لعبت المدارس العلمية العتيقة والكتاتيب القرآنية المنتشرة في مختلف أرجاء المملكة، خاصة بجهة سوس ماسة، أدوارا اجتماعية وثقافية مهمة من خلال نشر المعرفة الدينية ومواجهة الأفكار الدخيلة على المجتمع المغربي، وبالتالي ساهمت هذه المؤسسات الأصيلة في تحفيظ القرآن لأبناء المغاربة وتخريج الآلاف من حفظة كتاب الله والحفاظ على خصوصيات الهوية المغربية المتفردة، فيما تواصل الدولة دعم أدوارها من خلال الاعتمادات المالية التي ترصدها لها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، أو من خلال مجموعة من المواسم والملتقيات التي تحتفي بحملة القرآن، على غرار الملتقى الوطني والدولي السنوي لمؤسسة “تمسولت” الخاصة للتعليم العتيق الذي أقيمت دورته الخامسة أواخر الشهر الماضي بإقليم تارودانت، برعاية ملكية.
وتعكس هذه المواسم الدينية التي تحضرها شخصيات وازنة وعلماء وفقهاء من المغرب وخارجه، إضافة إلى العديد من طلبة المدارس العتيقة بالمملكة، للاحتفاء بحفظة القرآن الكريم وتكريمهم، حرص المجتمع المغربي وعنايته بكلام الله، وحرص عدد من الأسر المغربية على تسجيل أبنائها في المدارس العتيقة والكتاتيب القرآنية لحفظ القرآن ودراسة العلوم الشرعية، وبالتالي ضمان تمسكهم بأصول الدين وتحصينهم من الهزات الاجتماعية والقيمية؛ إذ سبق لمنظمات عالمية أن صنفت المملكة من ضمن أوائل الدول الإسلامية في العالم من حيث حفظة الكتاب.
جذور تاريخية وأعراس للقرآن
قال إبراهيم الطاهيري، باحث في الشأن الديني والتاريخي بسوس، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية: “إن ارتباط المغاربة بحفظ القرآن ليس ارتباطا اعتباطيا، بل إن له ما يؤسسه وبجذور تاريخية متينة، فإذا رجعنا وتفحصنا كتب التاريخ سنجد أن أول مؤسسة للتعليم في المغرب هي مؤسسة المسجد التي لها ارتباط وثيق بتعلم وحفظ القرآن الكريم وضبط قواعده وعلومه”، مسجلا أن “المسجد لا يؤدي أدوارا دينية فقط، وإنما يؤدي أيضا أدوارا اجتماعية وثقافية واقتصادية، على غرار تعليم الناشئة الكتابة والقراءة من خلال القرآن”.
وأوضح المتحدث ذاته أن “المغاربة كانوا دائما ومازالوا مهتمين بتحفيظ القرآن لأبنائهم منذ نعومة أظافرهم، وهذا بطبيعة الحال لا يقتصر على مؤسسة المسجد، وإنما أدى بهم هذا الاهتمام إلى تأسيس مؤسسات علمية كبرى، على غرار المدارس العتيقة التي تتكلف بتعليم الطالب المبادئ والقواعد التي من خلالها يحظى بالفهم والحفظ العميقين للقرآن وتفسيره والإلمام بكل علومه؛ إذ يؤكد التاريخ أن المجتمع المغربي لصيق بكتاب الله”.
وأورد الباحث في الشأن الديني والتاريخي أن “القبائل المغربية كانت تتباهى بحفظ القرآن الكريم، وتنافس بعضها البعض في عدد حفظته، وهذا ما يبين الرفعة التي يحظى بها حافظ القران في المجتمع المغربي”، مشيرا إلى أن “ما يميز المغرب هو تواجد مجموعة من المؤسسات التي لا يقتصر دورها على إلمام الطالب ببعض السور القرآنية وإنما يتعدى ذلك إلى حفظه كاملا، وفهم مُحكمه ومُتشابهه، ورسمه وضبطه، بل وحفظه أيضا من خلال الروايات السبع والروايات العشر”.
ولفت الطاهيري إلى أن “هذا الاهتمام المغربي بكتاب الله يظهر بشكل جلي من خلال تنظيم الكثير من الأنشطة والمواسم الدينية التي ترتبط بالقرآن، وتحتفي بحافظه، على غرار موسم ‘لالة تاعلات’ وموسم ‘تمسولت’ بتارودانت، الذي يُبرز الصورة الرئيسية التي كانت عليها جميع القبائل في المغرب من حيث الاحتفاء بحامل القرآن وخاتمه في شكل عادات عرفية اجتماعية ضاربة في عمق التاريخ، حتى إن بعض القبائل في سوس على سبيل المثال تسمى هذه المواسم عرس القرآن”.
وخلص المتحدث إلى أن “كل هذه الأمور جعلت من المغرب يحتل مراتب متقدمة في مجال العناية بالكتاب، دون أن ننسى اهتمام الدولة من خلال إحداث مجموعة من المسابقات والجوائز التي تحتفي بالحفظة، كجائزة محمد السادس للقرآن الكريم، وجائزة محمد السادس للتجويد، والمسابقات الجهوية الإقليمية التي تُنظم من خلال بعض الجمعيات التي تهسر على تسيير الكثير من المدارس العتيقة بالمملكة، وهو أمر لا يمكن إلا أن يبعث على الفخر”.
انخراط مجتمعي وتشبث بالثوابث
خالد التوزاني، باحث في الشؤون الدينية والأدب المغربي، قال إن “اهتمام المغاربة بالقرآن الكريم يحمل دلالات عميقة ترتبط بخصائص الهوية الدينية، متمثلة في التمسك بأصول الإسلام، وعلى رأسها القرآن والسنة”، مسجلا أن “أغلب مساجد المملكة ومنذ عدة قرون تشتمل على أمكنة لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم، ورغم حداثة المجتمع المغربي اليوم نجد المساجد الجديدة تضم ضمن مرافقها مدرسة قرآنية، وكانت إلى عهد قريب تضم أيضاً الكراسي العلمية، التي تم إحياؤها مؤخراً في عدد من مساجد المملكة، ومنها جامع القرويين بمدينة فاس”.
وأضاف التوزاني: “هكذا لم تكن وظيفة المسجد في المغرب أداء الصلوات فقط، وإنما كانت فضاءً للعلم، وتحفيظ القرآن الكريم. وقد بلغ من عناية المغاربة بالقرآن أن قاموا ببناء مؤسسات تحمل على عاتقها تحفيظه، وتستهدف الأطفال والشباب، حيث تقوم بتوفير كل احتياجاتهم من مأكل وملبس ومبيت، وذلك ضمن نظام داخلي يركز على حفظ القرآن الكريم وإتقان علومه؛ ويتعلق الأمر بالمدارس القرآنية التي انتشرت في كل ربوع المغرب، وخاصة في المناطق النائية والصعبة، البعيدة عن المدن الكبرى”.
وأوضح المصرح لهسبريس أن “المثير للإعجاب أن المدارس العتيقة تقام بتمويل من المجتمع المغربي، بمساعدة المحسنين المحبين لأهل القرآن، وقد كان من ثمراتها تخريج آلاف من طلاب القرآن الكريم الذين شكلوا روافد للتعليم الديني في المغرب من خلال إدماجهم في التعليم الرسمي، وهو ما جعل المملكة، بالإضافة إلى كونها من أوائل الدول التي تضم أكبر عدد من حاملي كتاب الله، من أكثر الدول تصديراً للأئمة والمرشدين الدينيين، خاصة أن النموذج الديني المغربي يقوم على الوسطية والاعتدال والالتزام بالكتاب والسنة، ما جعل المغربي الحامل لكتاب الله مكرّماً من لدن الجميع. كما تدل على هذه المكانة بعض العادات المغربية في الاحتفاء بالأطفال الذين ختموا حفظ القرآن الكريم”.
وسجل الباحث ذاته أن “هذا الأمر ينبغي النظر إليه بوصفه نقطة مضيئة في مسار الناشئة والشباب المغربي، تعكس حرصهم على الثوابت الدينية لبلدهم وتشبعهم بأصول الهوية المغربية في بُعدها الإسلامي والإنساني، ذلك أن حفظ القرآن وتعليمه ينعكس على السلوك بالصلاح والإيجابية، ويبرز الشخصية الروحية المتأصلة لعموم المغاربة، كما يفسر ثبات المغاربة وصمودهم أمام كل التيارات المتطرفة التي تحاول التأثير فيهم من خلال وسائل التواصل المفتوح”.
وشدد المتحدث على ضرورة “الحفاظ على مكانة المغرب في هذه المجالات، وعلى رأسها حفظ القرآن الكريم، بالعمل على دعم المدارس القرآنية، سواء تلك التي توجد في مساجد المملكة أو مدارس التعليم العتيق التي تنتشر في أرجاء الوطن، وذلك بالمزيد من العناية بهذه المؤسسات، لأنها ركيزة الهوية المغربية، ورافد من روافد أصالته وأمنه الروحي”، خاتما: “كما يمكن استثمار هذه المكانة المرموقة في تنشيط السياحة الدينية والروحية للمغرب بإحياء الدور الاجتماعي والاقتصادي لكثير من المعالم الدينية، وعلى رأسها مدارس التعليم العتيق في المناطق النائية، وبعض الزوايا الصوفية والمنشآت الدينية والتعليمية في كثير من المدن المغربية”.
المصدر: وكالات