يستمر التوتر بين الجزائر وباريس على خلفية المرسوم الأخير للرئيس عبد المجيد تبون القاضي بإعادة دمج مقطع محذوف في النشيد الوطني الجزائري يحمل “وعيدا وتهديدا” لباريس، وهو ما اعتبرته هذه الأخيرة، على لسان وزيرة الخارجية، كاثرين كولونا، “تعديلا تجاوزه الزمن”.
وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، رد على تصريحات نظيرته الفرنسية خلال مقابلة له مع وكالة “نوفا” الإيطالية، أول أمس الأربعاء، بالقول: “أنا مندهش من تصريحات الوزيرة الفرنسية التي كان بإمكانها انتقاد موسيقى النشيد الوطني بدورها”، معتبرا أن “بعض الأحزاب والسياسيين في فرنسا لديهم انطباع بأن الجزائر أصبحت موضوعا سهل التناول لتحقيق أغراضهم السياسية”.
بدوره، انتقد صالح قوجيل، رئيس مجلس الأمة الجزائري، وزيرة الخارجية الفرنسية خلال جلسة برلمانية، أمس الخميس، قائلا إن “بقايا الاستعمار القديم وصل بهم الأمر حد الحديث عن نشيدنا الوطني”.
على الطرف الفرنسي، اعتبرت ميشال تاباروت، نائبة عن حزب الجمهوريين، في سؤال وجهته إلى رئيسة الوزراء، إليزابيت بورن، أن “كلمات النشيد الوطني الجزائري مليئة بالكراهية تجاه فرنسا، كما أن فرنسا لم تحصد سوى الاحتقار في علاقاتها مع الجزائر التي تعقد شراكات مع دول تهدد الأمن والاستقرار في العالم، في وقت يريد فيه ماكرون تطبيع العلاقات مع هذا البلد على حساب حلفائنا المغاربة”، واصفة السلطة الجزائرية بأنها “تعيش على ذاكرة عمرها 60 عاما”.
تعليقا على هذه التطورات، يرى متتبعون أن النظامين الحاليين في كل من فرنسا والجزائر يعيشان نوعا من التخبط وانعدام الرؤية السياسية التي تمكنهما من قراءة الواقع الدولي بشكل جيد، معتبرين أن عودة العلاقات الفرنسية المغربية إلى طبيعتها لا تعدو أن يكون مسألة وقت ليس إلا، بالنظر إلى الطبيعة الاستراتيجية والتاريخية لهذه العلاقات.
تعنت سياسي وتخبط فرنسي
هشام معتضد، خبير في العلاقات الدولية، قال إن “انتقادات السياسيين الفرنسيين للرئيس الفرنسي بخصوص الملف الجزائري، تترجم الضعف الكبير التي تتخبط فيه الرئاسة الفرنسية في تدبير مرحلتها السياسية، حيت إن فترة الرئيس ماكرون تعرف العديد من الأخطاء الدبلوماسية والاستراتيجية على مستوى سياسة فرنسا الخارجية، خاصة مع دول شمال إفريقيا والساحل والصحراء”.
وأضاف معتضد، في تصريح لهسبريس، أن “توتر العلاقات بين السياسيين الجزائريين والفرنسيين كان دائمًا يطبع سياق السياسة الخارجية بين البلدين، ولكن زادت حدة التوتر في عهد ماكرون والنظام الحاكم في الجزائر نظرًا للانزوائية السياسية التي يتمسك بها حكام البلدين وحساباتهما الضيقة في بناء العلاقات الدولية”.
وحول مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية في ظل هذا الوضع، قال المتحدث ذاته إن “هذا المستقبل رهين بمدى استعداد القيادة في فرنسا والنظام العسكري الجزائري للتحلي بالواقعية السياسة في فهم التطورات الجيو-سياسية في المنطقة، ومدى استعدادهما لاستيعاب منطق التحولات التي تشهدها منطقة المتوسط وشمال إفريقيا”.
أما بخصوص إمكانية مراجعة ماكرون لسياسته في المنطقة، فيرى الخبير في العلاقات الدولية أن “الضغوط السياسية على ماكرون لمراجعة سياساته تجاه المغرب والجزائر لن تحقق أهدافها في ظل التعنت السياسي الذي تتشبث به دائرته السياسية التي لا تريد السماح بتحقيق المزيد من التحولات والتطورات في إفريقيا”.
وختم معتضد بالقول إن “فترة ماكرون الرئاسية تعتبر الأسوأ سياسيا في تاريخ فرنسا الدبلوماسية مع منطقة شمال إفريقيا وغربها، لذلك فتحقيق انفراج في دبلوماسية فرنسا يبقى رهينا بقدرة الفكر السياسي للقادة السياسيين الفرنسيين المتواجدين في الحكم على التصالح مع المتغيرات الاستراتيجية مع حلفائها التقليديين والتاريخيين”.
تقارب لحظي ونموذج مغربي
محمد العوفي، باحث في العلاقات الدولية، قال إن “فرنسا أقرب في علاقاتها الخارجية إلى المغرب مقارنة بالجزائر؛ فعلى المستوى الاستراتيجي، يُفترض بعلاقات باريس مع الرباط أن تكون في وضعية أفضل من نظيرتها مع قصر المرادية، هذه الأخيرة محكومة أساسا بعوامل الاستعمار والذاكرة”.
“العلاقات المغربية الفرنسية هي علاقات عميقة من حيث البنية رغم وجود بعض المتغيرات الظرفية التي تؤدي إلى مناوشات وتوترات، وهو أمر عادي في العلاقات الدولية”، يضيف المتحدث ذاته، مبرزا أن “مجموعة من الأحداث الأخيرة أثرت على السير العادي البنيوي للعلاقات بين باريس والرباط، المرتبطة أساسا بالأزمات الاقتصادية العالمية التي فرضت على الدول الأوروبية التقارب مع الدول النفطية على غرار الجزائر، غير أنه يبقى مجرد تقارب لحظي وليس استراتيجيا”.
كما ساهمت عوامل أخرى في هذا التقارب الجزائري الفرنسي الذي يبدو مهددا في الفترة الأخيرة، ويتعلق الأمر بـ”التحول السياسي على مستوى الداخل الفرنسي منذ مجيء الرئيس ماكرون الذي تزامن مع وصول الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب إلى الحكم”، يوضح العوفي، موردا: “بناء على ذلك، عرفت بنية النظام الغربي تحولات داخلية عميقة نتيجة وصول نخب سياسية إلى الحكم لم يكن يتوقع أحد أن تحكم يوما ما، على غرار ماكرون الذي ساعده ضعف النخب السياسية الفرنسية على الوصول إلى قصر الإليزيه”.
وتابع بأنه “داخل هذا السياق الداخلي الفرنسي الجديد، حدث نوع من التراجع في العلاقات المغربية الفرنسية، لكن هذا لا يعني أن هذه العلاقات لن تعود إلى وضعها الطبيعي، ذلك أن مجموعة من الأحزاب الفرنسية، كحزب الجمهوريين، بدأت في التحرك في اتجاه إعادة بناء تحالف استراتيجي مع المغرب وترميم التصدعات في العلاقات بين البلدين”.
وتعليقا على تفضيل النخب السياسية الفرنسية المغرب على الجزائر، قال العوفي إن “اللاعب السياسي، وكذا الاقتصادي النخبوي في فرنسا، يدرك تماما أن فرنسا لا يمكن أن تستغني سياسيا واقتصاديا عن المغرب الذي أصبح نموذجا فعالا في المنطقة، على غرار الجزائر التي تفتقد مسبقا لفكرة النموذج، كما أن الأوراق البترولية التي لعبتها هذه الدولة لتحقيق منافع سياسية بدأت في السقوط من يديها نتيجة عودة الاستقرار إلى الأسواق الدولية وعودة المشهد السياسي العالمي إلى طبيعته الأصلية، خاصة بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض”.
المصدر: وكالات