مازالت أصيلة، هذه المدينة الشمالية العريقة، تتخفّى وراء مهن وحرف تقليدية لم تستطع رياح الحداثة الجارفة أن تمسخها؛ فهذه الجلود القادمة من فاس ومراكش المتناثرة في أزقة المدينة العتيقة “تكمّل” منتوجات النسيج محلية الصنع، التي يعاند بها أبناء أصيلة، الذين خبروا الحرفة، باقي المنتوجات التي تمت صناعتها في مدن أخرى، وأتت لتؤدي المهمّة نفسها: إشعاع الصّناعة المغربية.
أصيلة، التي تبدو هذا الصّباح باردة في جوّها وملامح باعتها، تعرض تركات تعبر عن ماهية الإنسان المغربي القديم؛ فهؤلاء التجار الذين يعرضون منتوجات جادت بها أيادي النساء والرجال، يكشفون حقائق حول تمسك الأجيال تباعاً بحرف مغربيّة خالصة تحكي سرديات المغاربة لمعنى الإبداع والابتكار، وليس غريبا، ربما، أن يعتبر أحد الذين صادفتهم هسبريس في المدينة العتيقة أن “الصناعة التقليدية هي السياحة المغربية”.
أصالة المنتوج المحلي
ندلف أزقّة “القصبة”، التي تتزين كعادتها بالأبيض والأزرق. الرياح الغاضبة اليوم تحرّك الزرابي التي صنعت في الشمال، وفي أصيلة وضواحيها. نصل زنقة القادرية فنعثر على بائع خمسيني يدعى فؤاد، الذي كشف لنا أنه مازال يؤمن بأصالة المنتوج المحلي و”قدرته على أن يكون عالميا، وليس فقط محليا، لكون الأجانب يغرمون به، وحتى المغاربة من الطبقة الميسورة الذين يأتون إلى أصيلة يعبرون عن غبطتهم باقتناء ورؤية منتوجات الصناعة التقليدية”.
وأوضح فؤاد، وهو يتحدث إلينا من داخل دكانه الذي لا تتعدى مساحته نحو 6 أمتار مربعة، أنه يعتبر أن الزرابي والمنشفات ومناديل المائدة المصنوعة محليا من القطن الأصلي و”الصّابرة” وباقي العناصر الطبيعيّة، “تجعل أصيلة ومناطق الشمال أيضا تتمتع بقوة حصريّة في قطاع الصّناعة التّقليدية”، مضيفا: “حين نحاول نسج هذه المنتجات، نراهن على أن تظلّ تلك المصداقية القديمة قائمة”.
وأكد المتحدث أن “صناعات النسيج تتطلب جهداً كبيراً وتركيزاً، ولكن مع ذلك يتم تقديمها بأسعار مقبولة وعادية”، موردا أن “الصّناع بأصيلة والمنطقة لا يهتمون كثيراً بالجانب المادي فقط، بل يراهنون أيضا على تقديم عنصر يحضر فيه الجانب الفني الإبداعي، لكون هذه الصّناعة هي فن قبل كل شيء، وهي تزكي جانب الزينة والديكور الذي يحضر أيضا في تفاصيل المدينة ومختلف نقاطها”.
غنى متنوع
على ناصية “القصبة”، يوجدُ مركّب خاص بالصّناع التّقليديين، يبدو اليوم شبه خال لكون العديد من الصّناع خرجوا لعرض منتجاتهم في الأسواق، حسب ما أوضحه لنا مصطفى، الذي يشتغل حرفيّا في مجال النقش على الخشب، مؤكدا أن “أصيلة تعد خزّانا لجملة من الحرف اليدويّة العريقة، كالنقش والخياطة والنسيج، وأيضا الجلد في الماضي، وهو ما يشكل تركة حضارية تميز أصيلة وتجعلها في سياق المدن المُصنّعة”.
وقال مصطفى إن “العديد من الصناعات التقليدية ليست محلية بشكل خالص، ولكنها موجودة هنا ومتوارثة، والدولة تدعمها وتشجعها عبر توفير مُركَّبات للحرفيين”، مضيفا أن “الصّانع بدوره صار يبذل جهداً كبيراً لكي يستمر في هذه الحرف بعد معرفته بأهميتها وكونها تخلق تصوراً مختلفاً عن المغرب وتعكس غناه وتنوع روافده، حتى من الزاوية المتعلقة بالحرف التي اشتغل عليها الأجداد ومنحوها رونقا خاصا حافظ على استمراريتها”.
وتابع المتحدث ذاته، الذي قابلناه قرب مركب الصناعة التقليدية بأصيلة، بأن “الجميع صار يراهن على ألا يندثر هذا القطاع الحيوي، خصوصا بعدما أنهكته جائحة كورونا وأنهكته بعدها هذه الموجة الأخيرة من غلاء الأسعار، لا سيما وأن أسراً تعيش من هذه الحرف”، ونبه إلى “كون الصناعة التقليدية صارت تواجه تحديات عدة، خاصة تحدي توافر المواد الخام التي صارت أثمنتها خارج المتناول”، وزاد: “لذلك يلجأ الصانع إلى آليات لاقتنائها بثمن منخفض، كالانتظام في جمعيات للاستفادة من الدعم”.
وأوضح الحرفي ابن مدينة أصيلة أن “هذه الحرف بطبعها مكلفة زمنيا، ولكن الحرفيين لم يرفعوا أثمنة منتجاتهم لتشجيع الزبائن وضمان استمرارية البيع”، لافتاً إلى أن هذه “الحرف اليدوية إرث لا يستهان به، ويجب تسويقه أكثر، وهو لاعب أساسي في الاستقطاب السّياحي، لكون السّياح يفتقدون للأنامل التي تصنع، باعتبارهم يعيشون في عالم [متقدم] تشتغل فيه الآلات، وهذا ما يمنح لصناعاتنا بُعداً مغايراً”.
“إقبال مشتت”
تستقطب مدينة أصيلة العديد من السياح، نظراً لثقلها التاريخي وقربها من “طنجيس”، وباعتبارها أيضاً مدينة هادئة وساحرة، لكنها تستقطب بشكل جلي عشاق الفنون، حسب ما أكدته سائحة فرنسية قابلتها هسبريس سابقاً بالمدينة العتيقة، قائلة: “هذه المدينة تحافظ على روحها، عكس العديد من المدن الأخرى التي فقدت معدنها الأصل وشكلها الأول”. لكن، هل هذا الجانب الفني بأصيلة ينعكس على استهلاك منتوجات تقليدية ذات حمولة فنية؟
بحثا عن جواب لهذا السؤال، توقفنا عند محل لبيع المنتوجات الجلدية، حدثنا صاحبه بـ”تشاؤل”؛ فتارة يؤكد “ضعف الإقبال” ويتحدث بلغة “الشّكوى”، وتارة أخرى يعلن بنبرة متفائلة أن “الوضع بخير”، وفي النهاية صارت حكاية الإقبال مشتتة عند عمر، صاحب المحل، بيد أن المثير أنه لا ينكر كون المغاربة والأجانب يتوقفون مليا عند تصفح المنتوجات الجلدية، ويقتنونها في النهاية كذكرى من المغرب أو من أصيلة.
وتحيل ملامح عمر، الذي يتكلم بحذر، إلى أن العرض السياحي لمدينة أصيلة يلعب دورا فاعلاً في تسويق المنتوج اليدوي، الذي يعرضه الرجل بوفرة، لكنه يؤكد أن “هناك أوقاتا من السنة تباع فيها المنتوجات بكثافة، فالسياح في الغالب في هذه الفترة يتجهون نحو مدن أخرى كمراكش وفاس، ولا شك أنهم سيقومون هناك أيضا باقتناء المنتوجات التقليدية، لكونها دائماً تمنح لأسفارهم طعماً خاصّا”.
وهكذا، نختتم جولتنا “التنقيبية” عن أنامل الصّناعة المغربية بعد الزوال بأحد الأزقة قرب مخرج “القصبة”، دلتنا عليه سيدة إسبانية لم تستطع التواصل معنا، فدخلنا المحل ليؤكد لنا صاحبه أن “الصناعة التقليدية بأصيلة وبالشمال صارت مهددة تدريجيا”، خصوصا وأنه، وفق ما حكى، “لم يعد نسيج الحايك ينتج هنا”، وأفاد بأنه يجلب معروضاته من الزرابي من مناطق الأطلس المغربي لعرضها في أصيلة أو لإعادة توجيهها نحو الخارج.
وذكر المتحدث، واسمه أنس، أن “الصناعة التقليدية بأصيلة تضررت مؤخراً بسبب غلاء الأسعار، وصار الإقبال عليها ضعيفا، ولم تعد مغرية بالنسبة للعديد ممن يمارسونها، وتحولت اليد النشطة في هذه الحرف نحو مصادر دخل أخرى”، متوقعا، في النهاية، أن تتضرر صناعة المنتوجات التقليدية أكثر بمنطقة الشمال إجمالاً، لكون الأهمية التي كانت تولى لهذه الحرف باتت تخفتُ تلقائيا لدى نسبة مهمة من الجيل الحالي.
المصدر: وكالات