قال الدكتور إدريس الكنبوري إن عقوبة الإعدام مثار جدل ونقاش فقهي وسياسي وفلسفي في العالم كله، وليس في المغرب فحسب، وهو نقاش مرتبط بمفهوم العدالة، مشيرا إلى ارتكاز مناهضي عقوبة الإعدام على مبدأ “الحق في الحياة” وهو مبدأ يتسم بكثير من الغموض والتحيز.
وأبرز الباحث في الفكر الإسلامي والجماعات الدينية، ضمن مقال توصلت به هسبريس ردا على النقيب عبد الرحيم الجامعي، أن الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام في حق القاتل بدعوى حقه في الحياة، هي دعوة تناهض حق الضحية في الإنصاف وحق ذويه في الكرامة.
واعتبر المصدر ذاته تصريح النقيب الجامعي بشأن مناقشة بعض الجهات عقوبة الإعدام وفق النص القرآني والرغبة في تنزيل النص الدستوري “الحق في الحياة”، فصلا تعسفيا بين النص القرآني وبين الدستور ومبدأ الحق في الحياة، وذلك على اعتبار أن النص القرآني يقول: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، وهو نص ربط بين عقوبة الإعدام وبين الحق في الحياة.
نص المقال:
ما تزال عقوبة الإعدام في المغرب تثير جدلا واسعا بين الحين والآخر من لدن بعض الجمعيات الحقوقية التي تطالب بإلغائها من نص القانون الجنائي، وبالرغم من أن جمعيات حقوقية عدة تتبنى هذا المطلب، إلا أن هناك مفارقة تتمثل في كون الرأي العام المغربي يطالب بتنفيذها، وليس فقط بمجرد الإبقاء عليها في القانون الجنائي، وذلك كلما حصلت جريمة قتل، خصوصا تلك الجرائم البشعة التي يتم فيها اغتصاب وقتل الأطفال، حيث يتظاهر المواطنون منادين بتطبيق عقوبة الإعدام في حق الجاني.
وقد أنشئ في المغرب ائتلاف وطني للمطالبة بإلغاء هذه العقوبة، هو “الائتلاف الوطني لمناهضة عقوبة الإعدام”، الذي يعمل النقيب عبد الرحيم الجامعي منسقا له، وهو من دعاة إلغاء العقوبة. وقد اطلعت مؤخرا على حوار معه نشر في جريدة هسبريس الإلكترونية تحت عنوان “القانون يعاقب ولا يقتل.. وتطبيق الإعدام لا يحد من تفشي الجريمة”، ومما ورد في كلامه قوله: “من يناقش عقوبة الإعدام وفق النص القرآني فله ذلك، ولكن نحن نريد أن ننزل النص الدستوري، وهو الحق في الحياة”.
ونود أن نشير بداية إلى أن عقوبة الإعدام مثار جدل ونقاش فقهي وسياسي وفلسفي في العالم كله، وليس في المغرب فحسب، وهو نقاش مرتبط بمفهوم العدالة وما إن كان هذا المفهوم يأخذ في الاعتبار حقوق طرفي الجريمة، الجاني والضحية، أم إنه مفهوم متحيز إلى طرف واحد دون الطرف الثاني. غير أن هذا النقاش لا يظهر فيه التيار المطالب بتنفيذ عقوبة الإعدام بشكل كاف، مقارنة بالتيار المناهض للعقوبة، لكون المنظمات الدولية ومنظمة الأمم المتحدة تتبنى مبدأ إلغاء عقوبة الإعدام في العالم، وتدعم الجمعيات الحقوقية التي تنادي بهذا المبدأ، لذلك تسلط الأضواء أكثر على هذه الجمعيات التي تدور في محور الفلسفة الحقوقية الغربية، أي تبني مبادئها وأفكارها من دون أخذ خصوصيات البلد وثقافته وأوضاعه بعين الاعتبار.
يرتكز مناهضو عقوبة الإعدام على مبدأ “الحق في الحياة”، ولكن هذا المبدأ يتسم بكثير من الغموض والتحيز، ذلك أن الحق في الحياة لا يناقض الحق في الكرامة والإنصاف، والدعوة إلى إلغاء الإعدام في حق القاتل بدعوى حقه في الحياة هي دعوة تناهض حق الضحية في الإنصاف وحق ذويه في الكرامة. فمناهضو عقوبة الإعدام يقفون في الواقع إلى جانب المجرم، فهم يطالبون بحقه في الحياة لكن ليس لديهم اقتراح مناسب لإنصاف الضحية وذويها، وبالتالي يغلبون حقوق الجاني على حقوق الضحية وعائلته.
ثم إن مطلب إلغاء عقوبة الإعدام ينطلق من وضع تسوية بين مختلف الجرائم على المستوى نفسه، فيسوي بين جريمة القتل وأي جريمة أخرى، مع أن جريمة القتل تختلف عن جميع الجرائم لأنها تمس حق الإنسان في الحياة وتسلبه هذا الحق وتدمر أسرة بكاملها، وهي جريمة لا تشبه أي جريمة أخرى لأبعادها النفسية والاجتماعية والعاطفية، ذلك أن جريمة القتل تبقى ذكرى حية في نفوس أهل الضحية وأبنائه طيلة حياتهم، وقد تتسبب لهم في أمراض مزمنة نفسية أو عضوية تعوقهم عن العيش الطبيعي، وتدمر مستقبلهم، وقد تدفعهم إلى الرحيل نهائيا عن البلد الذي جرت فيه الجريمة هروبا من الماضي، وتزداد شدة وقع الجريمة على النفوس إذا حصل المجرم على تخفيف العقوبة أو استفاد من عفو وعاد إلى حياته الطبيعية أمام أنظار أهل الضحية وأبنائه، فيصبح الظلم مزدوجا، ظلم القاتل وظلم القانون.
يزعم مناهضو عقوبة الإعدام أنها عقوبة قاسية، ويطالبون بتعويضها بالسجن مدى الحياة، وبعضهم يطالب بتعويضها بالسجن مدى الحياة مع الأعمال الشاقة، وهذا زعم غير صحيح. إن مناهضي الإعدام ينطلقون من البعد “الإنساني”، ولكن لو تأملنا الأمر من الزاوية الإنسانية لوجدنا أن عقوبة السجن مدى الحياة هي أقسى عقوبة مقارنة بعقوبة الإعدام، فالسجن المؤبد فيه من أصناف التعذيب النفسي والجسدي ما لا يوجد في عقوبة الإعدام، لأن السجين ينام ويصحو يوميا بدون أمل في الحرية، فهو ميت حي، لا يصنع شيئا داخل السجن سوى انتظار ملاك الموت، ويشعر بفقدان أسرته وأبنائه وبأنه لن يتمتع بصحبتهم يوما، وقد يتنكر له أقاربه وييأسون منه فيتخلون عنه، مما يزيد في معاناته الدائمة، وغالبا ما يصاب بأمراض نفسية خطيرة.
وقبل سنوات صدر تقرير في فرنسا مثلا يطالب فيه المحكومون بالسجن المؤبد وعائلاتهم بتنفيذ عقوبة الإعدام في حقهم، بدلا من أن يموتوا كل يوم، وهو وضع يشبه النقاش الدائر حول مسمى “القتل الرحيم” بالنسبة للمرضى الميؤوس من شفائهم.
وفي فرنسا نفسها هناك مطالب كل سنة بإرجاع عقوبة الإعدام التي ألغتها الحكومة الفرنسية في عهد الاشتراكيين في الثمانينات، وذكر استطلاع للرأي أجرته يومية “لوموند” الفرنسية العام الماضي بشراكة مع مؤسسة لسبر الرأي، أن نسبة المطالبين بإعادة عقوبة الإعدام تتزايد كل سنة، باستثناء استطلاع أجري عام 2019 كان مناهضو العقوبة ومؤيدوها متساوين في النسبة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية هناك 26 ولاية تطبق عقوبة الإعدام.
أما قول الأستاذ الجامعي بأن عقوبة الإعدام لا تقضي على الجريمة، فهذا مردود بكون المغرب لم ينفذ العقوبة منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، أي منذ أزيد من ثلاثين سنة. فنحن ليست لدينا حالات ملموسة للدراسة حتى نتبين إن كانت العقوبة تقضي على الجريمة أم لا، لأن العقوبة غير مطبقة، لذلك لا يمكن أن نعطي خلاصات في غير محلها. غير أن الحقيقة هي أن عقوبة الإعدام إن كانت لا تقضي على الجريمة نهائيا، لأن القضاء على الجريمة بشكل تام في جميع المجتمعات من المستحيلات، إلا أنها وسيلة بالغة للردع والحد من الجريمة، فالقاتل الذي يضع نصب عينيه عقوبة القتل ليس هو القاتل الذي يعرف أن ما ينتظره هو الطعام والشراب والفراش في السجن، فإذا أضيف إلى هذا أمله في حصوله على العفو أو تنزيل العقوبة من المؤبد إلى السجن محدد المدة، زالت من أمامه المحاذير التي تحول دون تنفيذ جريمته.
وقد ذكر الأستاذ الجامعي أن “من يناقش عقوبة الإعدام وفق النص القرآني فله ذلك، ولكن نحن نريد أن ننزل النص الدستوري، وهو الحق في الحياة”، وهذا فصل تعسفي بين النص القرآني وبين الدستور ومبدأ الحق في الحياة. فالنص القرآني يقول: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، وهو نص ربط بين عقوبة الإعدام وبين الحق في الحياة، وما ذكر الله سبحانه هذه الآية إلا لأنه يعلم خفايا الحياة البشرية وأن جريمة القتل لا ينفع فيها غير عقوبة من جنسها، مع أنه سبحانه قدس النفس البشرية وحرم قتلها بقوله: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق”، فكيف يؤكد على حرمة النفس البشرية وفي الوقت نفسه ينص على قتل القاتل إلا إذا كان يعلم أن القتل لا ينفع معه غير القتل؟ أليس هذا تأكيدا على “الحق في الحياة”؟
وتشير الآية إلى أن القصاص فيه حياة، أي إن عقوبة الإعدام وسيلة رادعة للحفاظ على نفوس أخرى ومنع آخرين من الإقدام على الجريمة طالما يعرفون أن مصيرهم القتل، وبهذا الإجراء القانوني حد الإسلام من جريمة القتل.
وطالما نحن ننطلق من البعد الإنساني، كما ينطلق مناهضو عقوبة الإعدام، مع الاختلاف في الرؤية والنتائج، فإننا نؤكد أن الإسلام هو التشريع الوحيد في العالم الذي وضع إطارا قانونيا وفلسفيا لعقوبة الإعدام، يأخذ في الاعتبار طرفي الجريمة معا، القاتل والضحية. فقد نص القرآن على عقوبة الإعدام كقاعدة مطلقة، لكنه وضع بجانب القاعدة استثناء، ثم ركز على الاستثناء لا على القاعدة، فقال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان”، فقد نص هنا على القصاص، ثم جعل العفو استثناء من القصاص، يؤدي أهل القتيل الدية لأهل الضحية مقابل العفو، مصداقا لقوله تعالى: “وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم”، فهذه صيغة وسطى خلافا لجميع القوانين العالمية، لأن هذه القوانين تأخذ بواحد من إجراءين، إما تنفيذ عقوبة الإعدام مع تفويت فرصة حصول القاتل على العفو من ذوي الضحية والتمتع بـ”الحق في الحياة”، أو إلغاء عقوبة الإعدام مع الإضرار بحقوق الضحية وذويها وعدم إنصافهم.
ونجد هذا البعد الإنساني حاضرا في القرآن من خلال إشراك ذوي الضحية في العقوبة، ردا للاعتبار وتكريما لهم وتخفيفا عنهم، وهو منتهى العدالة والإنصاف، إذ قال تعالى: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل، إنه كان منصورا”، ففي هذه الآية وضع القرآن صيغة قانونية إنسانية عالية في التعامل مع عقوبة الإعدام، إذ تحدث عن “السلطان” الذي جعله الله بيد ذوي الضحية في حق الجاني، بحيث يكونون شركاء في العقوبة، إن شاؤوا اختاروا العقوبة وإن شاؤوا أخذوا الدية وعفوا عن القاتل، ولم يأت هذا الإشراك لذوي الضحية اعتباطا، إنما جاء إدراكا من الله سبحانه لما تتركه جريمة القتل في نفوسهم من شعور بالظلم والغبن والحزن والغضب، خصوصا عندما يكون الضحية رب أسرة تشعر زوجته وأبناؤه بأنهم أصبحوا بعده دون حام، فيكون إشراكهم بمثابة رفع معنوياتهم وإشعارهم بأن لديهم سلطة معنوية على القاتل.
المصدر: وكالات