“ذلك الإنسان الذي صانت بقاياه تربة جبل إيغود كان البذرة الأولى لهذا الكائن القاطن بشمال غرب إفريقيا، ثم حصلت تحولات بطيئة في زمن شبه راكد حولته إلى فاعل أكثر في المجال، وتحول خلال العصر القديم إلى ذات ليست فقط فاعلة، بل متفاعلة أيضا مع حضارات طارئة (كستها ثيابا متنوعة) منحتها أولى خصائص التميز عن الجوار. صحيح أنه لم يكن يَعرف نفسه أنه مغربي أو يُعرّف نفسه بالمغربي، وأن بناءه الذهني كان خاليا من أي بحث عن انتماء أو هويّة بمعانيها المعاصرة (…)، لكن بالقدر الذي كانت تركيبة دماغه تتحول تدريجيا عبر آلاف السنين لتستقر على ما هي عليه اليوم، كان بناؤه الذهني والنفسي يتشكل في تفاعل مستمر مع المحلي والطارئ معا لنحت معالم شخصية إنسان مغرب اليوم”.
جاء هذا في أحدث منشورات المؤرخ الطيب بياض، الصادر عن منشورات “باب الحكمة” بعنوان “الشخصية المغربية تأصيل وتأويل”، وهو كتاب يروم التقعيد لشخصية المغربِ مع “الحرص على بناء معرفة تاريخية تتمتع بقدر محترم من المصداقية تضمن لنفسها أمد حياة أطول، وهي تطمح إلى رصد العصارة الذهنية لتجربة إنسانية عاشها من عمّر هذا الحيّز المجالي الواقع في شمال غرب إفريقيا طيلة قرون مديدة، تفاعل عبر الدهور والعصور، ثم ألفى نفسه يلقّب بالمغربي”.
هذا الإنسان المسمّى مغربيا اليوم، يسعى الباحث إلى فهمه منذ النواة المكتشفة أركيولوجيا، أقدم إنسان عاقل يعود إلى ثلاثمائة سنة بجبل إيغود، مرورا بآلاف السنين من “طبقات تاريخ شبه راكد” و”ترسبات حضارية” ثم إرهاصات وعي وطني أو تشكّل “وطنية مغربية”.
لكن ما يستشفّه قارئ الكتاب، الذي كان درسا افتتاحيا، أن سعي المؤرخ بياض ليس مجرّد مغازلةِ شعور وطنيّ أو مجرّد تأصيل لمشاعر قومية، بل فهم عوائق الذات وما يميّزها من أجل تحقيق طفرة حضارية مثلما تحقّقت للصينيين من قبل، الذين زار بلادهم، وكتب كتابا عن صدمته الحضارية بها، التي أدرك أن سندها “رصيد حضاري كبير جدا، واستثمار ذكي للتراث والتاريخ والحضارة”.
ولا يقتصر درس بياض على الماضي فقط، بل يقف عند التاريخ الراهن لمدة معتبرة من درسه، وعند محطات قريبة مثل تحكيم “مدونة الأسرة” سنة 2004، وصياغة “النموذج التنموي الجديد” قبل ثلاث سنوات، للتأكيد على منهج يجمع آراء المغاربة ويستطيع تدبير اختلافهم، وهو ما تحقّق بتراكم ممتدّ ولو استُصغرت نتائجه: “اجتهادات الذات ولو ظهرت نتائجها طفيفة في حينها، فإنهّا مؤسِّسة بنيويا إن حسمت التردد ورسخت ثقافة الثقة في النفس، والعلاجات الإصلاحية المستوردة قد تدهش بلغة الأرقام والمعطيات النوعية ونوعية الشعارات ظرفيا، لكنها عمليا تسمم ولا تبلسم”.
ويتجاوز بياض تحقيب دانييل ريفي، الذي يرى “البداية” مع المولى إدريس، وهو تجاوز يسعى إليه المؤرخ “دون تعسف إبستمولوجي” لأن في القراءة السابقة خللا إبستمولوجيا هو قفز على طبقات تاريخ بطيء آخر، فـ”الهابيتوس المغربي”، الذي يحاكي ما أسماه عبد الله العروي النفسانية المغربية، مكوّن من “آلاف الطوابق من التاريخ والتشظيات في عمق ممتد لآلاف السنين” داخل تخوم فضاء جغرافي يشبه محطة نهاية السير بالنسبة للقادم من الشرق إلى الغرب، دون أن يكون مجرد محطة عبور، بل هو “نهاية المسير”، مما أتاح “تفاعل ذرات وجزيئات مختلفِ الترسبات الحضارية ببطء”.
وبناء على توليف بين النص التاريخ والاكتشاف الأثري الأركيولوجي، يتحدث الباحث عن إنسان كان يدبر حياته ماديا وروحيا، وأجرى قبل 12 ألف سنة قبل الميلاد أول عملية جراحية في المغرب، مع رصيد حضاري فيه اجتهادات وابتكارات حسب المتاح، مع اختراع لما يؤمّن ذاته ويطور السيرورة.
ويواصل بياض متحدّثا عن المرحلة المورية وما عرفته من مفاوضة الذات لوضعياتها في مجال متوسطي محكوم بتنازع قوتين كبيرتين هما روما وقرطاج، والتأثير البونيقي والروماني، وفرض واقع استعماري (روماني) جديد، ثم مرحلة قدوم الإسلام وكيف سيكون التفاعل معه ومع الرصيد السابق؛ فمثلا “دانييل ريفي يعتبر أن المسيحية في شمال إفريقيا مهدت لاعتناق الإسلام، وينبه إلى تكييف الإسلام الأصلي مع الظروف المحلية، وقبول الديانة دون قبول (الساكنة) بأن يصبحوا عبيدا مملوكين لمن أتى بها”، كما يعتبر العروي مرحلة القرن الثامن الميلادي انتشارا للدعوة الخارجة في ربوع البلاد، التي قرأها خروجا من التبعية وأخذا بزمام المبادرة.
وينبّه الكتاب إلى وجود تمايزات بين المغرب الأقصى والمشرق، بين أمير المؤمنين وأمير المسلمين فيما تشهد عليه نصوص منها “نص في غاية الأهمية” في “الاستقصا” للناصري حول صلاح الدين الأيوبي ويعقوب المنصور الموحدي، مع استحضار خلاصات حول كيف تخلق الحدود والمجال تميزا لهوية خاصة ضمن المشترك الكبير، كما بيّن ذلك، انطلاقا من النموذج الأمريكي، عملٌ لفريديريك جاكسون تورنر.
ومن بين ما ينبّه إليه الكتاب أيضا أنه “في بناء الشخصية المغربية” عندما كانت تنهار شوكة قبيلة تحكم في المغرب، لم تكن الدولة تنهار، بل “تنتقل الزعامة من قبيلة إلى أخرى، بل قد تتقوى أكثر مثل عهد الموحدين”، وهذا الكيان كان عليه “الدفاع عن دار الإسلام في الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط”.
وحتى عندما وقع الضعف في العهد الوطاسي، ونتج عنه الهجوم الشرس للإيبيريين، “بقي الإيبيريون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في السواحل المغربية، أما في أمريكا اللاتينية فأبادوا شعوبا بكاملها”، وهو “ما لم يحدث رحمة بنا، بل لأن هنا شيئا خاصا”.
ويذكّر بياض بربط العروي تشكل الإرهاصات الأولى للوطنية المغربية بالمخزن، والعلماء الموالين له، وبقوالب تعبيرية مستعملة من طرف هذه الفئة، علما أن وعاء المخزن بدوره تشكل في بناء صيروري لإمارة المؤمنين، والإمامة، والخلافة، ومفهوم الشرف.
ويذكّر أيضا بتوضيح إبراهيم بوطالب بأن الشخصية المغربية متكونة في أرض واسعة قابلة للتنقل، يحدث فيها التحرك بالسليقة إذا ما ضاقت منطقة من المناطق على قاطنها؛ ولذا يقول بياض: “ابن بطوطة مغربي، والأزموري، وأبو القاسم الحجري الذي علّم المستشرقين الهولنديين اللغة العربية بلايدن”، وهذا التنقل “بوتقة الانصهار والاحتكاك ونقل كل التعبيرات الثقافية من منطقة إلى أخرى”.
ومن المراحل المهمة التي عرفتها هذه الشخصية المغربية التدخل الأجنبي لمّا “صار الكفار بجوارنا، لا في الضفة الشمالية فقط” عندما احتلّوا الجوار، وهو ما نتجت عنه ثنائيات مستمرة إلى اليوم، ويستمرّ انقسام أهل الحل والعقد حولها: “التقليد والحداثة”، “الشرعي والوضعي”، ثم “الكوني والمحلي”، وكيفية تكييف تراثك مع المواثيق الدولية.
كما يهتم بياض بجانب “السلبيات” فيما وصفه العروي بالنفسانية المغربية، من تحاش للحسم، وتسويف، وتمثّل بطيء للزمن، ويقول: “نستحضر تحليل أحمد المعتصم لمستويات التجاوز بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط حيث توقف عند تفوق ثلاثي في الشمال، رصده مجاليا ومؤسساتيا وتنظيميا، بينما فسر ضعف الجنوب بما أسماه ثلاثية ندوب الاستعمار وهوة الانحطاط ومهانة الهزيمة. نثمن هذا الرصد التحليلي، ونضيف له مسألة نحسبها في غاية الأهمية مرتبطة بذهنية أهل الجنوب المتوسطي عموما، ويهمنا داخلهم الإنسان المغربي”.
ويتابع “لن نحتاج إلى دليل أو مؤشر على قيمة الزمن عند الآخر، لكن نسأل عن قيمته لدى الذات، ونقرأ الجواب في تحليلنا لعبارات كثيرة من خطابنا اليومي من قبيل: لا زربة على صلاح.. اللي زربو ماتو.. رخاها الله.. اللي بغا يربح العام طويل… ونفحص أثر ذلك على دورتنا الإنتاجية العامة، لندرس حجم الهدر المسجل في زمننا التعليمي وفي زمننا الإداري قبل زمننا الاقتصادي، فندرك أن ما صار اليوم من أعز ما يُطلب عند الآخر أضحى لدى الذات من أعز ما يُصلب”.
ويقف بياض عند أمثلة لما صار إليه “الهابيتوس المغربي”؛ “شخصية هادئة تستمد ثقتها في ذاتها وقدراتها من ثقل رصيدها التاريخي والحضاري، فتسالم وتهادن، ولكن في أزمنة الأزمة أو التطاول تعرف كيف تستلهم من هذا الرصيد أجوبة فاعلة بدل ردود فعل منفعلة”.
وقدم أمثلة ثلاثة، هي: “المسيرة الخضراء كإبداع ذاتي برمزية الإجماع لقطع دابر التطاول على السيادة”، و”هيئة الإنصاف والمصالحة باعتبارها ابتكارا مغربيا خالصا لنموذج في العدالة الانتقالية في ظل الاستمرارية، واجتهادا ذاتيا لفك كومة التعقيد التي لفت أزمة حقوقية، وتعبيرا عن وصل متصل، ولو عبر خيوط رفيعة، بين عناصر النسيج المكون للشخصية المغربية مهما بلغت درجة تنافرها”، ثم “التدبير الذاتي لزلزال الحوز، حيث ردَّتِ الذات المغربية بالفعل الجماعي الهادئ والمنتج ودون انفعال ولا تشنج على ذلك السؤال المستفز: هل يستطيعون من دوننا؟ أو هل يستطيعون بالاعتماد على قدراتهم الذاتية فقط؟”.
المصدر: وكالات