أمام سلوك الجزائر المتغطرس في جوارها مع المملكة المغربية والتهديد الواضح الذي يشكله ذلك على أمن بلادنا، تحرص القيادة السياسية المغربية على اعتماد الصبر الاستراتيجي للدفاع عن النفس. وقد يرى البعض أن الصبر والمداولة سلوك سلبي يقوم على الانتظار والاستسلام للقدر، ونعتقد أن الصبر يعني إظهار أقصى درجات ضبط النفس في مواجهة الاستفزازات التي يمارسها الطرف الآخر، مع استثمار الوقت في تغيير المعادلة على الأرض وتعزيزها. نقاط القوة الذاتية. بمعنى آخر، فإن سياسة الصبر الاستراتيجي تعني محاولة تجنب خيار الحرب قدر الإمكان، ولكن دون استبعاد هذا الخيار، وهو ما يعني الاستعداد لها كملجأ أخير وفي إطار ما يعرف بالحرب العادلة وممارسة الحرب. حق الدفاع عن النفس الذي تكفله المواثيق والقوانين والأخلاق الدولية والأديان السماوية.
مفهوم “الصبر الاستراتيجي” واستخداماته في السياسة الدولية
يشير “الصبر الاستراتيجي” في السياسة الخارجية إلى نهج دبلوماسي حيث تمارس الدولة ضبط النفس والمثابرة في التعامل مع التحديات والصراعات الدولية. وهو ينطوي على تقييم المواقف بعناية، وتجنب الإجراءات المتهورة، والحفاظ على منظور طويل الأجل لتحقيق النتائج المرجوة دون التسرع في الاستجابات الفورية أو التصعيد
يمكن للدولة أن تمارس “الصبر الاستراتيجي” في سياستها الخارجية من خلال عدة استراتيجيات رئيسية:
1- التقييم والتحليل: إجراء تقييم شامل للحالات الدولية، بما في ذلك المخاطر والفرص والآثار طويلة الأجل. تحليل النتائج المحتملة للإجراءات المختلفة قبل اتخاذ القرارات.
2- الحوار والدبلوماسية: إعطاء الأولوية للقنوات الدبلوماسية لحل النزاعات ومعالجة القضايا. الانخراط في حوار مع الدول الأخرى لإيجاد أرضية مشتركة والبحث عن حلول سلمية.
3- بناء التحالفات: تعزيز التحالفات مع البلدان ذات التفكير المماثل لدعم الأهداف المشتركة وتقاسم عبء التصدي للتحديات العالمية. التعاون مع الشركاء لتحقيق المصالح المتبادلة.
4- تجنب الأعمال الاستفزازية: الامتناع عن الانخراط في أعمال استفزازية يمكن أن تؤدي إلى تصعيد التوترات أو تؤدي إلى صراعات. ممارسة ضبط النفس والاعتدال في الاستجابة للأحداث الدولية.
5- التخطيط طويل المدى: تطوير استراتيجية متماسكة للسياسة الخارجية طويلة المدى تتوافق مع مصالح الدولة وقيمها. حدد أهدافًا ومعالم واضحة لتوجيه عملية صنع القرار بمرور الوقت.
6- الصبر والمثابرة: الحفاظ على نهج صبور ومستمر في تحقيق أهداف السياسة الخارجية. يجب أن نفهم أن تحقيق نتائج دبلوماسية مهمة قد يتطلب وقتًا وجهدًا متواصلا.
7- القدرة على التكيف : كن مرنًا وقابلا للتكيف استجابةً للظروف المتغيرة مع البقاء ملتزمًا بالأهداف الاستراتيجية طويلة المدى. تعديل الاستراتيجيات حسب الحاجة لمعالجة الديناميكيات الدولية المتطورة.
ومن خلال دمج هذه العناصر في نهج سياستها الخارجية، يمكن للدولة أن تمارس بشكل فعال “الصبر الاستراتيجي” وتتنقل في العلاقات الدولية المعقدة مع التركيز على تحقيق نتائج مستدامة ومفيدة.
يهدف هذا النهج إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية من خلال اتخاذ قرارات محسوبة ومدروسة في مجال العلاقات الدولية. وكان مفهوم “الصبر الاستراتيجي” أول من صاغه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي ذكره في مقدمته لوثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في فبراير 2015، والتي أكد فيها أن “التحديات التي نواجهها تتطلب صبرا ومثابرة استراتيجيين”. كان أوباما يشير إلى مجموعة من التحديات والأهداف الخاصة بالولايات المتحدة كقوة عظمى: الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأمن الطاقة، والمناخ والاحتباس الحراري، والأمن النووي، والأمن السيبراني، والفقر المدقع، والتنمية المستدامة.
استخدمت الولايات المتحدة استراتيجية الصبر الاستراتيجي في تعاملاتها مع كوريا الشمالية، وحافظت على سياسة الاشتباك مع إبقاء خيار العمل العسكري مفتوحا. كما استخدمت الصين هذه الاستراتيجية في تعاملاتها مع تايوان، حيث تنتظر الوقت المناسب لإعادة توحيد الجزيرة مع البر الرئيسي، كما استخدمتها إيران في تدبير ملف برنامجها النووي مع الغرب.
الدبلوماسية المغربية وسياسة الصبر الاستراتيجي مع الجزائر
لقد أثبتت تطورات المواقف والأحداث أن الصراع، في عمقه، هو صراع بين المغرب والجزائر، اللذين اختارا اعتماد خيار معارضة الوحدة الترابية للمغرب أملا في تحقيق مكاسب استراتيجية وأيديولوجية، في إطار التنافس على السيادة والقيادة في منطقة المغرب العربي.
وإذ جددت التأكيد على أنه لا توجد لها مطالب إقليمية في المنطقة، فإنها ستفرض نفسها بشكل غير مباشر عبر جبهة البوليساريو التي ساعدت ليبيا في تأسيسها، والتي ستتحول مع تطورات هذا الملف إلى أداة بيد الجزائر لفرض نفسها كطرف معني بتداعيات القضية، من خلال الإصرار على تعزيز خطاب تقرير المصير للشعب الصحراوي.
لم تقتصر السياسة العدائية للنظام الجزائري تجاه المغرب على جانب واحد، بل شملت جميع جوانب مختلفة. على الرغم من أن الجانب السياسي هو الأبرز، حيث يمس بالدرجة الأولى قضية الصحراء المغربية كأزمة تجاوزت نصف قرن بسبب دعم النظام الجزائري المستمر لجبهة البوليساريو، ودعمه للطرح الانفصالي، على الرغم من المقترحات المغربية الأكثر واقعية، وأبرزها مقترح الحكم الذاتي، وباعتباره أهم وآخر أشكال حق تقرير المصير، المقدم إلى الأمم المتحدة في 11 أبريل 2007 لحل الأزمة، والذي يمنح المغرب بموجبه سكان الأقاليم الجنوبية للمملكة الاستقلال في تدبير شؤونهم في ظل السيادة المغربية، اتخذ العداء الجزائري للمملكة أشكالا أخرى وشمل الجانب الاقتصادي، الجانب الرياضي والدعاية الثقافية، ليذهب أبعد من ذلك بكثير ويصبح المغرب موضوع اتهامات متكررة لا تستند إلى حجة أو أدلة، بدءا من اتهامه بتسليم “المجاهد الجزائري الأمير عبد القادر” إلى السلطات الفرنسية، مرورا باتهامه بدعم الحركات الإسلامية التي تعمل ضد الحكومة الجزائرية في العقد الأخير من القرن الماضي، وتنتهي باتهامه بتهريب المخدرات إلى الجزائر، ودعم حركة “ماك” القبائلية وحركة رشاد وانتهاء باتهام المغرب بمصادرة أملاك (عقارات) البعثة الدبلوماسية الجزائرية دون سند قانوني رغم تأكيد المغرب احترامه القواعد المسطرية المعمول بها في هذا الشأن.
مفهوم الصبر الاستراتيجي في الفكر الاستراتيجي المغربي يعني التعامل مع الأزمات، وعدم التسرع في موقف أيديولوجي قائم على توجه أو قرار مسبق، وبناء القرارات وفق تقديرات المصلحة الوطنية (التي تضع نصب عينيها أساسا البناء الوطني الداخلي)، دون تجاهل مصالح الآخرين أيضا، انطلاقا من الإيمان بأولوية التسوية السلمية، والثقة في القدرة على التحرك التي تقلب المعادلات في الوقت الحرج، وفي حالات سوء الفهم أو سوء التقدير.
وقد اتبعت المملكة المغربية هذا النهج في جميع الأزمات التي مرت منها خلال السنوات الماضية، ومنعتها من الدخول في مواجهات حادة مع خصومها، في كل من الكركرات، والمقاطعة الدبلوماسية الجزائرية، واستفزازات جنوب إفريقيا ومعارضتها للوحدة الترابية، انطلاقا من قناعتها بأن أي تدخل واسع سيكون مكلفا أو “معضلة” عسكرية، وما يمكن تحقيقه من خلال هذه الأداة، الصبر الاستراتيجي كاف لها، ربما يكون هذا التوجه قد حقق نتائج إيجابية أحيانا، لكن وضعه كخيار، بغض النظر عن عمق التحديات، يقلل من أهميته النسبية، ويعطي القوى المعارضة فرصة لتوظيفه بما يتماشى مع أهدافها لإحراج الدولة المغربية. والآن يدرك المغرب أهمية وقيمة الصبر الاستراتيجي في منهجية التعامل التدريجي مع الأزمات في ظل قراءة دقيقة للأوضاع الدولية والإقليمية المزدحمة بالعديد من القضايا المعقدة والمتشابكة. كل ذلك يتطلب إعطاء صانع القرار أوسع مساحة للحركة والمناورة لتحديد نقطة البداية المناسبة للتحرك نحو الهدف المنشود من خلال فهم ودراسة المناخ الإقليمي والعالمي.
وسابقا، شدد وزير الخارجية ناصر بوريطة على مبدأ “الصبر الاستراتيجي”، قائلا إن المغرب قرر عدم الرد على القرارات الأحادية الجانب التي تنتهجها الدبلوماسية الجزائرية منذ فترة.
وقال بوريطة في مقابلة مع “فرانس 24” يوم الأحد 6 يونيو 2022 إن “المغرب قرر عدم الرد على القرارات الأحادية للدبلوماسية الجزائرية”، مؤكدا أنه “توقف عن متابعة تصريحات الدبلوماسية الجزائرية منذ فترة بسبب التناقضات الكثيرة التي يحملها هذا الخطاب”.
وأضاف وزير الخارجية أن توجيهات الملك محمد السادس “تسير في اتجاه عدم التصعيد وحتى عدم التفاعل مع الخطاب الجزائري”.
وأشار إلى أن “المغرب لن يغير الواقع الجغرافي بين البلدين”، لافتا إلى أن “الجزائر قطعت علاقاتها مع المغرب ليس بسبب إسرائيل كما تدعي، بل هناك 6 نقاط شرحت خطوة قطع العلاقات السياسية، ومنها حرب 1963، وقضية الصحراء المغربية”. وأوضح “إذا اتخذت الجزائر أي إجراءات أحادية الجانب في هذا الصدد، فهذا حقها، لكن مواقف المغرب كانت واضحة منذ فترة طويلة، لأنه يبحث عن عوامل الوحدة أكثر من الانقسام”. المغرب يدعم قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن الصحراء وراض عن ذلك، لكن الجزائر هي التي ترفض نتائجه”.
حققت الرباط انتصارا معنويا على الجزائر، وبدا أن الصبر الاستراتيجي الذي يشيع على بعض السياسيين في العالم، بدءا من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، قد يتحول إلى نظرية مستقلة في الأدبيات السياسية للدبلوماسية المغربية عندما تزداد الغيوم على الدولة وتتصاعد أدوات قوتها تدريجيا، ويبدو الوضع المحيط مليئا بالسيولة ومليئا بالتحديات.
يميل المغرب إلى التحفظ بحكم ثقافته الاستراتيجية، ويرفض الدخول في صراعات خارجية لأسباب تتعلق برفض مبدأ التدخل الخارجي في شؤون الدول المستقلة، وينهج سياسة النأي بالنفس عن المشاكل الخارجية خصوصا أزمات الشرق الأوسط، والبحث عن أفضل السبل لتحقيق المصالح الوطنية. ضبط النفس هو خيار عقلاني وواع وحكيم بعيد عن التهور والمقامرة بالقرارات السياسية.
(*) أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي – جامعة محمد الأول بوجدة-
المصدر: وكالات