قال المنتصر السويني، باحث في العلوم السياسية والمالية العامة، إن “طبيعة ونوعية العقل المبدأ الذي يحكم ويؤطر التصور والفعل بالنسبة للعقل الاستراتيجي، كانت تفرض على العقل الحكومي التأقلم على العيش في الزمن الحاضر والزمن المستقبلي، من خلال العمل على تحيين حقيبة أفكاره لتكون متناسقة مع مغرب الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي”.
وتطرق السويني، في مقال له بعنوان “العقل الحكومي المغربي واحتجاجات مغرب الأنظمة الأساسية”، إلى ثلاثة محاور كبرى، أشار من خلالها إلى “عجز العقل الحكومي المغربي عن ابتكار مشروع جديد قادر على إدماج مغرب الأنظمة الأساسية داخل مشروع مغرب الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي”، و”عجز الحقل الحكومي المغربي عن إقناع مغرب الأنظمة الأساسية بضرورة تطبيق الدستور السياسي والدستور المالي”، و”العقل الحكومي والعجز عن تمهيد الطريق لأفكار قرن الاقتصاد وقرن المقاولين”.
نص المقال:
الأحداث التي عرفها المغرب مؤخرا المرتبطة باحتجاجات مغرب الأنظمة الأساسية، كانت فرصة حقيقية للمتتبع والمهتم بالشأن العام المغربي للقيام بقراءة لكيفية مواجهة المشاكل وكيفية البحث عن الحلول من داخل مربع العقل الحكومي.
الاهتمام كان منصبا بالأساس حول معرفة ما يطلق عليه نظام الأفكار ونظام المعرفة ونظام الكفاءة ونظام الثقافة (الموارد المعرفية-الموارد المرتبطة بمنظومة الأفكار-الموارد المرتبطة بالكفاءة) الذي سيوظفه العقل الحكومي المغربي في مواجهة الاحتجاجات المرتبطة بمغرب الأنظمة الأساسية، وكذلك نوعية الحلول التي سيقترحها، خصوصا وأن نوعية الحلول المقترحة لها تأثير كبير على تناسق وتناغم منظومة الأفكار ومنظومة المعرفة ووحدة الأهداف ما بين المستوى التقريري (العقل التقريري) والمستوى الحكومي (العقل الحكومي) من جهة، ومن جهة أخرى لها تأثير كبير على السرعة التي ستحكم إيقاع الحركة الخاص بمغرب الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي (حتى لا ترسخ نوعية الحلول المقترحة من طرف العقل الحكومي مغرب السرعتين ومغرب الثقافتين).
يقول الكاتب الفرنسي رينيه دي شاتوبريان إنه في كل اللحظات التاريخية للدول هناك ما يطلق عليه “العقل المبدأ”، والعقل المبدأ بالنسبة للمغرب في القرن الواحد والعشرين كان عقلا مهتما بالأساس بإنجاح استراتيجية الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي التي تعتمد على ثنائية “الانفتاح-المقاولة”، مع العلم أن الانخراط في النظام العالمي يطرح إشكالية القواعد التي تنظم التناسق بين الدولة الوطنية وبقية العالم.
طبيعة ونوعية العقل المبدأ الذي يحكم ويؤطر التصور والفعل بالنسبة للعقل الاستراتيجي، كانت تفرض على العقل الحكومي التأقلم على العيش في الزمن الحاضر والزمن المستقبلي، من خلال العمل على تحيين حقيبة أفكاره لتكون متناسقة مع مغرب الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي، وبالتالي كان العقل الحكومي المغربي أمام خيارين: إما العمل من أجل مغرب المستقبل، وبالتالي تعزيز الاشتغال تحت سقف ثنائية “العقل التقريري-العقل الحكومي”، مما يعني الانتصار لعقل التدبير المنفتح على العالم وعقل الحداثة التدبيرية، أو العمل تحت سقف مغرب الماضي من خلال الاشتغال تحت سقف “العقل الحكومي-العقل الإداري، وخصوصا عقل مغرب الأنظمة الأساسية”، والانحياز بالتالي للعقل المحافظ وعقل الانغلاق والتقوقع على الذات.
يقول التاريخاني فرناند بروديل إن “الحضارات تحدد من خلال الرقعة الجغرافية والاقتصاد والمجتمع والعقلية الجماعية”.
قدرة المغرب على إنجاح استراتيجية الاستيقاظ الجيو-استراتيجي والجيو-اقتصادي كانت مرتبطة بشكل وثيق بالقدرة على إعادة بناء ثقافة اقتصادية وثقافة تدبيرية جديدة، وبناء عقلية جماعية جديدة يثبت من خلالها العقل الحكومي المغربي مساهمته في إنجاح استراتيجية الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي مع العمل على إدماج مغرب الأنظمة الأساسية في ديمقراطية العمل من خلال ترسيخ العقلية الجماعية المغربية التي تخدم الهدف المتعلق ببناء مغرب المستقبل من خلال تناسق الفعل وتناسق الأهداف بين الثلاثي المكون من “العقل التقريري”، “العقل الحكومي”، و”العقل الإداري”.
لهذا، كان التحدي المطروح على العقل الحكومي المغربي يتمثل أولا في مدى قدرته على الانخراط في تعزيز وتقوية الثقافة الاقتصادية الجديدة والعقلية الجماعية الجديدة القادرة على تمكين المغرب من إنجاح استراتيجية الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي، والقادرة كذلك على إدماج مغرب الأنظمة الأساسية داخل هذه الاستراتيجية، كما أن العقل الحكومي كان مطالبا كذلك بالبرهنة على أنه عقل مهيئ بشكل جيد لتدبير الأزمات وتدبير التعقيد المرتبط بمواجهة التحديات المتعلقة ببناء مغرب المستقبل ومغرب الغد، وكذلك بكيفية التعامل مع ردود الفعل التي من المتوقع أن يقوم بها مغرب الماضي.
القدرة على مواجهة هذه التحديات كانت مرتبطة بشكل وثيق بقدرة العقل الحكومي المغربي على الانتقال من عقل نيوتن (عقل البساطة والعقل المرتبط بالتدبير في محيط مغلق) إلى عقل اينشتاين (عقل التعقيد والعقل المرتبط بالتدبير في المحيط المفتوح)، لأن وحده عقل اينشتاين بإمكانه ترسيخ العقل المتمرس على تدبير التعقيد وإيجاد الحلول للأزمات والوضعيات الصعبة التي تجتاح المجتمعات المستيقظة والمتحركة والمتوجهة نحو المستقبل.
كما أن وحده العقل المتمرس على تدبير التعقيد والبحث عن الحلول بإمكانه شرعنه استراتيجية تدريجية تمكن من دمج مغرب ديمقراطية التوزيع (مغرب الأ+نظمة الأساسية) داخل مغرب ديمقراطية العمل (مغرب الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-استراتيجي).
عجز في الابتكار
لا يمكن الحديث عن مغرب الأنظمة الأساسية دون التأكيد على حقيقة أساسية مرتبطة بكون مغرب الأنظمة الأساسية هو مغرب مرتبط ارتباطا وثيقا بمغرب ما قبل المرحلة الدستورية (قانون الوظيفة العمومية صدر سنة 1958)، وأن حقيبة أفكار مغرب الأنظمة الأساسية هي حقيبة أفكار تستمد شرعيتها من قرن المساواة وقرن العمل وقرن السياسة، وكذلك من عالم القطبية الثنائية وعالم الحرب الباردة وعالم جدار برلين.
كما أن حقيبة أفكار مغرب الأنظمة الأساسية تعتمد على ترابط معين ما بين دولة القانون ودولة الصرف التي تؤطر الشكل الوظيفي الذي من خلاله تتمكن الدولة من تدبير الموارد الضرورية لتمويل مصاريفها، وبالتالي هو مغرب يستمد حقيبة أفكاره من قرن الديمقراطية، وكذلك من حقيبة أفكار قرن العمل، ومن المعروف أن قرن الديمقراطية قد عمل على بناء مجتمع المساواة في الميدان السياسي مع الانتقال بالمساواة من الميدان السياسي (الاقتراع العام باعتباره تصويتا جماعيا) إلى الميدان الإداري من خلال ترسيخ التوظيف الجماعي والعمل على شرعنه عالم الأنظمة الأساسية (وفي هذا السياق وجب التذكير بتصريح أحد النواب الفرنسيين في إطار التصويت على قانون النقابات بفرنسا سنة 1884، أكد فيه أن البضاعة التي تسمى العمل كانت تباع سابقا بالتقسيط من خلال التشغيل من خلال العقود، ولكن هذه التجارة ستباع منذ اليوم من خلال تجارة الجملة، ومن خلال ترسيخ الحماية من خلال الأنظمة الأساسية).
البناء النظري الذي كان يسند قرن العمل من خلال ثنائية “المساواة-الحماية” كان في حاجه إلى نظرية ماكرو-اقتصادية تسنده وتوفر له تمويلا معينا في إطار الترابط ما بين نوع الدولة ونوع الاقتصاد، وبالتالي وجد منظرو قرن العمل وقرن المساواة في النظرية الماكرو-اقتصادية الكينزية النظرية القادرة على إسناد دولة “المساواة-الحماية”.
وإذا كانت أي نظرية للدولة السياسية في حاجة إلى نظرية للدولة في الميدان الاقتصادي وكذلك نظرية للدولة في الميدان المالي، أو ما يطلق عليه الاقتصاد المالي الضريبي، فإن الباحثين المؤمنين بقرن المساواة وقرن العمل ابتدعوا ما يطلق عليه “الضريبة التوزيعية”، حتى يتم إسناد ثنائية “المساواة-الحماية” من خلال ثنائية “المساواة-التوزيع”، العمل على شرعنه الضريبة باعتبارها توزيعا وتضامنا، وليس الضريبة باعتبارها تبادلا (أداء المواطن للضريبة باعتبارها ثمنا مقابل خدمة عمومية) كان يستهدف بالأساس بناء دولة المساواة والحماية.
حقيبة الأفكار التي تعتمد على ثنائية “المساواة-الحماية”، وثنائية “المساواة-التضامن” وثنائية “الإرادة العامة-الإرادة الفئوية”، كانت تنسب النجاح الإداري والنجاح التنظيمي للمؤسسات ومساطيرها التدبيرية، وليس للقدرات الشخصية. وفي هذا السياق، سيؤكد الباحث جون كلبرايت أن القدرات التنظيمية والمساطر التدبيرية هي أسس النجاح، وأن القدرات الخارقة والمتميزة للأشخاص لا دورها لها وأن لا فرق بين الشخص العادي والشخص المتميز، مما يؤكد أن هذا البناء النظري أنكر بشكل قطعي إمكانية استفادة الأفراد من إبداعاتهم ومواهبهم، وجعل القيمة المضافة لهذه الإبداعات وهذه الابتكارات (الشخصية) ملكا للمجموعة، لأن ثقافة الإبداع والموهبة لم يكن لها مكان في عالم “الشخص الجماعي المنتمي لإحدى الأنظمة الأساسية الخاصة”.
هذا البناء النظري كانت نقطة ضعفه الكبيرة تكمن في كيف نجعل الموظف النظام الأساسي في خدمة البرنامج الحكومي وخدمة المواطنين، مع العلم أن فكرة “الشخص-المجموعة” و”الشخص-الأنظمة الأساسية” فشلت على مستوى جعل هذه المنظومة قادرة على تحقيق الفعالية والمصلحة العامة، وفشلت كذلك في تعزيز “قوة العمل أمام الرأسمال”.
الشخص النظام الأساسي رسخ وعمم الشخص الكسول والشخص الحقوق والشخص المحمي، وبالتالي تم تبني تفسير الفقر بالكسل (وهو التفسير الذي اجتاح أمريكا أولا وانتقل بعد ذلك إلى أوروبا) بدل ربط الفقر بغياب العدالة الاجتماعية. الباحث والفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك سيؤكد أن تدبير الدولة تم تسميمه بالفكر الكينزي وأن ترسيخ الضريبة التصاعدية هو بمثابة سياسات التأميمات في الفكر الاشتراكي، وأن الدولة الحامية هي فقط الدولة التي يعيش فيها الأشخاص غير المنتجين على حساب الأشخاص المنتجين.
قرن الرأسمال سيرسخ ما يطلق عليه الرأسمالية الفردية، بدل الرأسمالية التنظيمية، من خلال علاقة جديدة بالسوق وبدور المساهمين، وسيرسخ كذلك طريقة جديدة للعمل من خلال تجاوز “الشخص الجموع” إلى “الشخص الفرد”، وعمل بالتالي على إعادة الاهتمام بالمميزات الفردية للشخص وقدراته وإبداعه بدل التركيز على انضباطه واتباعه للتعليمات وتنفيذه للأوامر، وتم الانتقال من مفهوم “الشخص المنضبط” إلى “الشخص الكفؤ” والانتقال كذلك من “الشخص العام” إلى “الشخص الفرد” (الموهبة الفردية-المجهود الشخصي-الابداع الشخصي-الاستحقاق الفردي-النتيجة المحققة-القيمة المضافة الشخصية)، واستهدفت كذلك ترسيخ الإرادة الفردية في مواجهة الإرادة الجماعية التي يرسخها مغرب الأنظمة الأساسية، مما مهد للانتقال إلى عالم يتميز بشخصنة الفعل العمومي، وبالتالي الاعتماد على ثنائية “الشخص الفعل العمومي-النتائج على أرض الواقع” بدل “أشخاص الأنظمة الأساسية-الفعل العمومي”، والانتقال كذلك من التوظيف بالجملة إلى التوظيف بالتقسيط، والانتقال من التوظيف من خلال القرار إلى التوظيف من خلال التعاقد، والانتقال كذلك من فكر كينز إلى فكر شومبيتر وفريدمان وحايك، وتم الانتقال أيضا من عقيدة المساواة إلى المنافسة ومن انتظار عدالة سياسة التوزيع إلى العمل من أجل البحث عن الربح وتطويره.
الباحث ستيفان مايار سيؤكد أن الغد هو للشخص الحر، لأن وحده الشخص الحر شخص مبدع، وأن شخص الأنظمة الأساسية هو شخص تابع وشخص مكبل وشخص غير قادر على الإبداع ولا يتوفر على التحفيز الذي يحرك ويطور ملكة الإبداع. وبالتالي، فإن منظومة التفكير والنظرية المعتمدة على شخص-النظام الأساسي أنتجت لنا فقط الشخص العادي، وسيؤكد كذلك أن شخص الأنظمة الأساسية في عالم اليوم انتقل إلى الصفوف الخلفية وترك كوكبة المقدمة للشخص الحر والشخص العقد والشخص القادر على مواجهة المجهول ومواجهة العولمة والتأقلم معها والشخص المقتنع بأن فقط إمكانياته الشخصية قادرة على تمكينه من مواجهة عالم المخاطر والشخص الذي يريد أن يقيم انطلاقا من تقييم نتائج عمله على أرض الواقع والنتائج التي يحققها.
العقل الحكومي المغربي كان مطالبا بالعمل على صياغة استراتيجية وسطية تدمج ثنائية التوزيع والعمل من خلال بلورة حقيبة أفكار تؤطر الانتقال من العالم المعتمد على ثنائية “التوزيع-مغرب الأنظمة الأساسية” إلى ثنائية “التوزيع والعمل-عالم الأنظمة الأساسية” رغم أن الأمر لم يكن سهلا على الاطلاق، وخصوصا أن مجموعة من الباحثين قد أكدوا أن أكبر صعوبة تواجه انطلاق الدول هي الصعوبة المرتبطة بالتعامل مع الأنظمة الأساسية (في مقال له يحمل عنوان “الأسباب الرئيسية للمرض الفرنسي”، لم يتردد الكاتب فانسون بيرنار في تشخيص المرض الفرنسي الذي يعيق تحديث الدولة في فرنسا في: أولا، الأنظمة الأساسية، ثم نخب فرنسا المعجبة بالنظرية المدمرة لكينز، وبعد ذلك فرنسا النخب البيروقراطية، وفي الأخير فرنسا إرشاء الأحزاب والنقابات والصحافة من خلال الدعم)؛ لأنها تمثل الجزء المدلل من المجتمع من خلال الحماية التي تتمتع بها في ظل عالم الأنظمة الأساسية، بينما الجزء الأكبر من المجتمع الذي لا يعمل في القطاع العام لا يشتغل تحت سقف الأنظمة الأساسية (مما دفع مجموعة من الدول إلى ترسيخ المساواة بين المواطنين عبر إلغاء قانون الوظيفة العمومية والأنظمة الأساسية المنبثقة عنه وترسيخ المساواة بين الجميع أمام قانون الشغل، وخصوصا التجربة السويدية)، هذه الحماية وهذا التدليل رسخا في واقع الأمر وجود جزء كبير من المجتمع حولته الحماية التي يتمتع بها إلى جزء خائف وجزء محافظ (يحافظ على الامتيازات التي يتمتع بها) وينتفض بقوة أمام أي رياح متعلقة بالمساواة أو رياح تستهدف نقله من مربع الكسل إلى مربع العمل أو رياح تنقله من الشخص الجماعي إلى الشخص الفرد أو رياح تخضعه لقياس نتائج العمل التي يؤديها للمجتمع الذي يمنح له الحماية.
الباحث جيل بريكر سيؤكد أن انطلاق الدول نحو المستقبل مرتبط بترسيخ الحداثة من خلال القبول بتدبير المخاطر، وبالتالي التجارب الناجحة على المستوى العالمي هي التجارب التي استطاعت الانتقال من ثنائية “السياسية-الحماية” إلى ثنائية “السياسة-تدبير المخاطر”. ولكن للأسف، الحلول التي رسخها العقل الحكومي كانت كلها حلول من الماضي وحلول تحت سقف ثنائية “السياسة-الحماية”، مما يثبت أن العقل الحكومي المغربي فضل الاشتغال تحت سقف الماضي وثنائية “العقل الحكومي-العقل الإداري، وخصوصا عقل الأنظمة الأساسية” من خلال المصادقة على نظام أساسي بعيد كل البعد عن ترسيخ سقف العمل وسقف النتائج وسقف ربط الراتب بنتائج العمل.
عجز في الإقناع
دستور 2011 من خلال التنصيص على الجهوية المتقدمة كان في الحقيقة ينقلنا من مغرب الدولة المركزية إلى مغرب الجهات، ويفرض بالتالي على الوظيفة العمومية التقليدية المرتبطة بمغرب الدولة المركزية ضرورة التأقلم مع مغرب الجهات، وبالتالي كان دستور الجهوية المتقدمة يفتح الطريق نحو صعود نجم الإدارة الجهوية والوظيفة الجهوية والمنصب الجهوي والموظف الجهوي، وهو الطريق الذي تم توضيح هندسته التنفيذية عبر المرسوم بمثابة ميثاق اللاتمركز الإداري من خلال تبني الجهوية.
كما أن مغرب التقييم كان يفتح الطريق نحو تقييم وقياس الفعل العمومي على أرض الواقع من خلال قياس أثره، وبالتالي كان المفروض شرعنه قياس الفعل الذي يحدثه عالم الأنظمة الأساسية.
كما أن تبني المغرب سنة 2015 القانون التنظيمي للمالية كان يفتح المجال أمام تنزيل التدبير من خلال الأهداف، مما كان يفرض لزاما ترسيخ التعاقد بين الدولة والموظف على تحقيق الأهداف المسطرة وعلى النتائج المطلوب تحقيقها التي تحقق المصلحة العامة وترضي المواطن الزبون والمواطن دافع الضرائب، مما كان يفرض ضرورة ربط الراتب بالنتائج المحققة.
ثنائية “الدستور-القانون التنظيمي للمالية” من خلال التنصيص على الجهوية المتقدمة والتقييم والثقافة المعتمدة على النتائج، كانت تلزم العقل الحكومي المغربي بالعمل على ابتكار حوار اجتماعي تحت سقف الدستور السياسي وكذلك الدستور المالي، وفي الأخير سقف إنجاح استراتيجية الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي، مما كان يعني أن العقد الاجتماعي باعتباره وثيقة مركزية للمواطنة كان من المفروض إعادة النظر في محتواها من خلال إبداع خيال إصلاحي حكومي في مواجهة الخيال المحافظ لمغرب الأنظمة الأساسية، مع العمل كذلك على مواجهة جاذبية الخيال المحافظ من خلال ابتكار جاذبية قوية للخيال الإصلاحي من خلال ثنائية “الخيال الاصلاحي-تقييم مغر للعمل”.
ترسيخ مفهوم للحماية جديد يفتح الباب نحو ثنائية “الحرية-المخاطر”، خصوصا وأن مجموعة من الباحثين، منهم ايمانويل لورونتان، سيؤكدون أنه يجب العمل على تحويل غالبية المجتمع من مربع الخوف والرهبة والتقوقع إلى الجزء الذي يقبل بتدبير المخاطر من خلال التدبير المرن لثنائية “السياسة-المخاطر” لأنه الطريق الوحيد نحو الحداثة، مع العلم أن تبني الخيار الحداثي كان مرتبطا في جزء كبير منه بالقبول بالمخاطر وبترسيخ ثنائية “الدولة-السوق”، وبالتالي إعادة رسم العقد الاجتماعي بما يضمن خلق توازن جديد ما بين التضامن الوطني والمسؤولية الفردية، حتى يبقى هذا العقد الاجتماعي الجديد تحت سقف الدستور الجديد والدستور المالي الجديد والثقافة التدبيرية الجديدة ومغرب استراتيجية الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي، خصوصا وأن المغرب الجديد كان في حاجة ماسة إلى ثقافة تدبيرية بالنسبة للمستوى المكون من الثنائي “الحكومة-الإدارة” تسند مغرب الانفتاح ومغرب الغد من خلال ترسيخ واقع ماكرو-اقتصادي جديد يستفيد من التجارب الدولية، خاصة هولندا والدانمارك، حيث تم الانتقال من نظام الحماية إلى نظام للحماية مرن ونظام للرواتب مرن كذلك من خلال ثنائية “الحماية-العمل”، وبالتالي نصف الراتب قار والنصف الآخر يستحق من خلال قياس النتائج المحققة على أرض الواقع والأثر الذي تتركه السياسات العمومية على المواطن ودافع الضرائب والمرتفق أو الزبون، هذا النظام المرن للحماية والنظام المرن للعمل هو الذي منح وجها إنسانيا لما يطلق النظرية الماكرو-اقتصادية الجديدة.
من جهة أخرى، كان الدستور المالي ومغرب الفعالية يرسخان تراجع نفوذ وزارة الوظيفة العمومية داخل الثلاثي الذي كان يشرف على بلورة الحوارات الاجتماعية (رئيس الحكومة-وزارة المالية-وزارة الوظيفة العمومية) وتعزيز نفوذ وزارة المالية. أفول نجم وزير الوظيفة العمومية داخل العقل الحكومي المكلف بالحوار الاجتماعي كان يعني تراجع المكون الثقافي الإداري المعتمد على “القانون الإداري-الوظيفة العمومية والأنظمة الأساسية” داخل حقيبة أفكار العقل الحكومي، ولكن في مقابل ذلك كان الكل ينتظر تجديد حقيبة أفكار العقل الحكومي المكلف بالحوار الاجتماعي المرتبط بالسياسات العمومية والتقييم والفعالية ومغرب الجهات والأهداف والنتائج، ولكن اتضح من خلال الحوار الاجتماعي مع مغرب الأنظمة الأساسية أن أفول نجم ودور العقل الوزاري المرتبط بالوظيفة العمومية (وزارة منتدبة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة) باعتباره العقل المدبر لمغرب الأنظمة الأساسية، لم يتم تعويضه بصعود نفوذ العقل الوزاري المالي في شقه المرتبط بالعقل التدبيري الجديد المسؤول عن تنزيل مغرب الفعالية ومغرب ديمقراطية العمل.
دستور 2011 والدستور المالي واستراتيجية الاستيقاظ الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي كان من المفروض أن تمنح للحوار الاجتماعي كنها حداثيا متوجها نحو المستقبل ومحتوى يعتمد على الربط بين ترسيخ الفعالية والزيادة في الرواتب من خلال قياس النتائج التي تبقى وحدها قادرة على تحقيق المصلحة العامة المرتبطة بتحقيق مصلحة المواطن ودافع الضرائب والمرتفق، وباعتبارها كذلك تساهم في بناء حوار اجتماعي مع مغرب الأنظمة الأساسية يندرج تحت سقف بناء مغرب المستقبل والمغرب الحداثي.
عجز تمهيد الطريق
وجب التأكيد كذلك أن احتجاجات مغرب الأنظمة الأساسية تصدرتها كذلك احتجاجات ما يمكن أن يطلق عليه مغرب الأساتذة. تصدر مغرب الأساتذة احتجاجات مغرب الأنظمة الأساسية كان طبيعيا نظرا للوزن الكمي والعددي، وكذلك لكون نخب الأساتذة يمثلون الكوكبة الأولى التي تحمل مشعل الدفاع عن قرن السياسة وقرن المساواة وقرن التوزيع، وباعتبارهم كذلك النخب الأكثر استفادة من امتيازات قرن السياسة.
في هذا السياق، سيؤكد مجموعة من الباحثين أن الأساتذة يعتبرون من النخب المدللة لقرن السياسة وقرن المساواة (الباحثون الفرنسيون يربطون ما بين نهاية عصر رجال الدين وبداية عصر الأساتذة “افول نجم جمهورية رجال الدين وصعود نجم جمهورية الأساتذة”). وفي هذا الصدد، وجب التذكير بالكتاب الذي أصدره الباحث الفرنسي البير تيبودي والذي يحمل عنوان “جمهورية الأساتذة”، الصادر سنة 1927 في أوج ترسيخ سلطة قرن السياسة، حيث عمل الكاتب على تسليط الضوء على الأهمية الكمية والنوعية داخل الجسم السياسي الفرنسي للأساتذة، من خلال الإشارة إلى التأثير القوي للأساتذة على الشعب الانتخابي، وبالتالي على المؤسسات السياسية (البرلمان-الحكومة) وكذلك الأغلبية والمعارضة.
تسيد الأساتذة لقرن العمل وقرن السياسة وحضورهم القوي من داخل الشعب الاحتجاجي ومن داخل الشعب الحاكم، يجب فهمه كذلك من خلال نظريات الفيلسوف الإيطالي أنطونيو كرامشي الذي كان يرى أن نشر ثقافة الطبقة العاملة يتطلب التواجد في المؤسسات التي تهتم بتكوين العقول (المدارس-الإعلام-الحقل الثقافي)، وبالتالي وجدت نخب الأساتذة الطريق ممهدا أمامها في قرن السياسة لقيادة المشهد السياسي في مجموعة من الدول، سواء داخل المشهد الأغلبي أو المشهد المعارض، ولكن قرن الاقتصاد وقرن الرأسمال عملا على سحب البساط من جمهورية الأساتذة، وعملا في المقابل على تعبيد الطريق للنخب المرتبطة بالرأسمال. وفي هذا السياق، يؤكد الاقتصادي الفرنسي جاك اطالي أن نخب الحماية ونخب الريع ونخب التوزيع عليها أن تتهيأ للرياح الغاضبة التي تحمل معها التقدم الاقتصادي واقتصاد الامولة والتقدم التقني والعالم الرقمي والعولمة حيث البقاء للأكفأ والأقدر والأجدر. ويضيف الاقتصادي اطالي أن هذه الرياح تمهد الطريق بقوة لنخب المقاولين ونخب المبتكرين ونخب المبدعين الاقتصاديين ونخب أصحاب الرأسمال، وتعمل بالتالي على نقل قيادة زمام المبادرة من جمهورية الأساتذة إلى جمهورية المقاولين، مما يعني أن النخب المدللة الجديدة للسياسات العمومية التي أفرزها قرن الاقتصاد وقرن الرأسمال، هي نخب المقاولين.
مساهمة قرن الاقتصاد وقرن الرأسمال في نقل الزعامة من نخب الأساتذة إلى نخب المقاولين كان من المتوقع أن لا يقف فيه الأساتذة ومعهم مغرب الأنظمة الأساسية موقف المتفرج أمام تراجع نفوذهم، وبالتالي كان الكل يتوقع أن يعمد مغرب الأنظمة الأساسية إلى فتح المعركة التي تستهدف البقاء تحت سقف امتيازات قرن السياسة وقرن المساواة وقرن التوزيع ورفض ميزان القوى الجديد الذي أفرزه قرن الاقتصاد وقرن الرأسمال، وحتى إن لم ينجحوا في إيقاف انخراط المغرب في قرن الرأسمال، العمل على الأقل من أجل فرملة هذا الانخراط.
وفي هذا السياق، فان قراءة متأنية في الشعارات التي تسيدت المشهد الاحتجاجي بالمغرب المرتبطة أساسا بثنائية “السحب –التجميد” أتثبت بما لا يدع مجالا للشك بحث قوى مغرب الأنظمة الأساسية عن توقيف انخراط المغرب في قرن الرأسمال والعودة إلى قرن العمل، أو على الأقل فرملة هذا الانخراط من خلال إبطاء سرعته عبر رفع شعار ثنائية “السحب-التجميد” أو ثنائية “العودة للماضي-التوقف عن الفعل” المتعارف عليها داخل مجتمع القانون، هذه الثنائية كانت في طبيعتها ثنائية متناقضة مع قانون الوجود، حيث إن قانون الوجود هو قانون تحكمه الحركة والفعل وثنائية “الحاضر-المستقبل”.
رفع مغرب الأنظمة الأساسية لشعارات السحب والتجميد، كانت تؤكد أن الحركة الاحتجاجية من خلال السحب باعتباره عودة إلى تاريخ الفعل من أجل سحبه، وبالتالي في علم التدبير السحب يستهدف العودة للماضي. أما من خلال التجميد الذي يعني إيقاف العمل بتصور معين للفعل، فإن الحركة الاحتجاجية كانت تستهدف إيقاف الحركة وإيقاف الفعل من أجل تمرير مرسوم تحت سقف ثنائية “المساواة-الحماية”، وبالتالي مرسوم من الزمن الماضي.
الخلاصة
الأزمة المرتبطة بمغرب الأنظمة الأساسية نبهت المتتبع والباحث المهتم بالشأن المغربي إلى حقيقة أساسية مرتبطة بقوة تيار المحافظين داخل الثنائي المكون من “الحكومة-الإدارة”، دور هؤلاء يتمثل أساسا في الحفاظ على وضعية “الستاتيكو”، وبالتالي كان من المفروض أن يفتح ملف مغرب الأنظمة الأساسية الصراع ما بين “المحافظين-الحداثيين”، ولكن للأسف الطرف الذي كان من المفروض أن يعمل تحت سقف الحداثة هو الطرف الحكومي، إلا أنه فشل في لعب هذا الدور لأنه لم يكن يتوفر على حقيبة أفكار حداثية تخص مغرب الأنظمة الأساسية وتعمل على نقله من مغرب التوزيع إلى مغرب العمل، وبالتالي لم يجد من خيار أمامه إلا الاحتماء تحت سقف حقيبة الأفكار المحافظة.
اشتغال العقل الحكومي المغربي من داخل سقف المظلة المحافظة كان نتيجة طبيعية لعدم قدرة الحكومة على بناء نموذج جديد لمغرب الأنظمة الأساسية (يقول الباحث ريشار بيكمنستر فيلر: يجب العمل على بناء نماذج جديدة قادرة على جعل النموذج القديم نموذجا عفا عليه الزمن)، نموذج ينخرط في ترسيخ ديمقراطية العمل ويعمل على تنزيل دستور 2011 ومغرب الفعالية.
كما أن الوصفة الإصلاحية التي تم تبنيها بين العقل الحكومي ومغرب الأنظمة الأساسية أثبتت للباحث والمتتبع للشأن العام المغربي صحة مقولة الفيلسوف والصحافي الألماني سيغفريد كرايكاير الذي أكد في سنة 1930 أننا لا نعيش في نفس الزمن، وبالتالي كان التخوف أن يكون زمن العقل التقريري المتوجه للمستقبل ليس هو زمن العقل الحكومي الذي يبحث عن الحلول من داخل زمن مغرب مرحلة ما بعد الاستقلال.
في هذا السياق، وجب التذكير بما قاله الكاتب الروسي الحائز على جائزة نوبل للآداب ألكسندر سولجنيتسين “امسحوا زجاج ساعاتكم، لأنها متأخرة عن زمننا”، لأن زجاج ساعة العقل الحكومي والعقل الإداري كانت متأخرة عن ساعة العقل الاستراتيجي، وبالتالي صار مفروضا على العقل الحكومي اليوم أن يضبط ساعته على ساعة العقل التقريري لتوحيد زمن الاشتغال والرفع من سرعة الاشتغال.
وفي الأخير، وجب التأكيد أن جاذبية الخيال الإصلاحي للعقل التقريري المغربي أثبتت أن المجتمع المغربي هو مجتمع منفتح على الإصلاحات ذات الخيال الجذاب (الإصلاح الذي يعتمد على ثنائية التوزيع والعمل-استفادة الموظفين من الزيادة في الرواتب)، وهو الشيء الذي عجز عن تنفيذه العقل الحكومي من خلال تشجيعه للخيال المحافظ الجذاب من خلال ثنائية “تشجيع مغرب الأنظمة الأساسية-الأغلفة المالية”.
المصدر: وكالات