يعد مشروع الحماية الاجتماعية الذي أطلقه الملك محمد السادس واحدا من أهم المشاريع الاستراتيجية التي يعول عليها المغرب لمواجهة تحديات الفقر والهشاشة الاجتماعية وتوفير الرعاية والخدمات الصحية الأساسية لجميع المواطنين، سعيا نحو تحقيق كرامتهم وتحسين أوضاعهم المعيشية. غير أن هذا الطموح المغربي المشروع يواجه تحديات كبيرة، شكلت محور جزء مهم من ندوة وطنية نظمها كل من “المرصد الوطني لحقوق الناخب” ومؤسسة “كونراد أديناور” الألمانية، أمس الأربعاء، تحت عنوان “الفعل الاجتماعي بين انتظارات المواطنين ومسؤولية الحكومة”، عرفت مشاركة عدد من الفاعلين السياسيين والخبراء والأكاديميين.
واستعرض المشاركون في أشغال هذه الندوة مختلف المشاريع التي فتحها المغرب لدعم ركائز الدولة والحماية الاجتماعية، مع إبراز جملة الصعوبات والعراقيل الذاتية والموضوعية التي تواجه مسار تنزيلها، منبهين إلى ضرورة العمل ومضاعفة الجهود لتجاوز هذه التحديات لبلوغ هدف تحقيق العدالة الاجتماعية التي تعد شرطا أساسيا لأي إقلاع اقتصادي. كما تطرقوا إلى موضوع دور السياسات العمومية في مجالي التكوين والتشغيل في الإدماج الاجتماعي، خاصة بالنسبة لفئة الشباب التي يعول عليها في قيادة قاطرة التنمية في المغرب.
في هذا السياق قال خالد الطرابلسي، رئيس المرصد الوطني لحقوق الناخب، في كلمته الافتتاحية للندوة، إن هذه الأخيرة تتناول “موضوعا يعد من أهم المواضيع الرئيسية التي تتحمل فيها الحكومة مسؤوليتها السياسية تجاه ناخبيها وتجاه المواطنين والمواطنات بصفة عامة، ويشغل اهتمام المجتمع المغربي والرأي العام الوطني، ألا وهو موضوع الفعل الاجتماعي بين انتظارات المواطنين ومسؤولية الحكومة”.
وأشار المتحدث ذاته إلى مشروع الحماية الاجتماعية الذي أطلقه الملك محمد السادس بهدف تقليص الفقر ومحاربة الهشاشة وتعميم التأمين الصحي الإجباري والتعويضات العائلية والتعويض عن فقدان الشغل وتوسيع نظام التقاعد لصالح جميع المواطنين، مؤكدا أن “الفعل الاجتماعي هو أحد الركائز الأساسية في بناء مجتمع متماسك وعادل، إذ يرتبط بمختلف الجوانب التي تؤثر على حياة المواطنين اليومية ورفاههم، كالصحة والتعليم والإسكان والتشغيل والخدمات الأساسية”.
وأضاف أن “هذا الأمر يجعل من متطلبات المواطنين تحقيق التنمية الاجتماعية المستدامة وتوفير احتياجاتهم الأساسية، مما يفرض على الحكومة الاستجابة لهذه التطلعات من خلال اعتماد سياسات عمومية تلبي احتياجاتهم”، مبرزا أن “هذه الندوة تشكل فرصة لتسليط الضوء على مسؤولية الحكومة في الفعل الاجتماعي والسياسات العامة التي تنتهجها وعلى عملها وإنجازاتها، ومن جانب آخر، ملامسة الجوانب السلبية والثغرات ونقاط الضعف في استراتيجيتها المعتمدة، بالإضافة إلى الإكراهات والصعوبات والتحديات التي تواجه متطلبات المواطنين وتطلعاتهم الاجتماعية”.
جهود ومشاكل
خلال جلسة العمل الأولى التي تناولت موضوع “الحماية الاجتماعية ومنظومة الصحة بين مآلات التنزيل وعراقيل التنفيذ”، قال عبد العالي بروقي، نائب برلماني أستاذ جامعي، إن “الحديث عن الحماية الاجتماعية في هذا السياق يحيلنا إلى الحديث عن الإطار الذي جاءت فيه هذه الحماية انطلاقا من الخطب الملكية المؤطرة لهذا الموضوع، خاصة الخطاب الذي وضع الأساس لتعميم الحماية الاجتماعية والنهوض بالصحة، حيث إن التوجيهات التي تضمنتها الخطب الملكية في هذا الصدد جاءت متقاطعة في بعض النقاط مع البرنامج الحكومي الذي تضمن من بين ما تضمنه موضوع الحماية الاجتماعية”.
وأوضح المتحدث أن “الحكومة عندما وضعت البرنامج الحكومي كانت تسعى إلى الخروج من تبعات أزمة كورونا، وقلة التساقطات، لكنها لم تتوقع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية ولا استمرار سنوات الجفاف رغم أن الدراسات المناخية كانت تنذر بذلك. بعد ذلك وقع زلزال الحوز وتلته فيضانات الجنوب الشرقي”، معتبرا أن “كل هذه الأسباب والعوامل اجتمعت لتشكل امتحانا للحكومة في تنزيل ورش الحماية الاجتماعية الذي يتطلب مجهودا كبيرا”.
وتابع بأن “تنزيل الحماية الاجتماعية مع الحفاظ على السلم الاجتماعي وتحقيق التوازنات على المستوى الاقتصادي ليس بالأمر السهل”، مشيرا إلى أن “الحكومة، بالإضافة إلى تنزيل برنامج الحماية الاجتماعية، كان عليها أيضا أن تفتح الحوار الاجتماعي المتوقف لعقد من الزمن، مع ما يعني ذلك من كلفة إضافية، إضافة إلى الحفاظ على صندوق المقاصة وإقرار إجراءات موازية للحد من ارتفاع أسعار المحروقات والحد من آثار الجفاف، وقد بذلت مجهودات كبيرة في هذا الصدد مثل رصد موارد مالية إضافية في إطار مشروع قانون المالية للآليات والقطاعات المرتبطة بالحماية الاجتماعية”.
وخلص بروقي إلى أنه “رغم هذا المجهود، برزت مجموعة من المشاكل والإشكاليات، خاصة ما يتعلق بتنزيل الدعم المباشر، حيث كانت هناك مشاكل في الآليات اللوجستية وشكاوى من طرف المواطنين بخصوص المعايير والمؤشرات للاستفادة من هذا الدعم، إضافة إلى تداخل المؤسسات المتدخلة في هذه العملية، وكلها إشكالات يجب العمل على تجاوزها مع الحرص على تحسين الوضع الاجتماعي للمستفيدين الحاليين”.
ورش واستراتيجيات
قال محمد جدري، رئيس المرصد الوطني للعمل الحكومي، إن “إنجاح ورش الحماية الاجتماعية هو مسؤولية جميع المغاربة؛ حكومة، أغلبية ومعارضة، ومواطنين، لأنه وفي تاريخ المغرب المعاصر هذه من المرات القليلة التي نتحدث فيها عن ورش انطلاقا من رؤية اقتصادية واضحة المعالم، وهي الرؤية التي نستهدف من خلالها مضاعفة الناتج الداخلي الخام من 130 مليار دولار سنة 2021 ليصل إلى 260 مليار دولار سنة 2035، ولكي نصل إلى هذا الهدف يجب النهوض بالاقتصاد والقيام بثورة اجتماعية، لأن مساهمة المواطن في تحقيق هذا الهدف رهينة بحمايته اجتماعيا”.
وأضاف جدري في مداخلته أن “فئات عريضة من المجتمع، وقبل الإعلان عن ورش الحماية الاجتماعية، كانت لا تستفيد من العدالة الاجتماعية ولا تلج إلى الخدمات بشكل متساوٍ وعادل أسوة بمواطنين آخرين، وقد انكشف ذلك جليا إبان جائحة كورونا، أما اليوم فجميع المغاربة مؤمّنون ضد المرض وجميع أبنائهم أصبحوا سواسية فيما يخص التعويضات العائلية، وكذلك الأمر بالنسبة لتعميم منحة فقدان الشغل ومعاش الشيخوخة”.
وبين رئيس المرصد الوطني للعمل الحكومي أن “تنزيل ورش الحماية الاجتماعية على أرض الميدان تشوبه الكثير من النواقص التي يجب التوقف عندها، فمثلا تم العمل على تعزيز البنيات التحتية الصحية، لكن هناك نقصا كبيرا في الموارد البشرية، خاصة الأطر الطبية، كما أن هناك مشكلة كبيرة مع لوبي الأدوية، إذ لا يعقل أن تباع الأدوية للمواطن المغربي بأسعار مضاعفة أربع مرات مقارنة ببعض الدول الأخرى، وهو ما أكده الوزير المنتدب المكلف بالميزانية مؤخرا أمام لجنة برلمانية”.
وتابع جدري بأن “ورش الحماية الاجتماعية سيكلف 51 مليار درهم، منها 26 مليارا ستساهم بها الحكومة والباقي سيساهم فيه المشتركون في أنظمة هذه الحماية، غير أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات تؤكد أن نسبة 27 في المائة فقط من المشتركين يؤدون الاشتراكات المستحقة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبالتالي يجب العمل على رفع هذه النسبة والتفكير في استراتيجيات لتحيين قواعد البيانات وتحصيل المستحقات لتمويل وإنجاح هذا الورش”.
مسنون ومسؤوليات
في مداخلته ضمن الجلسة الأولى التي طرح فيها السؤال: “ما الذي أعده المغرب لمُسنيه؟”، قال الخبير الاقتصادي الأستاذ الجامعي بدر زاهر الأزرق إن “تنزيل مختلف البرامج والسياسات العمومية المتعلقة بالحماية الاجتماعية أهمل فئة الشيوخ والمسنين في المغرب الذين يعانون في صمت، فهذه السياسات وكذا مشروع قانون المالية وإجراءات الزيادة في الأجور لم تهتم بهذه الفئة من المجتمع المغربي التي ساهمت في بناء المغرب وضحت من أجل بلادها”.
وسجل المتحدث أن “المعطيات الإحصائية تؤكد أن المجتمع المغربي يمضي بسرعة نحو الشيخوخة، وقد نصل إلى مرحلة يكون فيها ثلث المجتمع معطلا ويشكل عبئا حقيقيا على موازنة الدولة”، مؤكدا في الوقت ذاته أن “الأسرة المغربية التي تحولت من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية لم تعد تستطيع تحمل عبء المسنين وحاجياتهم ورعايتهم الخاصة والمتزايدة، حيث إن هذه الأسرة نفسها منهكة وهشة وتحتاج هي الأخرى للمساعدة”.
وتابع بأن “هذا الواقع الديمغرافي الجديد يفرض تحرك الحكومة للنهوض بوضع فئة المسنين أمام ارتفاع معدل أمد الحياة، فالقطاع الصحي مثلا يفتقد إلى تكوينات متخصصة في أمراض الشيخوخة، أضف إلى ذلك استمرار مشكل مركزية مؤسسات الرعاية وارتفاع نسبة الأمية في صفوف هذه الفئة من المجتمع، إذ إن 20 في المائة من المسنين في المغرب مجبرون على العمل من أجل العيش في ظل هزالة المعاشات التقاعدية وضعف بنية الدعم النفسي الذي يحتاجونه”.
وشدد الأزرق على “ضرورة العمل على تكوين الموارد البشرية اللازمة لخدمة هذه الفئة وتقريب خدمات الرعاية لفائدتها، وهذه مسؤولية الحكومة والمجتمع المدني أيضا، إذ لا يجب أن ينظر إلى المسن كعبء اجتماعي بل كفاعل قادر على المساهمة في التنمية الاقتصادية، وبالتالي يجب صياغة تصور لفائدة هذه الفئة مع حث القطاع الخاص على الاستثمار في مجال رعاية الشيوخ والمسنين في المملكة”.
وتناولت الجلسة الثانية التي عرفت مشاركة كل من محمد الدريوش، رئيس المرصد الوطني لمنظومة التربية والتكوين، والأستاذتين الجامعيتين رقية أشمال وخديجة الكور، دور السياسات العمومية في مجال التشغيل والتكوين في الإدماج الاجتماعي، وأجمع المتدخلون فيها على ضرورة العمل على تطوير مهارات الشباب وملاءمة التكوين مع متطلبات سوق الشغل، مع العمل على تجاوز النواقص التي تعتري البرامج الاقتصادية الموجهة لهذه الفئة، لضمان إجابة فعالة عن سؤال البطالة في البلاد.
المصدر: وكالات