ظهرت باميلا أندرسون على غلاف مجلة “بلاي بوي” أول مرة في شهر أكتوبر 1989 وفي الشهر الموالي سقط جدار برلين، بعدها تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991 وتغير العالم، التبس اليمين واليسار. فقد الروس إمبراطوريتهم ومجد أيديولوجيتهم الحمراء. فما الذي ملأ الفراغ الذي خلفه سقوط قطبية الشيوعية والليبرالية؟ الاشتراكية والرأسمالية؟
كانت باميلا شابة تكره أن تكون غير مرئية، وقد جاءتها الفرصة على غلاف مجلة وفي مسلسل مدوٍّ مؤسس للنوع. كانت الصور الإيروتيكية هي أقصر طريقة ليكون الفرد مرئيا. كانت باميلا تستعرض صدرها وتقبل عشاقها وترقص مع معجبيها عارية تقريبا على شاطئ أمريكا على المحيط الهادي. وهذا حلم الشباب.
لقد انتهت الحرب الباردة وحلت محلها الصور الساخنة، نزلت مرتبة الأيديولوجيا وارتفعت منزلة الجسد في الهم الثقافي. الجسد يُرى ويلمس وله سلطة، لا يحتاج جهد الفكر، بل لذة الغريزة. ظهرت باميلا بملابس البحر في مسلسل baywatch Alerte à Malibu “باي واتش.. أليرت أماليبو (1989- 2001/ 248 حلقة)، المسلسل الأكثر شهرة الذي سحر الشبيبة. وقد بث حتى في الصين الشيوعية التي تزحزحت لترحب برأس المال العالمي.
في هذا السياق صارت الفتاة اللعوب، التي لا تملك أي رأسمال ثقافي أو فني أو سياسي، أشهر من تشي غيفارا. صارت مشهورة بجسدها.
كان هذا تاريخ تحول ثقافي شهد ميلاد عالم جديد سيكرهه الرفاق والمثقفون التقليديون والفقهاء وهم يشاهدون تحولات مهولة. وقد عبر المثقفون العرب عن غضبهم من سطوة الجسد كما يكشف أرشيف جرائد المرحلة خوفا من القبل في المسلسلات المكسيكية مثل “أنت أو لا أحد”، ثم التركية “نور ومهند” (تأسست قناة MBC في 1991).
في هذا السياق الذي تلا سقوط جدار برلين، انتصرت رأسمالية السوق التي لا مشروع لديها غير الربح، وأعلن فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ. انتصار غَيّر موقع الأشياء وزاوية النظر إليها. كتب الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري محددا التغييرات الحاصلة في السلطة الفكرية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين: “حدث نوع من الانهيار لما كان من استقلال في الجهاز الجامعي، تمركز في الوسائل الإعلامية، انحطاط فيما هو سياسي، تدني الدولة أمام السوق والذاكرة الوطنية أمام الذاكرة المسماة “عالمية”، وهي ذاكرة أمريكية بشكل واسع”.
ذاكرة بصرية ثقيلة تحتل فيها مجلة “بلاي بوي” ووجبات ماكدونالد ومسلسل “باي واتش.. أليرت أماليبو” موقعا مركزيا.
في هذه الذاكرة المصورة الحية التي تكتسح العالم، لم تعد الأيديولوجيات تحتل الواجهة، لم يعد وصف الرفيق مفخرة. تراجعت الأيديولوجيات وخلفت خواء يملؤه الشكل. شكل صار بقيمة المحتوى المفقود. سيخجل المثقف العضوي من الكتابة عن هذه الذاكرة، لكن لا يمكنني تجاهل الظاهرة وقد عشتها في شبابي.
لم يعد مثقف المرحلة عضويا مرتبطا بقضايا وهموم شعبه. صار يكره التطوع ويساند تمويل الشركات للجامعات، صار متحفظا يذود عن هوية وذاكرة محلية قبلية أو عرقية أو دينية تحرّم مشاهدة المسلسلات بسبب اللقطات المحرمة أو تشترط غض البصر عنها. من هنا سينمو قلق ما سماه صمويل هنتنغتون “صدام الحضارات” 1996.
ما صلة باميلا بهذا؟
كانت باميلا مرئية على تلفزيونات العالم: تسبح، تجري، تستلقي عارية… ظهرت في أروقة مهرجان “كان” بدون فيلم. كانت بديلا غير “مؤدلج” هيمن على الإعلام العمومي. كانت تحتل التلفزيون الذي ينشر ثقافة شعبية جديدة وينافس الواقع. كتب بيير بورديو “إن التلفزيون الذي يسعى لأن يكون أداة لتسجيل الأحداث يُصبح أداة لخلق الواقع” (في التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول ص 54).
كانت باميلا نجمة النجمات تلتقط لها صور بفم مفتوح متعطش مثل لوحات وتماثيل نشوة قديسة العشق الإلهي تيريز دافيلا (1515-1582م). كانت باميلا تعتبر تحريك جسدها موهبة، في سباق الجمال الطبيعي والموهبة الفنية، انتصر الصدر الكبير على النقاشات الثقافية.
ومع الصور التي تركز على الصدر النافر في الفيلم الوثائقي نسمع مونولوغا طويلا من التبريرات، تحدثت باميلا عن شقاء طفولة كندية على جزيرة، تقول إن الكلمات تساعدها على تحمل سخافة الحياة.
تقول باميلا إنها بدأت خجولة وهي تجري جلسات التصوير. مع الزمن والمال سهل عليها الوقوف عارية أمام الكاميرا. وهكذا انفتح لها عالم الشهرة والمال والسعادة… النجاح بعرض الجسد أربع عشرة مرة على غلاف مجلة “بلاي بوي”. وقد رجاها صحافي حكيم: “هل يمكن أن تحدثينا عن ثدييك؟”
بعد مارلين مونرو تعود “نيتفليكس” بوثائقي حول نجمة الخمس الأخير من القرن العشرين.
موضوع السيناريو؟ أمطار من الصّور لأجساد فاتنة على الشاطئ. تم تجاوز كل الخطوط الحمر لعرض الأجساد. هذا هو موضوع الفيلم ببساطة ووضوح فادح. لدى ممثلة طارئة تفخر “أنها ليست عارية طالما أنها ترتدي حذاءها”.
هذا عرض عن تفاهة مريعة غيرت العالم. يحتل الجسد الصدارة، تعرض الأنثى نفسها كنجمة، وتتصرف على هذا الأساس في طريقة لباسها وسيرها… الصورة المثيرة… ترتدي الأحمر وتجلس على ركبتيها وتعرض فخذين رخاميين بيضاوين منفرجين وابتسامة جانبية أشبه بنداء، الأحمر نداء شهوة، إذ يتحدث بيير بورديو عن الاستعراض المضبوط للجسد الأنثوي كدليل على “التحرُّر”، استعراض يبرز جسدا جاهزا للفتنة والإغواء ليستجيب للتوقعات الذكورية.
في هذا السياق، ما عاد للمتلقي وقتٌ للتأمل والبحث، توقفت الندوات الأدبية والفكرية التي كانت تستقطب الجمهور، صار المتلقي يبحث عن وجبة صور (فاست فود)، عن استعراض صور تلهب الأحاسيس. لقد صعد الجسد الساحة الأيديولوجية. الجسد أيديولوجية خفية تصعب مقاومتها. يتكرر هذا الاستعراض حاليا على البساط الأحمر في افتتاح المهرجانات السينمائية.
بعد أغلفة مجلة “بلاي بوي”، وبعد انطفاء جسد الإغراء حان وقت للحكمة. ساء الأمر حين ظهرت الأنترنيت ونشرت صور باميلا. شعرت أنها مجرد “قطعت لحم”. هذه هي أيديولوجية الجسد مصورة.
اتضح أن نشر الصور الذي كان إنجازا صار فضيحة تفترس صاحبته وأطفالها في المدرسة. لتحسن باميلا سمعتها صارت مناضلة من أجل حقوق الحيوانات.
المصدر: وكالات