بعنوان “من أجل تنوير إسلامي”، صدر عن منشورات دار الأمان بالرباط كتاب جديد للمفكر المغربي محمد المصباحي، أحد أبرز أعلام الدرس الفلسفي بالجامعة المغربية.
وفي تقديم للكتاب الجديد عبر “حلقة عابرون” المنظمة ضمن “فعاليات هوامش نقدية”، قال المؤلف إن أسباب “تجديد التنوير الإسلامي” الأساسَ ثلاثةٌ؛ أولها: “الحملة المسعورة للسلفيين القدماء ضد العلم والعلماء، وملاحقة كل فكر منتج وكل إبداع سواء كان علميا أو فلسفيا أو حتى أدبيا ولغويا”، ثم “السلفيات المتشددة في زماننا هذا التي ذهبت أبعد من السلفية القديمة، لكن عدوها صار الحداثة العلمية والسياسية والاجتماعية، فيقفون ضد ما يمكن أن يكون إعادة أو تجديد تجربة الحضارة العربية الإسلامية في الماضي؛ في انفتاحها على النتاج اليوناني العلمي والفلسفي، ويدعون إلى الكفاية بالذات، وأننا لا نحتاج إلى الغير من أجل أن نحقق حضورنا في العالم، وهذا أمر خطير، كان يثيرني باستمرار”.
ثالث دوافع “تجديد التنوير الإسلامي”، وفق المفكر المغربي، “استيلاء إيديولوجية السلفيات المتشددة على قلوب الخاصة والجماهير في العالم الإسلامي، وهذا النفوذ والقدرة على لمس قلوب الجميع، المفكرين والعامة في العالم العربي وتعبئتهم ضد أن يكونوا أبناء زمنهم”، دون أن ينفي هذا “وجود فئة من “السلفية المستنيرة”، في “بلدان المغارب” خلال مرحلة ما قبل الاستقلالات السياسية وبُعُيدها؛ كانت “أداة لإحلال العقل محل الخرافات والأقوال غير العقلية، وإحلال الرغبة في الحرية والاستقلال والتحدي الحضاري لكي نكون في مستوى زمننا هذا”.
وذكر المصباحي أن “القارئ سيلاحظ أن عنوان الكتاب ينطوي على مفارقة كبيرة: كيف يحق لنا الجمع بين التنوير والإسلام؟ والحال أن هناك مبدئيا تقابلا صريحا بين التنوير الذي هو استعمال العقل لتحرير الذات من كل وصاية داخلية وخارجية، والإسلام الذي هو دين قائم على الوحي؛ أي على قيم الطاعة والإجلال والامتثال للأوامر والنواهي. ثم مفارقة أخرى تتعلق بالزمان: فكيف أمكن لي الجمع بين التنوير والإسلام، والإسلام في القرون الوسطى بالترتيب العالمي، والتنوير في زمن الحداثة منذ القرن السابع عشر؟”.
وذكر الكاتب أنه “لحل هاتَين المفارَقتين” كان عليه اللجوء إلى “تعديد دلالة هذين الاسمين: الإسلام والتنوير، والأسماء المتصلة بهما كالعقل والزمان والحداثة”، حيث لم يتكلم في مؤلفه الجديد “عن الإسلام بالمعنى الديني كوحي خالص، وإنما بمعناه الحضاري؛ الوحي المشوب بالعقل بمعانيه الفقهية والكلامية والصوفية والفلسفية”. وتكلم المصباحي “عن ثلاثة أزمنة على الأقل: زمن الحضارة العربية الإسلامية، عندما رفعت مقام العقل إلى أعلى الدرجات، وزمن إذلال العقل وامتحانه ومطاردته من قِبَل غلاة السلفية الحنبلية وغيرها، وزمننا هذا الذي أُلبس فيه الإسلام لباس السياسة والإيديولوجيا”.
وتابع المفكر المغربي مفصلا في المعاني الثلاثة للتنوير: وأولها “التنوير الحداثي، المناهض لكل المؤسسات التي تقيد حرية الفكر وإرادة المواطن”؛ وثانيها “التنوير الذي راجع نفسه في زمن ما بعد الحداثة، والذي من بين ما يسعى إليه عقد تصالح بين العقل والوحي والقوى غير العقلية من خيال وقلب ووجدان وما إلى ذلك”؛ وثالث المعاني الممكنة للتنوير بصيغة الجمع: “تنوير الإسلام المنفتح على العلوم الفلسفية، الذي وفر شروط انتشار محبة العقل وحرية الإبداع”.
ووضح المصباحي أنه يربط اسم التجديد بهذه الدلالة الأخيرة للتنوير، ليقول إنه “في اللقاء الثاني بين الإسلام والفلسفة في الأزمنة الحديثة”، يمكن “تطوير العقلانية الإسلامية، بما يتلاءم مع تطور التنوير ما بعد الحداثي”، ثم استدرك مبينا أنه لا يقصد “تجديد تنوير الإسلام في حد ذاته؛ بل تجديد عقلانيته الحديثة، الناجمة عن تفاعل الإسلام الحضاري مع فلسفات وعلوم الأزمنة الحديثة”.
وحول ما يدعو اليوم إلى “تجديد علاقة التنوير بالإسلام”، عدّد كاتب “تجديد التنوير الإسلامي”: “التصدي للموجات الجديدة لوباء كراهية نور العقل، ظلما وعدوانا، مع انتشار بعض تيارات الإسلام السياسي، التي تجعلنا غير قادرين على عيش زماننا، والخلق العلمي، والتحدي التاريخي، وغير قادرين على الإصلاح الديني الذي يحرر الإسلام، وجماهيره من جموده”.
وتابع: “الإسلام وحده لا يكفي لإنجاز مهام بناء الإنسان الحديث، ولا مفر من الانفتاح على الفلسفة ولواحقها من جديد، كما انفتح الإسلام السابق، لتدشين عقلانية تنويرية تلائم زماننا الحالي”، علما أن “تلك العقلانية دافعت عن حق الإنسان العاقل، في البحث في الطبيعيات والإنسانيات، من أجل تكريس كرامة الإنسان، وتعزيز حريته في الفعل والانفعال، وهو التنوير الخاص بالعقل النظري وشيء من العقل العملي؛ فيتعلق الأمر بما يشبه التنوير لا التنوير ذاته”.
ثم أردف قائلا إن “العقلانية عقلانيات؛ منها ما اقترب كثيرا من تنوير القرن الثامن عشر، وما ابتعد كثيرا أو قليلا عنه، وما يميز عقلانية التنوير أنها نضال ضد المؤسسات والأنظمة التي تفرض الوصاية على الإنسان، ودفاع عن حريته واستقلاله الفكري عن كل المنظومات الدينية المختلفة”.
أما ربط التنوير بالإسلام، فيشير، وفق المصباحي، “إلى ممارسة العقلانية داخل حقل يهيمن عليه الوحي؛ أي الإحالة على الإنتاج العقلي في الحضارة الإسلامية، في مقابل الاتجاه النقلي الذي كانت بعض عناصره تناهض استعمال العقل في الغالب”، وهنا “دلالة التنوير نضالية، ضد الاتجاهات الأصولية التي تقمع الإنسان، وتمنعه من أن يفكر بنفسه، ويمارس الملك الطبيعي والشرعي، بالمعنى الذي اقترحه ابن خلدون”.
وينفي المصباحي إرادة “إسقاط الزمن العتيق على الزمن الحديث أو العكس”، موضحا أن منطلقه “التمييز بين الإسلام بصفته دينا أي إيمانا بالقلب، والإسلام كشريعة حاملة بين طياتها مشروعا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا؛ بحثا عن العدالة والسعادة كما تصورها إنسان ذاك الزمن”.
وينادي أحد أبرز أعلام الدرس الفلسفي بالجامعة المغربية بـ”النظر إلى الإيمان بما هو إيمان، والسياسة بما هي سياسة، لا بما هيَ غيرُها ميتافيزيقا غيبية لا تحتملها لا السياسة ولا العقيدة”، ويدعو إلى “الاهتمام بالوجود السياسي للإنسان أولا، دون أن يعني ذلك إهمالا لوجوده الديني والميتافيزيقي”، من منطلق “أن الإسلام استوعب العقلانية الفلسفية في زمنه الكلاسيكي، فأعتقد أنه بوسعه استيعاب العقلانية الحديثة، وأن يفتح الطريق لتنوير من نوع جديد تفرضه المعطيات الحديثة، سواء بصدد التاريخ أو السياسة أو العلوم أو الفلسفة”.
المصدر: وكالات