صلةٌ مباشرة لموضوع “الشعر والشر” بالشِّعرية العربية، يشرّح معالمها أحدث مؤلفات الناقد والشاعر المغربي محمد بنيس، الذي كتب أن هذه الشعرية قد تقاطعت “عبر تاريخها الطويل مع موقف الإسلام من الشعر والشعراء؛ فالقرآن والسنّة هما مصدر هذا الموقف الديني الذي كان له تأثير، باتجاهات مختلفة، في مسار الشعر والمعرفة الشعرية على السواء.”
جاء هذا في كتاب “الشعر والشر في الشعرية العربية”، الذي أود أن “بدايات البناء النظري لنقد الشعر عند العرب” قد شهدت في القرن الثاني للهجرة، الثامن الميلادي، ربط الأصمعي “بين الشعر والشر”، في قولة له “يلخص فيها تعريفه للشعر” ويرصد “الطريقة التي مثّله بها حسان بن ثابت بين الجاهلية والإسلام.”
وفي متن الكتاب، يقف بنيس عند هذه القولة في ثلاثة مواضع؛ أولها “الشعر والشعراء” لابن قتيبة، الذي نقل عن الأصمعي قوله “الشعر نكدٌ بابُه الشرّ، فإذا دخل الخيرَ ضعُف، هذا حسّان [بن ثابت] فحلٌ من فحول الجاهلية، فلما دخل الإسلامَ سقط شعْرُه”، كما أضاف ناقلا عن العلَم نفسه: “شعرُ حسان في الجاهلية من أجوْدِ الشعر، فقطع متْنه في الإسلام، لحَال النبي صلى الله عليه وسلم.”
ويورد بنيس القولة في صيغة أخرى في “الموشح” للمرزباني، الذي روى عن الأصمعي قوله: “طريقُ الشعر إذا أدخلته في باب الخيْر لانَ؛ ألاَ ترى أنّ حسان بن ثابت كان علَا في الجاهلية والإسلام، فلما دخل شعرُه في باب الخيْر ـ من مراثي النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم ـ لانَ شعْرُه. وطريقُ الشعْر هو طريقُ شعْر الفحول، مثلِ امرئ القيس، وزهير والنابغة، من صفات الديار والرّحْل، والهجاء والمديح، والتشبيب بالنساء، وصفَة الخمر والخيل والحروب والافتخار؛ فإذا أدخلتَه في باب الخيْر لاَن.”
أما ثالث الروايات فنقلت عن كتاب “ألف باء” أبي الحجاج يوسف البلوي الأندلسي، ونُقل فيها عن الأصمعي قوله: “الشعر نكدٌ يقْوى في الشرّ ويسْهل، وإذا دخل في الخير ضعُف ولاَن، هذا حسان فحلٌ من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعْرُه.”
ثم يعلق بنيس بعد تأمل في هذه الروايات: “عندما نقف لتأملها ثلاثتها، الأولى لابن قتيبة والثانية للمرزباني والثالثة للبلوي، نلاحظ تقارباً بين الأولى والثالثة، وتبايناً لافتاً بينهما وبين الثانية. فالروايتان، الأولى والثالثة، تتميزان بإيراد كلمتي “الشعر” و”الشر”، وهما أيضاً تثبتان حكماً قطعياً على شعر حسان بأنه “سقط” عندما دخل (أو جاء) الإسلام. أما الرواية الثانية فلا وجود فيها لكلمة “الشر”، كما أنها تحكم على شعر حسان بأنه “علا” في الجاهلية والإسلام، لكنه “لاَن” (بدلاً من “سقط”)، عندما دخل في باب الخير، الذي عيّنه بمراثي المسلمين، وعلى رأسهم مراثي النبي.”
هذه القولة يصفها بنيس بـ”المسكوت عنها في الثقافة العربية القديمة”، ويقول: “ما كتبه بخصوصها بعضُ الدارسين الحديثين يتركها ضمن اللامفكر فيه، لأنه لم يتجاوز حدود التعليق الصحفي أو التبرير الكسول. وعودتي، اليوم، إلى تناولها، تأتي بعد أكثر من ثلاثين سنة على دراستي عن الشعر العربي الحديث، التي كنت فيها وضعت خطاطة لشعرية عربية مفتوحة، وفي ضوئها قمتُ بمراجعة مسلمات أو تفكيك مفاهيم وأحكام، نقدية ونظرية، تنبّه، هنا وهناك، على ما كنت أعطيته، آنذاك، تسمية الشعرية العربية المكبوتة.”
والموضوع الذي يتناولَه كتاب “الشعر والشر” بتعبير كاتبه “موضوع ذو حساسية شديدة في زمننا، الذي هو زمنُ المغْلق الدينيّ والسياسيّ الذي لا يزداد إلا انغلاقاً، من حيث حرية التفكير والتعبير”، ثم يسترسل معلقا: “الغريب أنه تجسدتْ أمامي، وأنا أتنقّل بين أعمال شعراء ونقاد وفلاسفة ومتصوفة، عرب ومسلمين، عصورُ الحضارة العربية التي كانت حرية التفكير والتعبير فيها محصَّنة أكثر مما هي عليه في زمننا الحديث.”
ويذكر بنيس في متن المؤلف الجديد أن “الشعر” و”الشر” كلمتان “تكادان، في العربية، تتطابقان خطياً وصوتياً، في آن. حرف “العين” وحده في كلمة “الشعر” هو الذي يفصل خطياً بين الكلمتيْن، اللتيْن تظلان صوتياً و(صرفياً) متساويتيْن. وهذا التقارب ـ التباعد (الجناس الناقص) لا يغريني، الآن، فقط بإعادة قراءة الشعرية العربية في ضوء هاتيْن الكلمتيْن، بقدر ما يغريني أيضاً بالتعرّف على مغامرة الشعرية العربية التي لا نزال في بداية استكشافها.”
ثم يوضح أن القراءة، التي اعتمدها، “ترتكز على اللغة العربية، أولاً، ثم على الثقافة العربية التي ارتبطتْ بهذه اللغة، عبر تاريخ طويل وعبر خطابات مختلفة، تجمع بين الشعر والقرآن والحديث وفقه اللغة والنقد والبلاغة وعلوم القرآن، وما كان لها من صلات، متآخية أو متنافرة، مع الفلسفة والتصوف”، حتى “تتحرر وجهة نظر اللغة العربية في الشعرية من أيِّ اختزال إلى مرجعية ثقافية من خارجها”، بهدف “عدم الانسياق وراء البحث في ثقافة الآخر، الغربي، عن حجة للقراءة التي نعتمدها للثقافة العربية”، ولو أن هذا لا ينفي “إمكانية الإنصات” إلى الآخر “والحوار معه كلما أمكن”، بل إن هذا الموقف المنهجي هو ما يهيّئ إمكانية التفاعل هذه، دون “الانسياق وراء حقيقة ثقافة الآخر”؛ لأن الانسياق الخاطئ يحول دون “الإنصات لخصيصة الثقافة العربية”، مما يحول دون “أن نفكّك ثقافتنا ونعيد بناءها”.
وفي اشتغاله على “الشعر والشر في الشعرية العربية”، يخطّ بنيس أن “انعدام ضغط الزمن” ولّد إحساسا بالمتعة وهو يبحث في الموضوع؛ لأن “ما أقبلتُ عليه كان استجابة لرغبة داخلية، متخلصة من أيّ التزام خارجي”؛ وهو ما سمح له بـ”تأمل الشعرية العربية من مكان الشعر والشر، الذي هو لا وعيُها، فيما استكشافُه يدلّ على طرق لتحرر الفكر لا تزال مجهولة في ثقافتنا.”
ثم يختم تمهيده بالقول: “لهذا أتقدم بما أقترحه من قراءة وأنا مدركٌ أنها قد تبقى في مكان المنسيِّ، إنْ هي لم تنل ما ناله سواها، عبر تاريخنا الثقافي، من جفاء لا فائدة في تكرار ما كتب عنه. ولأن الرحيل علّمني أن الزمن منفتح، فلا أستعجل أنْ تعثر هذه الدراسة في القريب على زمنها، رغم أنني معنيٌّ بزمني وبما يمكن أن يكون لي زمنَ حوار وتقاسُم.”
المصدر: وكالات