قال مصطفى القادري، أستاذ تاريخ المغرب المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن المغرب “تاريخيا لم تكن له علاقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما تم توريطه لأسباب جيوسياسية وأيديولوجية، راجعة إلى التحولات التي عرفها العالم بعد الحربين العُظمتين، وسقوط الإمبراطوريات وبداية انتعاش الأيديولوجيات الهدامة؛ من قبيل القومية العربية”.
وأفاد القادري، ضمن حوار خص به جريدة هسبريس، بأن “المغرب لم يكن جزءا من الناحية التاريخية في سياسات الشرق الأوسط، لأن الأخيرة كانت مستعمرة عثمانية، بينما المغرب لم يخضع للحكم العثماني”، مضيفا أن “بداية الانتداب الفرنسي البريطاني في سوريا ولبنان وفلسطين والسياقات التي عرفتها هذه المناطق فرضت خريطة جديدة ومعطيات جديدة رجحت بدخول المغرب في هذا الصراع الذي لا يعنيه، فقط مناورة لجمال عبد الناصر آنذاك”.
نص الحوار:
من بين الأطروحات السائدة، على هامش الصراع بين فلسطين وإسرائيل، أن جزءا من المغاربة يقول إن المغرب يجب ألا يتدخل في شؤون “الشرق الأوسط”.. بداية، ما المقصود بـ”الشرق الأوسط” من الناحية الجيوسياسية أو ما مدى مصداقية هذه التسمية تاريخيا؟
عندما نتحدث عن الشرق الأوسط، فلكل واحد منطقه لتعريف المنطقة. بالنسبة للبعض في السابق، فإنه يمتد من المغرب إلى آسيا الوسطى: أفغانستان وباكستان… وبالنسبة للبعض الآخر قد يتحدد فقط في الجزيرة العربية ومصر، أو بدونها. وهي تسمية جيوسياسية أوروبية خالصة، لكن ليست تاريخية أو جغرافية. وهذه المنطقة كانت تسمى الشرق الأدنى، بالمقارنة مع الشرق الأقصى. وقبل ذلك سُميت منطقة الساحل الشرقي للبحر المتوسط بالمشرق le levant، نسبة إلى مشرق الشمس. وهذه التسميات تحيل على فترات تاريخية معينة؛ ولكن تسمية الشرق الأوسط من الناحية الجغرافية تستدعي أيضا إعادة النظر، لأن لكل واحد في الكرة الأرضية وسطه، فهل الشرق الأوسط تم نحته من منظور جغرافي أوروبي أو أمريكي؟ وأين يوجد وسط الشرق بالنسبة لكل جهة؟
وعلى الرغم من كل هذه الملاحظات، فإن هذه التسمية فرضت نفسها جيوسياسيا، وصارت تشكل اليوم جزءا من منطقة مينا MENA، أي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، للتمييز بين شمال إفريقيا من مصر إلى المغرب، وبين الدول التي توجد في الجزيرة العربية، بين الخليج والبحر الأحمر والبحر المتوسط… وهذه التوطئة كلها تحيلنا على التاريخ؛ لأن ما يسميه البعض اليوم “العالم العربي” أو الشرق الأوسط هو تاريخيا “عالم عثماني”، ينتمي إلى الإمبراطورية العثمانية منذ القرن السادس عشر. العثمانيون تنبهوا إلى الموقع الاستراتيجي للمنطقة، في سياق وصول البحارة البرتغاليين إليها في القرن الـ16، وتمكنوا من ضمها. وهي المنطقة التي نعرف فيها اليوم دولا مثل الكويت، العراق، البحرين، الإمارات وقطر، واليمن، والحجاز، باستثناء عمان في مراحل معينة؛ أما باقي المنطقة فكانت هي تلك البيداء التي يسكنها البدو الخاضعون لإمارات قبلية بشيوخها.
(مقاطعا) إلى حدود اللحظة من نقاشنا، يظل المغرب بعيدا عن شؤون هذه المناطق، لكونه ليس مستعمرة عثمانية ولا خاضعا لسايكس بيكو…
هذه المناطق المعنية بدورها ستعرف مرحلة جديدة في تاريخها خلال الحرب العالمية الأولى، عندما قام الفرنسيون والبريطانيون والروس بدعم الثورة العربية ضد المسلمين الأتراك، في إطار سياسة أوروبية لها أهدافها آنذاك. فرنسا أرسلت قوات عسكرية إلى مكة، قوات كلها مسلمة من الجزائر لتفادي مشاكل الحرم، في الوقت الذي استقر قائدها الفرنسي الكولونيل بريمون في مدينة جدة. لقد كانت هذه التجريدة الفرنسية في الوقت نفسه الذي كان فيه لورنس العرب المشهور وصاحب ألوان الأعلام التي نحتت منها الرايات المعروفة اليوم بألوانها الأربعة، لمساعدة الحسين شريف مكة، الذي كان أبناؤه نواة وراء قيام المملكة العربية الهاشمية التي كانت عاصمتها دمشق. وللتذكير، فألوان الأعلام، حسب منطق لورنس، تحيل على الأمويين والعباسيين والفاطميين ولم يستعمل رمز العثمانيين، الهلال، الموجود في رايات ليبيا وتونس والجزائر، بل وحتى علم مصر إلى غاية 1952 بل وربما 1983 تاريخي تغيير الأعلام.
وهنا، سيقع الخلاف بين فرنسا وبريطانيا من جهة وأبناء شريف مكة؛ لأن الاتفاق المبدئي لم يكن لإنشاء مملكة عربية بهذا الشكل، بل كان اتفاقا لتأسيس دولة عربية في الحجاز فقط، إلى جانب دولة عبرية! ونحن نسمع كثيرا عن وعد بلفور، لكن نسمع أقل عن وعد ماكماهون. وهما وعدان متلازمان مرتبطان بإزالة الدولة العثمانية.
وخلال الحرب العالمية الأولى، سيتم توقيع اتفاقية سايكس بيكو، ولكن ليس فقط بين فرنسا وبريطانيا، بل هناك طرف آخر في الاتفاق الثلاثي يمثل الإمبراطورية الروسية. وبموجب هذا الاتفاق، تم التواطؤ على اقتسام الممتلكات العثمانية بعد أفولها، بما في ذلك الأراضي التي أسست عليها الجمهورية التركية بعد ذلك. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، انتهت الإمبراطوريات في أوروبا. وحينها، بدأ ما يسمى بالانتداب، الذي بموجبه ستخضع بلدان ما يسمى “الشرق الأوسط” للانتداب الفرنسي البريطاني.
وما هو الانتداب حتى نبسطه لقراء هسبريس؟
الانتداب هو صيغة قانونية، اقترحتها عصبة الأمم التي تأسست سنة 1919. وهذه العصبة قامت بطلب فرنسا وبريطانيا لانتدابهم لتسيير شؤون المستعمرات السابقة للإمبراطورية العثمانية، حتى يظهر ما يمكن القيام به في المنطقة. تم فرض الانتداب البريطاني على فلسطين والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان. وانتصر آل سعود على شريف مكة، وتم تأسيس المملكة العربية السعودية، واستقلت المملكة الهاشمية العراقية برئاسة الملك فصيل الذي كان ملكا للمملكة العربية في دمشق، ودخلها الجنرال هنري غورو باسم فرنسا، بعد معركة ميسلون في يوليوز 1920، وعين حاكما عليها. أما مصر فقد كانت تحت نظام الحماية البريطانية منذ 1883.
وهذه هي الخريطة الجيوسياسية للمنطقة إلى غاية نهاية الحرب العالمية الأولى. والمغرب لا يزال بعيدا عن هذه الخريطة إلى غاية هذه الفترة أيضا؛ لكنني أود أن أشير إلى أنه بالنسبة لبريطانيا فإن المنطقة محورية لسببين: أن لها مستعمرات في مصر والهند واستراتيجيتها دائما من هذا المنظار التحكم في الطرق، ما بين مصر والهند، وما بينهما توجد الجزيرة العربية. وبالنسبة لإنجلترا كانت مسألة محورية وأساسية، لأن التحكم في الهند يمر عبر الطريق التي تمر، بالتبعةِ، عبر قناة السويس والخليج.
لكن، هل ظل هذا الوضع هكذا إلى حدود الحرب العالمية الثانية التي ستفرض تحولات أخرى جيوسياسية في المنطقة؟
بالفعل، فمع الحرب العالمية الثانية ستتغير المعطيات والوقائع، بحكم أن سوريا ولبنان سيعلنان استقلالها، بدعم من بريطانيا سنة 1944. فرنسا لم تكن لها القوة لضبط مصير هذه المنطقة، لأنه كان هناك صراع بين أنصار فيشي وأنصار دوغول في جميع المُستعمرات؛ فطن اللبنانيون والسوريون لهذا الصراع، واستثمروه ليعلنوا استقلالهم من طرف واحد وليؤسسوا دولتهم الوطنية.
ومباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، ستقوم بريطانيا بالتأسيس لجامعة الدول العربية، من خلال ميثاق الإسكندرية ثم القاهرة بعد ذلك. وكانت الغاية وراء خلق هذه الجامعة هو جمع الدول المستقلة آنذاك، والتي كانت هي سبع: مصر التي حصلت على الاستقلال منذ 1932، سوريا ولبنان حصلتا على الاستقلال سنة 1944، والمملكة العربية السعودية تأسست في 1926، والمملكة الهاشمية العراقية تأسست سنة 1927 والمملكة الأردنية الهاشمية واليمن. ولكن لماذا أرادت بريطانيا أن تجمع الدول العربية تحت يافطة جامعة معينة؟
الإجابة عن هذا السؤال تستدعي قدرا من التأمل في وقائع التاريخ، فهذه الجامعة كانت تمهيدا لتصويت الأمم المتحدة لتأسيس دولتي إسرائيل وفلسطين، ما سترفضه الدول العربية الأعضاء في الجامعة، وسيدخلون في حرب مع إسرائيل، وهؤلاء الدول تصرفوا في مصير دولة لم تكن تعنيهم ومصير شعب لم يكُن يعنيهم، ولم يتركوا له حق تقرير مصيره بنفسه وقتها، وجعلوا من قصة فلسطين مأساة كونية يعرفها الجميع منذ 1948. وللتذكير، الأمم المتحدة هي التي قامت بالتصويت لقيام دولتين كما قامت بالتصويت لقيام دولة اسمها ليبيا في 1951، التي كانت مستعمرة إيطالية. وهذا التصويت منح لإسرائيل الشرعية الدولية.
والتاريخ يقول بأن ملك المغرب محمدا الخامس عبّر عن غبطته بتأسيس جامعة الدول العربية.. هل هنا بدأ مسار دخول المغرب في ما يجري بالشرق الأوسط؟
يبدو لي أن خطاب طنجة التاريخي، الذي ألقاه السلطان محمد الخامس يوم التاسع من أبريل 1947، يمكن تفسيره بأحد الجوانب التي لم يتم التطرق إليها حتى اليوم، وهي سياسة فرانكو الإسباني، التي تسمى بـ”السياسة العربية”. وعلى ضوء هذه السياسة، أسس فرانكو بيت المغرب في القاهرة وأرسل البعثات الطلابية من شمال المغرب إلى مصر وكان بعض الطلاب من المنطقة الفرنسية يلتحقون بها أيضا. وهذه السياسة كانت لها آثار ومآلات على السياسة الداخلية في المغرب، وتبنت نخب الشمال أفكار فرانكو المتعلقة بالعرب والعروبة… وربما، لا يسمح الوقت للتطرق لسياسة فرانكو هذه وأهدافها بالمعنى السياسي الاستعماري في الشمال والجنوب، وتبعاتها في إسبانيا والمغرب، بالإضافة إلى جانبها الجيوسياسي الذي تُوج بتحالف عجيب بين فرانكو وعبد الناصر.
المغرب سينخرط مباشرة بعد الاستقلال في جامعة الدول العربية، والتي كان يسيطر عليها جمال عبد الناصر، الذي كان يدعم الانقلابات العسكرية ضد كافة الملكيات بالمنطقة، ووصل هو بدوره إلى الحكم عبر الانقلاب الذي قام به في مصر سنة 1952؛ وسيجعل عبد الناصر من هذه الجامعة أداة للضغط ليجعل نفسه زعيما وآمرا وناهيا لما يسمى بـ”العرب” من البحر إلى البحر، في إطار مفهوم “الوحدة” أو “القومية العربية”. وقد نجح في التحكم في الدولة الجزائرية بعد الاستقلال حين نصب أحمد بن بلة رئيسا للدولة، في الوقت الذي كانت فيه الحكومة المؤقتة متمتعة بالشرعية. وتمكن عبد الناصر من جعل الجزائر رأس حربة للتحرش بالمغرب في ظل سعيه إلى إنهاء الحكم الملكي. وقبِل المغرب، في ظل حُكم الحسن الثاني، أن يقدم تنازلات مبدئية لعبد الناصر لكونه يعرف مدى دعمه لإسقاط الأنظمة الملكية، كما حدث في العراق وسوريا وتونس ومحاولات انقلابية في الأردن.
ودرءا للشر القادم من القومية وزعيمها، سيحاول المغرب بجميع الطرق أن يبني علاقة جيدة مع هذه الدول، وسيقبل مبدأ التعريب ويسمح بتدخل جامعة الدول العربية في التعليم المغربي، وفي البرامج المدرسية وفي التأسيس لنظرية العروبة. ولهذا، كان المغاربة يدرسون اتفاقية سايكس بيكو، ولا يدرسون مؤتمر برلين 1885، الذي بموجبه استعمرت أوروبا إفريقيا. والمغرب جزء من هذا التاريخ الاستعماري.
لكن، عندما يعرف المغاربة تاريخ الشرق الأوسط أكثر من تاريخهم ويعتبرون أنفسهم معنيين بمشاكل الشرق الأوسط، فهذا راجع إلى أدلجة المحتويات التعليمية وللكتب المروجة للقومية التي نشرت في المغرب. ومن ثم، وقع خلط فظيع بين مفهوم القومية العربية والتحرر واليسار والتقدمية. خليط من الأفكار جعلها أقرب للفاشية الإيطالية منه إلى الفكر اليساري. والمشكل هو أن هذه الأيديولوجيا ستتبناها دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط؛ ضمنها من انخرط بصفاء، ومنها من كانت له أهداف أخرى، كالمغرب الذي قَبِل بالقومية اتقاء للشر الذي يمكن أن يتمخض عنها.
يعني تريد أن توحي بأن مشاركة الجيوش المغربية في حرب 1973 كانت فقط مناورة من الحسن الثاني لترويض “تضخم” قومية جمال عبد الناصر؟
نعم، لأن الحسن الثاني لعب على مختلف الأحبال في ذلك الوقت. وأستطيع أن أقول إنه شارك في هذه الحرب لينال “صكوك الغفران” من القوميين. وعلى الرغم من مشاركة الجيوش المغربية إلى جانب الجيوش الأخرى، فإنهم لم يتمكنوا من استرجاع الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967. لهذا، مشاركة المغرب لم تكن إيمانا بشؤون الشرق الأوسط أو انخراطا فيها، وإنما دهاء من الحسن الثاني لكي يدفع القوميين إلى الاعتقاد أنه طرف حليف. والخلاصة هي أن المغرب تورط، مثل تونس والجزائر وليبيا، في صراع غير معني به لكونه ليس صراعا محليا أو قاريا حول الأرض والحدود والوجود. هذه البلدان المغاربية وجدت نفسها في قلب المشكلة لكونها انخرطت في جامعة الدول العربية. ولهذا، كلما تذكرت جمال عبد الناصر أتذكر هتلر، لأنهما نسختان طبق الأصل في التاريخ، ولو باختلافات طفيفة. ولا غرابة في ذلك بما أن هناك مقالا لأنور السادات يمجد فيه هتلر.
أكرر القول إن المغرب لا علاقة تاريخية له بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ لكنه نظم قمما عديدة خدمة لهذا الموضوع. وفي قمة الرباط سنة 1974، تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.. فإلى حدود انعقاد القمة، كانت الشرعية ممزقة بين المصريين والأردنيين. وكان الآخرون يتكلمون بالنيابة عن فلسطين. وهو ما أعتبره أصلا واضحا للمشكل. الفلسطينيون لم يتكلموا بأنفسهم لأنفسهم. ومن تكلموا نيابة عنهم ليس لديهم ما يخسرون، لأن الفلسطينيين صاروا مجرد أداة أيديولوجية سياسية، ومجرد ورقة ضغط جيوسياسية توسلتها مرارا مصر وسوريا والأردن، لبلوغ مآرب أخرى غير فلسطينية. وأتصور أنه إذا استمرت هذه المأساة حتى الآن، فذلك بسبب أن هذه الدول تدخلت في شؤون دولة لا تعنيها.
الأمور جد واضحة، المغرب لا ناقة له ولا جمل في هذا الصراع، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وإذا تمكن المغرب من التقليل من حدة صراع عالمي يلتهم الإنسان، فذلك سيكون من حسناته. لذلك، “مواقف المقاهي” الرافضة لاستئناف العلاقات مع إسرائيل والرافضة لاعتراف الأخيرة بمغربية الصحراء لا تعكسُ الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية المغربية. وهذه السياسة سنستطيع تقييمها من الآن لتبين هل هي خاطئة أو صحيحة، حسب مفهوم مصلحة البلد والدولة والمجتمع والمستقبل.
المصدر: وكالات