“قصور واضح” في اهتمام الباحثين بـ”النظام البلدي لمدن موريطانيا الطنجية”، أو المغرب في فترة التبعية للحكم الروماني، يستمر في محاولة تداركه الباحث هشام ابورك، خاصة في ظل “الدراسة المستفيضة” للمناطق المجاورة للنظام البلدي (المغربي) لمدن البيتيكا بالجارة الشمالية، ومدن أفريقيا البروقنصلية بالجهة الشرقية.
جاء هذا في كتاب جديد صدر بعنوان “جوانب من الحياة البلدية بمدن موريطانيا الطنجية”، للباحث المتخصص في الحياة القانونية بالمغرب الروماني هشام ابورك، ويقف عند “الحياة البلدية بمدن إقليم موريطانيا الطنجية خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد، وكل ما تحمله هذه الحياة من قوانين محلية ونظام بلدي ومؤسسات ومناصب سياسية وإدارية ودينية واقتصادية واجتماعية”، إضافة إلى “النخب والعائلات المحلية التي اضطلعت بدور طلائعي بهذه المدن، كما ساهمت في إدارة دواليب الحكم فيها”.
وتندرج هذه الدراسة ضمن مسعى التأريخ للمؤسسات البلدية بشمال إفريقيا عامة، وإقليم موريطانيا الطنجية خاصة، “في فترة زمنية مهمة من تاريخ الإقليم، هي فترة تبعيته لحكم الإمبراطورية الرومانية بحقبتيها العليا والسفلى”، كما تأتي أيضا “في إطار دراسة الهياكل السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإقليم”.
ويوضح الباحث ما كان للمؤسسات البلدية من “دور فعال طيلة العهد الإمبراطوري الأعلى وبداية العهد الإمبراطوري الأسفل”، قبل أن تعرف “نكوصا تدريجيا بسبب عدة صعوبات أمنية وسياسية وإدارية. وتتراجع أدوار الموظفين البلديين التقليديين في تسيير المدن لصالح قيم الشأن العام”.
ومن بين ما يتطرق إليه هذا الكتاب، الشأن الديني الذي شغل “حيزا مهما” داخل المدن، وهو ما يتجلى في كثرة الكهنة البلديين “وعلى رأسهم الفلامين”، وظهور “وظائف أخرى تكميلية مثل الأوغور والأوغسطال، التي ساهمت بشكل كبير في عبادة الأباطرة باعتبارها إحدى ركائز الحياة البلدية الدينية”.
ويواصل: “في السياق ذاته اضطلعت كل من العبادة والآلهة العموميين بدور مهم في الحياة البلدية للمدن، وشكل الفلامين حجر زاوية هذه المنظومة”، مع ترجيح الباحث أن دورهم قد تعدى الجانب الديني ليشمل أيضا المجالين السياسي والإداري، خاصة خلال فترات الأزمة التي مرت منها المدن.
ويفصل الكتاب في مداخيل ومصاريف المجالس المحلية لمدن موريطانيا الطنجية، حيث اعتمدت على مداخيل عمومية وخاصة وأخرى موسمية، “بهدف سد حاجيات المدن المستمرة والملحة وضمان استمرار مصادر مالية لنفقاتها التي ازدادت يوما بعد يوم، وشملت قطاعات عدة مثل التعمير وأداء أجور الموظفين وتوفير الخدمات الضرورية للساكنة المحلية، بل وحتى الترفيه”.
وفي شق الترفيه، يذكر العمل الجديد أن “مصاريف إقامة الألعاب العمومية والاحتفالات على مدار السنة من أهم هذه النفقات العمومية، حيث كانت تقام العروض على ما يبدو بالمسارح والفضاءات العامة”، مع التنبيه إلى مساهمة تبرعات وهبات النخبة والموظفين البلديين في “المحافظة على هذا التقليد البلدي في مختلف المدن”.
ومن بين ما يهتم به هذا الكتاب، الفئات الاجتماعية في القرون الثلاثة الأولى من “موريطانيا الطنجية”، مع التوقف عند فئتي الفرسان والمعتقين، وخاصة الثانية التي “اضطلعت بدور فعال في الحياة البلدية” واعتبر أفرادها “وكلاء في خدمة عبادة الأباطرة وسياسة الرومنة، ومشروع روما الاستيطاني بشكل عام”.
ويتحدث الكتاب عن النخبة البلدية المحلية ودورها الهام في “الحياة الاقتصادية للمدن”، و”الضغط على السلطة الحاكمة”، و”احتكار مجموعة من الأنشطة الاقتصادية الحيوية الفلاحية والصناعية والتجارية”. كما يهتم بـ”الحياة العسكرية” لمدن المغرب الروماني، قائلا إنها لا تزال “واعدة”، وإن “الأركيولوجيا تطالعنا بين الفينة والأخرى باكتشافات جديدة تضفي عليها آفاقا أرحب وأوسع”.
ويدافع هشام ابورك على أن هذا النظام البلدي قد “حمل في طياته أسباب احتضاره وأفوله”؛ لأنه “انبنى على مركزية واضحة انمحت معها الاستقلالية التي يتشدق بها الباحثون الاستعماريون على وجه التحديد. كما أنه سُخّر لغايات اقتصادية محضة هدفت إلى ملء الخزينة الرومانية بالموارد المالية المتنوعة المُحصّلة من الضرائب المختلفة التي فُرضت على الساكنة المحلية باستمرار.”
ثم يردف قائلا: “قانون منح المواطنة الشهير لم يكن هدفه إدخال الساكنة الأجنبية إلى العالم المتحضر كما يزعم بعض الباحثين، بقدر ما كان هدفه إنقاذ الإمبراطورية من (السكتة القلبية) التي تفطن لها الساسة الرومانيون، من خلال ضخ المزيد من أموال الضرائب لفائدة خزينة الدولة”.
ويذكّر الكتاب بـ”الصعوبات الأمنية الجمة” التي وجدتها رومانيا منذ القرن الأول للميلاد بالمجال المغربي القديم، مستشهدا بإجراء الإدارة العسكرية والمدنية لموريطانيا الطنجية وموريطانيا القيصرية” المتمثل في “الجمع والاتحاد المستعجل والطارئ بين الإقليمين أكثر من عشر مرات خلال الفترة الممتدة من حكم الإمبراطور كلود إلى ديوكليتيان، مما يعكس الحالة الأمنية المتردية التي عرفتها المنطقة طيلة الفترة المذكورة، والصعوبات الكبيرة التي واجهتها السلطات الرومانية في تسيير شؤون الإقليمين على المستوى الإداري والسياسي والعسكري”.
ويستحضر العمل أيضا إسهام السياسة الضريبية الرومانية بإقليم موريطانيا الطنجية في “إضرام فتيل النار على الرقعة المتأججة باستمرار، حيث فرضت روما المزيد من الضرائب على الساكنة المحلية التي ناءت بالأعباء والالتزامات المختلفة، في إطار نظام بلدي غير مرغوب فيه ودخيل على ساكنة محلية رافضة ومقاومة له ولسياسة الرومنة”.
ويخلص كتاب “جوانب من الحياة البلدية بمدن موريطانيا الطنجية” إلى أن “هذا النظام البلدي بتعقيداته وسلبياته المتعددة، شكل في حد ذاته أحد أسباب تراجع السيطرة الرومانية بالمجال المغربي القديم؛ فهو من جهة لم يراع خصوصيات مدن إقليم موريطانيا الطنجية المتشبعة أصلا بالإرث الحضاري البوني، وحاول فرض نفسه في مجال لم يستقر بعد على هويته الحقيقية، مما جعل ساكنته تنزع نحو رفض هذا النظام”.
المصدر: وكالات