قدم الوزير السابق لحسن حداد تحليلا نقديا سينمائيا لمسلسل “المغرب: الحب في زمن الحرب”، مساهمة منه في سبر أغوار المخيال الإسباني في علاقته بالمغرب وفهم تمثلاته للإنسان والمجتمع المغربيين.
وأوضح حداد، في مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”الريف”، “أنوال” و”المغرب” في المخيال السينمائي الإسباني”، أن ملخص المسلسل “لا يشير من بعيد ولا من قريب إلى الفترة الاستعمارية ولا إلى معركة “أنوال” ولا إلى الترسبات الجيولوجية الكامنة وراء أي تمثل للعلاقة بين الإسباني والمغربي، والتي تحكمها قرون من الأفكار الجاهزة والتمثلات الإثنية الثابتة”.
واعتبر أن هذه الأمور واردة في المسلسل، وكلما حاول المخرجون إثارتها بنوع من التاريخانية المُلبَسة بلباس الحداثة السياسية كلما ظهرت عن قصد أو غير قصد صعوبة تجاوزها أو تناولها في غياب القوالب الجاهزة حول “العربي” أو “المغربي” أو “المورو” بشكل عام.
وهذا نص المقال:
مساهمة مني في سبر أغوار المخيال الإسباني في علاقته بالمغرب وفهم تمثلاته للإنسان المغربي وللمجتمع والتاريخ والثقافة التي تؤطر الجار الجنوبي “المُقلق والمحَيِّر”، أقدم هذا التحليل النقدي/ السينمائي لمسلسل “المغرب: الحب في زمن الحرب”، الذي تم عرضه ابتداء من يناير 2018 على شبكة الأفلام والمسلسلات عبر الإنترنيت “نيتفليكس”. المقاربة قد تهم المتخصصين في الإنتاج السينمائي الإسباني، خصوصا تيمة العلاقة بالمغرب والمغربي، والمتخصصين في الدراسات الكولونيالية والاستشراقية، والمؤرخين ودارسي الأدب والفن من وجهة نظر “الدراسات الثقافية” و”الدراسات الما بعد الكولونيالية”.
سلسلة “المغرب: الحب في زمن الحرب” عبارة عن قصص ميلودرامية (في أغلبها) حول حرب الريف بعيون ممرضات من طبقة النبلاء والطبقات الميسورة متطوعات في الجيش الإسباني، يسعين لمساعدة الجرحى ويسقطن في شرك الغرام، فيحاولن التوفيق بين نداء الواجب ونبضات القلب في بيئة مختلفة ثقافيا وفي فترة تعيش تحت رحمة وابل من الرصاص والدم والقتل. والنتيجة تجربة تغير نظرتهن للعالم ولأنفسهن، وربما (وهذه أمنية المخرجين المضمرة) حتى للخصم الأبدي، “المورو”، الذي يقض مضاجع المخيال الجماعي الإسباني منذ القرون الوسطى.
المسلسل إسباني الإنتاج (بامبو للإنتاح لصالح أطريسميديا)، أخرجه دايفيد بينيوس ومانويل كوميز بيريرا وإدواردو شابيرو جاكسون، وهو من تشخيص أمايا سالامانكا (التي لعبت دورا ناجحا في مسلسلي “فيلفيت” و”جراند هوتيل” الإسبانيين الموجودين كذلك على شبكة “نيتفليكس”) وخوسي ساكريستان (“فيلفيت” كذلك) ومارسيل بوراس وفيرونيكا سانتشيز وفيسانتي روميرو وأليسيا براتشيرو (مثلت في “سجلات السفارة لنارنيا”).
الملخص الذي وضعته “بيتا فيلم” المتخصصة في توزيع الأفلام حول المسلسل هو كما يلي:
“المغرب: الحب في زمن الحرب، مسلسل مبني على وقائع وأشخاص حقيقيين”. في عشرينيات القرن الماضي أرسلت ملكة إسبانيا مجموعة من النساء ذوات الأصول النبيلة، واللائي تلقين فقط تدريبات خفيفة، إلى المغرب لعلاج جرحى الحرب الإسبانية- المغربية. ولكن خلافا لرفيقاتها (ومنافساتها)، لم تتلق خوليا أي تدريب وهدفها كان هو البحث عن خطيبها وأخيها، وهما جنديان إسبانيان افتُقِدا خلال المعركة. لهذا امتطت خِلسةً السفينة التي كانت تقل الممرضات إلى مليلية لتكتشف كارمين، الممرضة الرئيسة القوية الشخصية، أمرها فيما بعد. الرحلة التي أقبلت عليها خوليا غيرت معنى حياتها إلى الأبد. الاحتكاك بشكل مباشر بمعاناة الجرحى والشروط الصعبة للعمل الطبي في مستشفى ميداني جعلا خوليا وماكدالينا وفيرونيكا يعدن النظر في الأخلاقيات والأولويات التي يؤمنّ بها ويصلن إلى فهم أعمق لمن هن في الحقيقة وما ينتظرنه من الحياة…ومن الحب”.
ملخص “بيتا فيلم” لا يشير من بعيد ولا من قريب إلى الفترة الاستعمارية ولا إلى معركة “أنوال” ولا إلى الترسبات الجيولوجية الكامنة وراء أي تمثل للعلاقة بين الإسباني والمغربي، والتي تحكمها قرون من الأفكار الجاهزة والتمثلات الإثنية الثابتة. وهذه الأمور واردة في المسلسل، وكلما حاول المخرجون إثارتها بنوع من التاريخانية المُلبَسة بلباس الحداثة السياسية كلما ظهرت عن قصد أو غير قصد صعوبة تجاوزها أو تناولها في غياب القوالب الجاهزة حول “العربي” أو “المغربي” أو “المورو” بشكل عام.
أعمق من هذا كذلك، هناك محاولة ذكية لتبرير هزيمة الإسبان في “أنوال” عبر نسج تيمة الخيانة طول زمن السرد الحكائي وكذا تيمة عنف وشراسة وتدني أخلاقيات “الآخر” ووجود صراعات ودسائس داخل المؤسسة العسكرية وبينها وبين السلطة السياسية (ستؤدي تاريخيا وفيما بعد الزمن المتخيل للمسلسل إلى انقلاب برشلونة من طرف الجنرال ميجال بريمو دي ريفييرا في شتنبر 1923، والتي يلمح إليها المسلسل بشيء من النبوءة المترددة).
المسلسل ميلودرامي بكل ما في الكلمة من معنى على مستوى الشخوص، الذين هم إما أخيار أو أشرار، أو على مستوى الحِبكة التي تدور حول العاطفة وما تثيره من بكاء وغراميات وخيبة أمل وتعقيدات سردية حول تنافس الشخوص لنيل غرام محبوب أو محبوبة- الكل في عالم الحرب وفوضى الدم والقتل والدمار.
ولكنه مع ذلك يبقى ملحميا لأنه يتناول بمهنية سينوغرافية مشهودة قصص الممرضات في علاقتهن بالجنود الجرحى والمؤسسة العسكرية والمؤسسة الملكية، في ظل صراع أكبر يمثله من جهة عدو شرس (ابن عبد الكريم والمغاربة عموما) لا يظهر إلا من خلال القصف والدمار والدسيسة، ومن جهة أخرى الإسبان الذين بوطنيتهم وحبهم للملك والملكة المفترضين، ورغم صراعاتهم وضعف إمكانياتهم ووجود الخونة داخلهم، صمدوا في وجه الهزيمة بكرامة وحب ونبذ للأنا.
والبعدان الميلودرامي والملحمي يؤطران توالي الحلقات من بداية المسلسل إلى نهايته. تظهر تيمة الوطنية والتضحية منذ الحلقة الأولى، التي تروي في الشرح المرافق كيف أن “الدوقة (كارمين) تقود مجموعة من النسوة من المجتمع الراقي المدريدي لفتح مستشفى ميداني في مليلية لمساعدة جرحى حرب الريف في ظروف جد صعبة”. ستصير التضحية أكثر درامية وتأثيرا في المشاهد حين ستصبح الدوقة كارمين مصابة بمرض عضال ينهك جسدها، وتحاول (يائسة في بعض الأحيان) إخفاءه لكي تبقى بمليلية لمعالجة المرضى. تضحية خوليا من أجل البحث عن خطيبها وأخيها وسط جبال الريف زمن الحرب والدمار تضحية من نوع آخر من أجل العائلة والوفاء للعهد، وهي تيمات أساسية في النسيج القيمي، الذي يحاول المسلسل تمثله عبر قصص سردية حول “الحب”، حب الحبيب والأخ، وهي قيم عادة ما تكون ملازمة لتيمة حب الوطن في البناء القيمي المحافظ.
وفي وفاء تام للمنطق الميلودرامي نجد مقابل التضحية والوفاء، ومنذ الحلقة الثانية، تيمة الخيانة، خيانة الأمانة، وخيانة قيم التعاضد وقت الشدة، وخيانة الوطن، والتي يجسدها الكوماندانتي سيلفا، الذي أطلق النار على جنوده حين لم يريدوا الاستسلام وتَرْكِ المعركة، ولم يتوان في خنق أحد الجنود الجرحى حتى الموت لكي لا يقول شهادة في حقه، وكان قاب قوسين أو أدنى من أن يتسبب في إعدام شقيق خوليا، بيدرو، وحين انكشف أمره أقدم على الانتحار.
لقد جسَّد سيلفا الشخص الشرير في البناء الميلودرامي، لكنه يبدو محاولة من المخرجين لعدم السقوط في ثنائية الآخر (المغربي)- شر والأنا (الإسباني)- خير وذلك عبر تبني ثنائية الخير والشر داخل فضاء الأنا.
ولكن تيمة الخيانة تصبح أكثر غموضا حين يتعلق الأمر بالآخر، أي الريفيين أو العرب أو المغاربة. هل خان هؤلاء عهدا ما؟ هذه تيمة مضمرة لا نجد لها سردا معينا اللهم بطريقة غير مباشرة في حكاية العرْبي، الذي يمثل الوجه “المشرق” للآخر، لـ”لمورو”. (إحدى النساء من الطبقة العليا صرخت مرة “كيف لهم (أي الريفيين) أن يعملوا كل هذا (أن يهزمونا في أنوال) بعد كل الذي قدمناه لهم؟”، ولكن حلقات المسلسل تبقى صامتة حول هذا الذي قدمته إسبانيا للريفيين وللمغاربة بشكل عام).
العرْبي ليس ريفيا بالمعنى الأمازيغي الدقيق، ولا تتم الإشارة إليه على أنه مغربي (المغرب لا وجود له في القاموس الدلالي للمسلسل)، ولا على أنه “مورو” لأن هذا مصطلح قدحي غير مقبول، ولهذا يبقى العرْبي، وهو اسم فضفاض يوحي بدلالات متعددة حول الآخر في بعده الأنثروبولوجي والتاريخي. وحتى على المستوى السيميائي فالعرْبي يلبس سروالا “قندريسيا” ويتكلم الإسبانية بطلاقة، وعربيته غريبة شيئا ما، وهو بشوش، عطوف وخدوم. إنه الوجه الحسن للآخر: فهو يشتغل دون إثارة أي مشاكل (اللهم حين حاول مساعدة خوليا وماكدالينا فتم طرده من المستشفى، وهو الشيء الذي أشفى غليل الإسبان ممن لا يقبلون التعامل مع الآخر مهما كانت طيبوبته). النظرة بروتوكولونيالية: على الريفيين أن يكونوا مثل العرْبي، أي أن يتعلموا الإسبانية ويقبلوا بعمل منظف في المستشفى ويحمدوا الله عليه، وإن ألحوا على ارتداء السروال “القندريسي” لكي يبقوا على علاقة بثقافتهم المحلية فلا حرج في ذلك.
والعرْبي هو نقيض أخيه الشرير، الذي هاجم خوليا قرب الميناء، ونقيض الريفيين الذين يقاتلون العسكر الإسباني. إنه “المورو” الذي يقبل بالوضع الكولونيالي ويخدمه دون سؤال. فهو وسيم ولطيف وحنون ومغرم بماكدالينا، وهذه كلها مؤهلات تجعله أقرب إلى الإسبان رغم إثنيته الظاهرة، التي تمثلها علامات سيميائية مثل سرواله، وشعره الأسود، وعربيته، وحتى سذاجته الظاهرة في الابتسامة التي لا تفارق وجهه. قد ينتفض لكي يسائل الإسبان هل إثنيته “العربية” هي السبب في إقصائه أو عدم ثقتهم فيه، ولكن هذا لا يرقى إلى مساءلة الوضع السياسي أو علائق السلطة التي تولدها الوضعية الكولونيالية.
قد لا يقبل جزء من المجتمع الإسباني بحب ماكدالينا للعرْبي وفسخها لخطوبتها مع ابن طبقتها الميسور، ولكن هذا لا يعني أن العرْبي لن يتطلع يوما ليصير تقريبا إسبانيا.
لم يسائل المسلسل، رغم محاولاته أن يكون “منصفا سياسيا” (بطريقته) تجاه العرْبي- ابن الإمبراطورية النجيب كما يمكن لإدوارد سعيد أن يسميه- ولو مرة واحدة الوضعية الكولونيالية. بالعكس يبدو الخطابي والريفيون والعرب (وهم أسماء متعددة لشيء واحد حسب المسلسل) كمن يقوض لحظة الرؤية الممكنة لو كان الكل مثل العرْبي: يشتغلون ويحبون ويعرفون مكانهم دون طرح أسئلة تفكك بنيان التراتبية الكولونيالية وتجعل المستعمِر يخاف من المستعمَر. الغضب والحزن وتردي الأوضاع والدم والموت هي نتيجة حتمية لقلب المعادلة التي قام بها الريفيون تحت قيادة ابن عبد الكريم. هذه هي الرسالة المضمرة داخل الحكي وتيماته وسيميائيات الصورة السينمائية.
يحاول الفيلم التوفيق بين “عظمة إسبانيا” المفترضة (وهي تيمة مضمرة كذلك توحي بها هيبة الملك والملكة والتنظيم العسكري والوحدة الوطنية بين النبلاء والطبقات الميسورة والجنود وكذا وجود مجال حيوي اسمه “إفريقيا الإسبانية”) من جهة، وهزيمتها على أيدي ثوار يسكنون الجبال والكهوف ويعيشون حياة شبه بدائية، حسب عدة مقاطع من المسلسل، من جهة أخرى.
العظمة موجودة، ولكن الخيانة من الداخل (من أبناء المتروبول) ومن الخارج (الثوار الذين لا يأخذون القدوة من العرْبي)، وكذا عدم التركيز على قيم عليا مبنية على المحبة والإنسية المشتركة والحب والتضحية، هو ما يضع هذه العظمة في المحك. هزيمة “أنوال” ما هي إلا امتحان لهذه العظمة، وتجند النبلاء والطبقات الميسورة والنساء وعموم الشعب (عبر جنود الصف) من أجل نصرة القضية ما هو إلا أمل بكون الأمور ستعود إلى نصابها طال الزمن أو قصر.
“الحب في زمن الحرب” مسلسل حاول تقويض بعض الصور النمطية حول الآخر، خصوصا “الموروس”؛ كما حاول أن يجعل الطبقات الميسورة تسائل القيم التي بنيت عليها الأدوار الاجتماعية، خصوصا حين تجد نفسها في وضعية صعبة مثل الحرب والدمار؛ وحاول كذلك أن يؤسس لخطاب مثالي قوامه قيم، مثل الحب والصداقة، مستمدة من إنسية تتعدى الحدود الإثنية والثقافية؛ ولكنه بقي وفيا للإيديولوجيا الكولونيالية الإسبانية، المتمثلة في كون الامتداد الجغرافي لإسبانيا ما وراء البحار هو قدَرٌ محتوم واستمرار لعملية استعادة الأندلس واكتشاف العالم الجديد؛ وهذا القدَر هو ما يجعل هزيمة على أيدي ثوار مثلما حصل في “أنوال” ما هي إلا امتحان عسير لعظمة المتروبول في مواجهة أبناء الإمبراطورية غير البررة. ما هو مدهش في هذا المسلسل (وممتع في الآن نفسه) هو أن هذه الإرساليات طفت على السطح، رغم محاولات المخرجين والممثلين إعطاء صورة أكثر إنسية وأكثر تواضعا عن التجربة كمعاناة أشخاص وفئات وطبقات لا غير. سخرية شعرية سينوغرافية تجعل الفيلم ينطق رغما عنه بما يحاول كبْتَه. وكأني به كلما حاول الظهور بمظهر سياسي وأخلاقي واستتيقي مقبول سياسيا كلما دخل مستنقعا من التناقضات تجعله أقرب ممن يحاول إيجاد الأعذار للفعل الكولونيالي والتفسير العقلاني للفاجعة (أنوال)، وهو تفسير مغيب للرد المابعد كولونيالي، الذي تصبح بمقتضاه “أنوال” نصرا مؤسِّسا من وجهة نظر الريفيين والمغاربة أجمعين.
المصدر: وكالات