت الخريطة السياسية العالمية؛ بقي المغرب محافظا على مواقف سياسية هادئة وعلى حياد دبلوماسي تؤطره مواقفه المبدئية الرافضة للتدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للدول، وتغليب لغة الحوار على أصوات البنادق وصيانة الأمن والسلم الدوليين وفقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
مناسبة هذا القول هو تخليد العالم اليوم الثلاثاء اليوم الدولي للحياد الذي دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الاحتفال به يوم الـ12 دجنبر من كل سنة، بهدف تسليط الضوء على أهمية الحياد في العلاقات الدولية وفي الأزمات الدولية والإقليمية، اعتبارا لكونه مبدأ دبلوماسيا وعاملا مساعدا في التأسيس لأرضيات للحوار والتفاوض السلمي بين الأطراف المتنازعة، وهي أيضا مناسبة لتسليط الضوء على تشبث المغرب بهذا المبدأ والثمار الدبلوماسية التي جناها من وراء ذلك.
رفض للتموقع في أزمة أوكرانيا
سعيد بركنان، محلل سياسي، قال إن “التعامل الحذر هو المنطلق الأساسي الذي تتعامل به الدبلوماسية المغربية مع أغلب الأحداث التي تطفو على سطح العلاقات الدولية، نتيجة الصراعات الاقتصادية أو النزاعات على الحدود أو حتى الصراعات داخل الدولة نفسها نتيجة انقلابات عسكرية أو تمردات وثورات تعصف بالأنظمة السياسية”.
وأضاف بركنان أن “الحياد الذي يميز موقف المغرب من أغلب الأزمات العالمية، وحتى المؤثرة بشكل كبير مثل الأزمة الروسية الأوكرانية، له ما يبرره في مبادئ وأعراف العمل الدبلوماسي المغربي؛ ذلك أنه حياد يجمع بين كون الرباط ليست طرفا في النزاع مقابل عدم نفي أنها غير معنية به”، مشيرا في هذا الصدد إلى “تأكيد الرباط إبان استقبالها وزير الخارجية الأوكراني في ماي الماضي أنها ليست طرفا في الحرب بين موسكو وكييف بأي شكل من الأشكال، وذلك رغم علاقاتها الإستراتيجية مع واشنطن التي ضغطت على حلفائها من أجل تبني طرحها في تعاطيها مع هذه الحرب”.
بناء على ذلك، سجل المتحدث لهسبريس أن “الميزة التي ميزت الحياد المغربي في الأزمة الأوكرانية وعلى غرار باقي الأزمات هي أن الرباط لا تتموقع بجانب أي طرف من أطراف النزاع، لكنها تحاول الوصول إلى تسوية الأزمة بالشكل الذي يقوم عليه هذا الحياد، من خلال احترام مجموعة من المبادئ المحورية والأساسية في تعاطيها مع هذه الملفات الكبرى، أولها مبدأ سيادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة”.
أما المبدأ الثاني، يوضح المحلل السياسي عينه، فيتعلق بـ”عدم اللجوء إلى القوة في حل النزاعات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، أي الجنوح لطريق السلم والجلوس إلى طاولة المفاوضات بكل ما تقتضيه آلية التفاوض من تنازلات وتوافقات”؛ إضافة إلى مبدأ “التقيد بمخرجات ومقررات الهيئات الدولية والالتزام بها، وأحيانا التموقع كوسيط لحل النزاع تحت شرعية ومظلة الأمم المتحدة، كما هو الشأن بالنسبة لموقف المغرب في مساعيه لحل مشكل القضية الليبية”.
حياد في ليبيا يثمر اتفاقات سياسية
إلى ليبيا، حيث أورد إدريس أحميد، محلل سياسي ليبي، أن “المملكة المغربية كانت سباقة في دعم ليبيا وفي احتضان مختلف المحطات السياسية الكبرى التي جمعت الفرقاء والأطراف الليبيين، إذ كانت ومازالت قبلة لهذه الأطراف من أجل الوصول إلى تفاهمات تفضي إلى بناء مؤسسات حديثة، ولم يكن هذا الأمر ليتأتى لولا الحياد الإيجابي الذي يُميز الرباط، وكان عاملا مساعدا في حصولها على ثقة مختلف أطراف المعادلة السياسية الليبية”.
وأضاف أحميد في تصريح لهسبريس أن “الدور المغربي في هذا الإطار كان فعالا ومهما بشهادة عربية وأممية، نظرا لأن الدبلوماسية المغربية لم تتعامل يوما كونها طرفا في أزمة الليبيين على غرار ما تفعله عدد من الدول التي لا تحظى بالمصداقية لقيادة وساطة بين الفرقاء”، مشددا على أن “ما يميز المغرب في تدخله الدبلوماسي في ليبيا هو أولا احترام إرادة الشعب الليبي، والتدخل في هذه الأزمة بما يضمن وحدة واستقرار الدولة الليبية كجزء من المنظومة المغاربية”.
“نجاح المغرب في جمع الأطراف المتنازعة في أكثر من مناسبة، آخرها احتضان اجتماعات لجنة الإعداد للانتخابات وقبلها اجتماعات بوزنيقة واتفاق الصخيرات، يؤكد على خبرة الدبلوماسية المغربية في تعاملها مع الأزمات السياسية في محيطها الإقليمي والدولي”، يسجل المحلل السياسي الليبي، الذي أوضح أن “الشعب الليبي يراهن على الدور والحياد المغربيين من أجل التوصل إلى حل سياسي متوافق عليه يفضي إلى إجراء انتخابات ديمقراطية تحترم إرادة الليبيين”.
وخلص المصرح لهسبريس إلى أن “المغرب يملك كل المقومات السياسية والدبلوماسية التي تجعل منه دولة وسيطة قادرة على إخراج ليبيا من أزمتها الحالية، وبالتالي إعادة التأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات ما بين الدول المغاربية التي تشترك في الجغرافيا والتاريخ والمصير”، مشددا على أن “الحياد الدبلوماسي المغربي معروف أيضا على المستوى الإفريقي، وهو ما يعطي الرباط مساحة أكبر للتحرك من أجل حل الأزمات الإقليمية والدولية”.
انقلابات إفريقيا والحكمة المغربية
ولإفريقيا وأزماتها هي الأخرى نصيب من الحياد الإيجابي الذي يميز الدبلوماسية والسياسة الخارجية المغربية علاقة بالملفات الشائكة في القارة السمراء، وهو ما يؤكده جواد القمسي، الباحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي، الذي سجل أن “التعاطي المغربي مع سلسلة الانقلابات التي عرفتها القارة الإفريقية في الآونة الأخيرة ليس تصرفا ارتجاليا للدبلوماسية المغربية، بل يعبر عن إستراتيجية يتميز بها العمل الدبلوماسي المغربي، والخبرة التي راكمتها المملكة المغربية عبر قرون خلت”.
وأضاف القمسي أن “النهج المغربي في التعاطي مع الأزمات القارية والدولية عموما لا يتأثر كثيرا بتحالفات المغرب على الصعيد الخارجي، بل هو نهج يميز السياسة الخارجية المغربية ويؤكد على مكانة المغرب على الصعيد الدولي، وكذا ثبات السياسة الخارجية المغربية أمام الهزات التي قد تتعرض لها علاقاتها في بعض المراحل”.
وزاد المتحدث شارحا: “المغرب لا يأخذ مواقف متسرعة قد تؤثر على مستقبل علاقاته مع الدول الإفريقية التي تشهد أزمات سياسية أو صعود تيارات جديدة إلى السلطة، ذلك أنه يعتمد سياسة قوامها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فحتى لو بدا ظاهريا أن مصالح المملكة تتضرر إثر أحداث معينة كالانقلابات العسكرية إلا أن التصرف الحكيم للرباط يمنع تأزم الأمور أكثر ويبقي دائما على حبل الود قائما لإصلاح الأمور مستقبلا وبسرعة قياسية”.
“هذا الحياد الدبلوماسي الذي ينتهجه المغرب ساهم في الحفاظ على مصالحه الاقتصادية والسياسية في إفريقيا، حيث يستند إلى الانتقال من منطق الدعم القائم على الصداقات إلى بناء شراكات اقتصادية قوية مع الدول المعنية”، يؤكد الباحث في العلاقات الدولية، الذي شدد على أن “النهج الواقعي الذي يطبع السياسة الخارجية للمغرب ينبني على استحضار الحسابات الجيو-إستراتيجية للدولة في اتخاذ موقف إيجابي من الأحداث من عدمه، وينبني كذلك على دراسة المسار السياسي للدولة ورؤيتها المستقبلية للأحداث”.
وخلص المحلل ذاته إلى أن “سياسة المغرب تجاه شركائه الأفارقة هي سياسة ثابتة غير متقلبة ومبنية على أسس متينة في كثير من محطاتها، وهذا ما يجعله يحظى بمصداقية مواقفه وتدخلاته في العالم، وفي القارة الإفريقية على وجه الخصوص، وجعله يحظى بتقدير واحترام لدى الكثير من دول القارة”.
المصدر: وكالات