أشار عبد الرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض، في مقال له بعنوان “غرب علماني ضد غرب علماني”، إلى مواقف وممارسات عدد من الدول الغربية التي دعمت الجانب الإسرائيلي في الأحداث التي تشهدها فلسطين، لافتا في الوقت ذاته إلى “غرب” آخر أكثر علمانية يحاول جاهدا أن ينتصر للقيم الإنسانية.
وهذا نص المقال:
لعل كثيرا من الناس قد شعروا بهول الصدمة مما يحدث في بعض الدول الغربية بخصوص أحداث فلسطين. كيف لا يشعرون بهذه الصدمة وهم يتابعون مواقف وممارسات بلدان “التنوير” و”الديمقراطية” و”حقوق الإنسان”…؟ فهذا وزير خارجية أمريكا (التي قال عنها دي تكوفيل إنها حكومة أكثر علمانية بينما شعبها أكثر تدينا) يقول: “لقد جئت إليكم (مخاطبا الإسرائيليين) لا بصفتي وزيرا أمريكيا وحسب، وإنما بصفتي يهوديا”! وتلك حكومة فرنسية تمنع التظاهر المندد بالمجازر الإسرائيلية في حق الفلسطينيين، وتحرمهم من حقهم في التعبير عن آرائهم، وتتوعدهم بالسجن والغرامات بداعي “الحفاظ عن النظام العام”، وهنالك حكومة ألمانية تحدد للمتظاهرين الخطوط الحمراء التي لا يمكنهم تجاوزها وتعتقل كل من يحمل راية فسطين أو يهتف بشعار “فلسطين حرة”، وذاك ناد رياضي يراقب ما يخطه لاعبوه في مواقع التواصل الاجتماعي، ويخيرهم بين الحذف والاعتذار أو الطرد، وتلك صحيفة بريطانية عريقة تخبر رسامها الكاريكاتوري المشهور بأنه لم يعد مرغوبا فيه مباشرة بعد انتهاء عقده لأنه تجرأ على رسم رئيس حكومة إسرائيل في وضعية دموية، وتلك قناة إعلامية لطالما انتقدت الإضرار بالحريات الصحافية في البلدان غير الديمقراطية بينما هي اليوم تحقق مع صحافييها بدعوى التعاطف مع أطفال فلسطين… نعم كيف لا يشعر الإنسان، كل إنسان، بهذا الكيل بمكيالين، وهذا القفز إلى الخلف، وهذا التخبط والتناقض؟ ألا يدفع هذا الوضع الناس إلى اليأس من كل أفكار هذا الغرب الذي يدعي العلمانية والحرية وحقوق الإنسان؟
نعم من حق الإنسانية أن تمقت هذه التصرفات، وأن تستهجن ممارسات الحكومات الغربية القمعية، وأن تعود إلى الذات وإلى التموقع داخل الهويات الخاصة، ويحق لها أيضا أن تتمترس بحيثياتها الوطنية عندما ترى الآخرين يجمعون على وسمها بالتخلف والعنف، ويرمونها بأشد النعوت إيلاما.
غير أن بصيصا من الأمل يعلو في الأفق، وأن ضوءا خافتا يظهر في آخر النفق المظلم، وهو ما يساعد على القول بأن الغرب العلماني هو مريض جدا، بل لم يشف من مرضه القديم المتمثل في الرؤية الاستعمارية للشرق؛ فعلى الرغم من أن الأصوات التي تعبر عن هذا المرض هي التي تتسيد المشهد اليوم، إلا أن ما يبعث على الأمل أن هناك ما يعكر صفاء سمائها.
ومن ثم، فإن غربا آخر أكثر علمانية، بل غربا يتبنى العلمانية الصلبة، يحاول جاهدا أن ينتصر للقيم الإنسانية، وأن يساعد النفس الإنسانية على تذكر عالم مُثُلِها حسب التعبير السقراطي، ومن هنا جاز وسْم الأمر على نحو “غرب ضد غرب”، وأما مظاهر هذه الضدية، فيمكن تلمسها في الآتي:
صحيح أن الآلة الإعلامية الغربية منخرطة في البروباغاندا الصهيونية، ولا رواية ترويها غير الرواية الإسرائيلية، لكن هذا لا يمنع من تسرب الرواية الفلسطينية إلى الإعلام الغربي نفسه، سواء في نسخته الموجهة إلى العرب باللغة العربية أو في نسخته الموجهة إلى العالم بمختلف اللغات، لأن شمس الحقيقة لا يمكن حجبها، كما لا يمكن للصوت الواحد والرواية الواحدة أن يكونا محفزين على المتابعة، الأمر الذي استدعى إشراك أصوات أخرى، وعلى سبيل رفع الحرج، من مثل مصطفى البرغوثي وزملط وباسم يوسف وغيرهم.
وإذا كانت الرقابة قد ضُربت على كل الوسائط التي تشكل الرأي العام الغربي من خلال حجب معلومة معينة، وضخ معلومة أخرى، وطمس راوية في مقابل صناعة رواية زائفة تحت شعار “اكذب حتى يصدق الناس”، فإن هذا الغرب المالك للتكنولوجيا لم يصد جميع الأبواب في وجه طالبي الحقيقة؛ فمحرك البحث “غوغل” ما زال مستمرا في توفير كل المعلومات، و”يوتيوب” مستمر في ضخ كم هائل من المعلومات والمقاطع التي تنشر الرواية المعاكسة، كما أن هناك نزرا ولو يسيرا من الأعمال السينمائية التي تهدف إلى الموضوعية.
وبينما يروم البعض أن يأخذ الصراع طابعا دينيا مثلما فعل وزير خارجية أمريكيا، أو مثلما يفعل كثير من أعضاء البرلمانات في فرنسا وألمانيا وأمريكا، فإن طيفا سياسيا آخر بدأ يجرؤ على الحديث، من قبيل العديد من الوزراء في إسبانيا وكندا وإيرلندا والنرويج وبلجيكا واسكوتلندا، واستقالة مسؤولين في أمريكا، كما انقسم الطيف السياسي الفرنسي على نفسه بخصوص القضية الفلسطينية، حيث ما زال حزب “فرنسا الأبية” بقيادة “ميلنشون” يواجِه انتقادات كثيرة من قبل أحزاب اليمين بمعتدليها ومتطرفيها لأنه يرفض إدانة الفلسطينيين.
الأمر نفسه بالنسبة للمجتمع المدني العالمي الذي هرع جزء منه لتقديم المساعدات للفلسطينيين، بينما ساهم البعض الآخر في تكثير سواد المظاهرات المناهضة لما تقوم به “إسرائيل”، وذلك في كل الدول الأوروبية، بصرف النظر عن مضمون الشعارات التي ترفع ونوع الرموز التي ترفع وتحرق، بل حتى في ألمانيا وفرنسا خرجت مظاهرات كبيرة ولم يقتصر الحضور فيها على المسلمين والعرب وإنما شاركهم في ذلك مواطنون أوروبيون منهم الملحدون ومنهم المدافعون التقليديون عن المناخ وعن المثلية الجنسية وعن حقوق الناس وعن حقوق الأقليات.
وأما في أمريكا التي يسيطر اللوبي الصهيوني على حكومتها، الذي يضرب له الساسة ألف حساب ويهابونه أكثر من خشيتهم الرأي العام، فإن التظاهرات كانت أكثر قوة وأكثر شساعة، ولم يتجرأ أي سياسي أو إعلامي على أن يدعو إلى حظرها أو حظر بعض شعراتها لأن التعديل الأول للدستور فوق كل اعتبار (يمكن مراجعة الموسوعة الحقوقية التي تضم آلاف القضايا التي انتصر فيها أصحابها بناء على هذا التعديل)، بل إن الشكل الاحتجاجي الذي آلَمَ الحركة الصهيونية كثيرا هو ذاك الذي جسده اليهود الذين اقتحموا (نعم اقتحموا) باحة الكونغرس الأمريكي وهتفوا بأصوات عالية “ليس باسمنا”، داعين إلى وقف الحرب على غزة، متهمين الحكومة الإسرائيلية بممارسة كل أشكال العنف، بينما يعتبر كثير من يهود العالم وجود إسرائيل خطيئة دينية. فضلا عن أن آخر استطلاعات الرأي قد أظهرت أن نسبة تفوق النصف من المواطنين الأمريكيين ترفض تزويد الحكومة الأمريكية إسرائيل بالأسلحة، وتنظر إلى الدعم الأمريكي بأنه مبالغ فيه.
ولئن منعت بعض النوادي الرياضية الأوروبية لاعبيها من التعبير عن تعاطفهم مع الفلسطينيين، فإن نوادي أخرى رفضت سلك هذا التوجه، ونظيرُ ذلك ما قام به فريق كرة القدم “فريدر بريمن” الألماني عندما رفض إصدار أي توجيهات للاعبيه بخصوص ما يحدث في فلسطين، وأما جمهور نادي “سلتيك” الأسكتلندي فهو لم يكتف بالإدانة الفردية، وإنما اتخذ تعاطفه مع الفلسطينيين شكلا جماعيا يكاد يكون ثابتا من سنوات، وبالطريقة نفسها عبر جمهور نادي “أوساسونا” الإسباني وبعض جمهور “ليفربول” الإنجليزي.
قد يكون مسلما به أن الأوساط السينمائية تكاد تكون مجمعة على جهلها بحقيقة الصراع الفلسطيني، وذلك نتيجة حتمية لدورانها في فلك عالم المال المسيطَر عليه من قِبل اللوبي الصهيوني، لكن هذه السيطرة ليست مطلقة، وإنما هناك اختراقات لا بأس بها تحققت لصالح الفلسطينيين، وهو ما تجسد في مواقف كثير من الممثلين الذين ساعدهم اطلاعهم على تفهم الحق الفلسطيني أمثال مارك روفالو وسوزان ساراندو وجون كوزاك ووليام كاننغهام وميل جيبسون، وغيرهم من الممثلين المنتصرين للقضايا الإنسانية العادلة.
وإذا كانت الغالبية الظاهرة في عالم السينما قد تبدو مؤيدة لإسرائيل، فإن الغالبية من المثقفين والمفكرين المشتغلين في مجال حقوق الانسان والمهتمين بالقضايا الدولية تكاد تكون شبه مجمعة على إدانة ما تقوم به إسرائيل في حق الفلسطينيين، وهذا حال العديد من أساتذة الجامعات العريقة واتحادات طلابها (يمكن مراجعة بلاغات طلبة وأساتذة جامعة هارفرد على سبيل المثال)، لأن العلم لا يمكنه أن يوافق على وجود الاستعمار، أو أن يؤيد إحلال شعوب مكان أخرى بناء على تصورات دينية تنهل من الماضي وتتأسس عليه.
عموما، يمكن القول إن الغرب ليس واحدا وإنما هناك غرب متعدد، وقد يبرز غرب معين اليوم، وقد يخفت الغرب الآخر تحت ضغط اللوبيات التي تؤثر على الساسة بسبب مصالحها الشخصية، وليس انتصارا للقيم التي تأسست عليها دولها، لكن كما لا يمكن للظلم أن يستمر، فإن الغرب المنتصر للظلم لا يمكنه إلا أن يخفت أو يزول. بينما وارد جدا أن تنتصر الأصوات المؤيدة للحقوق والمدافعة عن القيم الإنسانية المشتركة والرافضة للكيانات المأسسة على نظريات دينية بصرف النظر عن لونها وأشكالها ومضامينها.
لذلك، من المتعجل جدا الحكم على الغرب بأكمله جملة وتفصيلا، واتهامه بمعاداة العرب والمسلمين والتنكر لقيمه في مجال حقوق الإنسان، وإلا فإن من شأن هذا التعميم أن يجعل الجميع في بوثقة واحدة دون تمييز، وهو الأمر ذاته الذي يؤاخذ عليه الغرب عندما يجعل الجميع في كفة واحدة، ويضع جميع المسلمين، مثلا، في حالة شبهةٍ دائمة.
تجدر الإشارة إلى أن هذا المقال لم يتناول إلا جانب ما أصبح ينعت بـ”الغرب”، وإلا فإن جل دول العالم وشعوبها تنتصر للحق الفلسطيني، وتدين الاحتلال الإسرائيلي، وتندد باستخفافه بالمواثيق الدولية والقرارات الأممية الصادرة لصالح الفلسطينيين، مثل ما تقوم به دول آسيا وأمريكا اللاتينية ودول إفريقيا (كالمواقف الأخيرة لكل من جنوب إفريقيا وكولومبيا …).
المصدر: وكالات