يقدم المنتصر السويني، الباحث في العلوم السياسية، مقارنة ثقافية بين التفكير المغربي والجزائري عند حدوث الأزمات أو الصراعات العسكرية والسياسية عبر العالم، لافتا إلى أن “العقل الجزائري يعمد دائما إلى التصعيد والتكشير عن أنيابه عند كل أزمة أو فوضى يشهدها النظام الدولي، في حين يركز العقل المغربي خلال الأزمات ذاتها على الاقتصاد والمالية والمشاكل المرتبطة بتحسين عيش المجتمع”.
وفي مقاله المعنون بـ “المنطقة المغاربية بين العقل المغربي الرزين والعقل الجزائري المتهور”، الذي توصلت به جريدة هسبريس الإلكترونية، يعزو السويني الفروقات البينة بين العقل المغربي والجزائري إلى مرحلة الاحتلال الفرنسي للمنطقة المغاربية، مشيرا إلى أن “الاحتلال الفرنسي للمغرب والجزائر جعل نخب هذه المنطقة تتأثر بنموذجين مختلفين للحكم، حيث إن النخب الجزائرية ما بعد مرحلة الاستقلال وجدت نفسها أقرب إلى نموذج للحكم على طريقة بونابرت (الجيش- الحروب- النخبة العسكرية)، وعلى العكس من ذلك وجدت النخب المغربية ما بعد الاستقلال نفسها أقرب إلى نموذج للحكم على طريقة شارل ديغول (القانون-النخب المدنية- التكنوقراط)”.
وضرب الباحث المغربي مثلا بالتصعيد الجزائري خلال سبعينيات القرن الماضي، وهي المرحلة التي أطلق عليها المؤرخ الفرنسي بيير ميلزا اسم “الفوضى الدولية”، وحددها ما بين 1970 و1980، وهي الفترة التي اختار فيها العقل الجزائري شن عدائه على الوحدة الترابية للمملكة المغربية منذ سنة 1975، والتي تزامنت مع اندلاع مجموعة من الحروب (الحرب العربية الإسرائيلية- الحرب الأهلية اللبنانية- حرب الفيتنام- الحرب العراقية الإيرانية…)، وهي السنوات التي عجز فيها النظام الدولي المبني على القطبية الثنائية عن احتواء الأزمات التي يعرفها العالم، وبدأت تظهر على هذا النظام مرحلة التفكك والعجز.
نص المقال:
اهتمت الصحافة الدولية مؤخرا بالصراعات العسكرية التي يشهدها العالم خصوصا بين روسيا وأوكرانيا وفي منطقة الشرق الأوسط، واهتمت كذلك بالمناطق الساخنة التي قد تشتعل ولم تكن المنطقة المغاربية، للأسف، بعيدة عن المناطق المتوقع أن تشهد صراعا عسكريا في المستقبل القريب، خصوصا في ظل استراتيجية التصعيد التي تمارسها الجزائر في الوقت الراهن.
التصعيد الجزائري الأخير كان متوقعا بالنسبة للعقل المتتبع للشأن الجزائري، فالمعروف عن العقل الجزائري أنه يعمد إلى التصعيد والتكشير عن أنيابه عند كل أزمة أو فوضى يشهدها النظام الدولي، وهنا وجب التذكير بأن مغامراته ضد الوحدة الوطنية المغربية منذ سنة 1975 جاءت في مرحلة ما أطلق عليه التاريخاني الفرنسي بيير ميلزا مرحلة الفوضى الدولية التي حددها في المرحلة ما بين 1970 و1980، حيث تميزت هذه المرحلة باندلاع مجموعة من الحروب (الحرب العربية الإسرائيلية-الحرب الأهلية اللبنانية- حرب الفيتنام- الحرب العراقية الإيرانية…)، وهي السنوات التي عجز فيها النظام الدولي المبني على القطبية الثنائية عن احتواء الأزمات التي يعرفها العالم، وبدأت تظهر على هذا النظام مرحلة التفكك والعجز.
الحرب الروسية الأوكرانية التي يعرفها العالم اليوم هي إشارة كذلك إلى بداية تفكك النظام الدولي المبني على الأحادية القطبية. وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر سيؤكد أن “الحرب الروسية الأوكرانية والحرب في الشرق الأوسط يجب فهمها في إطار البحث عن تغيير النظام العالمي الذي كان يقوده الغرب بكل الوسائل الممكنة، ومنها الحرب”. جريدة البايس الإسبانية ستؤكد كذلك أنه في عالم يعيش حرب غزة وأوكرانيا، يتضح أن كل شيء ممكن أن يحدث، حتى الحدود المرسومة سابقا لم تعد أكيدة ومؤمنة. وتختم الجريدة أن الانتقال إلى نظام عالمي غير غربي بدأ، لهذا فإن المنطقة المغاربية اليوم تجد نفسها بشكل جدي في مواجهة الأنظمة المتهورة والأنظمة المراهقة التي تعتقد أن لحظة الفوضى الدولية هي فرصة لها لوضع أحلامها التوسعية محل تنفيذ، مما يحتم على الباحث المهتم بالشأن المغاربي القيام بقراءة في كيفية تفكير العقل المتهور الجزائري ومقارنته بالعقل الرزين المغربي، وتأثير ذلك على الاستقرار والأمن بالمنطقة المغاربية.
المنطقة المغاربية ما بين عقل العمل المغربي وعقل التوسع الجزائري
الاحتلال الفرنسي للمغرب والجزائر جعل نخب هذه المنطقة تتأثر بنموذجين مختلفين للحكم، النخب الجزائرية ما بعد مرحلة الاستقلال ستجد نفسها أقرب إلى نموذج للحكم على طريقة بونابرت (الجيش- الحروب- النخبة العسكرية)، وعلى العكس من ذلك ستجد النخب المغربية ما بعد الاستقلال نفسها أقرب إلى نموذج للحكم على طريقة شارل ديغول (القانون- النخب المدنية- التكنوقراط) .
العقل المغربي المعجب بطريقة حكم شارل ديغول، التي تعتمد على بناء الدولة الوطنية، من خلال الاقتصاد والتخطيط والعقد الاجتماعي والاعتماد على التكنوقراط (وهو ما أكد عليه في مذكراته المتعلقة بالحرب)، وكان معجبا كذلك بأفكار الفرنسي سان سيمون، الذي كان يؤمن أن الوطن يقوم على الصناعة (ضدا على أفكار نابليون الذي كان يعتقد أن الدول تقوم بالأساس على إتقان فن الحرب).
هذه الاختيارات كانت توضح كذلك أن العقل المغربي ما بعد الاستقلال حسم في نوعية تدبيره الماكرو سياسي والماكرو اقتصادي، من خلال الانضمام إلى خانة الدول التي قال عنها السياسي الفرنسي إيدغار فور إنها دول تحكم من خلال التركيز على الاقتصاد والمالية والمشاكل المرتبطة بتحسين عيش المجتمع، واختار الانتماء كذلك إلى خانة الدول التي قال عنها ميشيل فوكو إنها دول مرتبطة بالبحث عن ترسيخ ما يطلق عليه “الميثاق الاجتماعي” من خلال الحكم عبر ترسيخ “الفن الليبرالي للحكم، الذي يعتمد على الاقتصاد والسوق”.
تبني العقل المغربي طريقة الحكم القريبة من نموذج التدبير الماكرو سياسي الذي تبنته الجمهورية الخامسة، يعني كذلك أن العقل المغربي سيبتعد عما يطلق عليه “خرافة العسكر” من خلال اعتبار الجيش موظفين باللباس فقط لا أقل ولا أكثر، وبالتالي من المفروض أن يتواجدوا داخل الثكنات، ويتركوا الساحة للمدنيين وأصحاب المشروعية الشعبية.
يقول ألان مينك في كتابه “القاموس العاطفي للسلطة” إن المجتمع لا يتخلص من خرافة العسكر إلا في اللحظة التي يعتبر فيها الجيش كموظفين باللباس، وفي الوقت الذي يصنف فيه القادة العسكريين كنخب للشأن العسكري فقط، وبالتالي يتم التفريق بينهم وبين نخب الشأن المدني.
اختيار العقل المغربي ما بعد الاستقلال استراتيجية بناء الدولة من خلال الاعتماد على الاقتصاد كان تأكيدا كذلك على أن المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي هو مجتمع تتفوق في إدارته نخب الشأن المدني، خصوصا التكنوقراط والخبراء.
اختيار العقل المغربي الاعتماد في بناء الدولة الوطنية على النخب المدنية كان اختيارا كذلك لنخب البذلات الأنيقة وربطات العنق، وكان يعني كذلك أن نخب الزي المدني ستكون في الواجهة، بينما ستتوارى نخب الزي العسكري إلى ما يطلق عليه “منطقة الظل”، مما جعل المشهد السياسي بالمغرب يعرف حضور المؤسسة الملكية، مؤسسات التفويض الشعبي ومؤسسات الحكامة والحياد .
على عكس التجربة المغربية، فإن إعجاب النخب الجزائرية بنموذج الحكم على طريقة نابليون (الذي كان يعتقد، كما يؤكد الكاتب الفرنسي أكيلينو موريل في كتابه “أفيون النخب”، أنه من أجل الحكم بشكل جيد عليك أن تكون عسكريا)، جعلها تحكم من خلال استراتيجية رسم وتوسيع الحدود الوطنية.
خطورة العقل المعتمد على الحكم من خلال ميثاق الجغرافية والحدود تكمن في كونه يصنع ويعزز خرافة العسكر، ويعمد بالتالي إلى ترسيخ الجيش الحاكم أو الجيش الذي يقتسم السلطة مع المدنيين. وهكذا يبرز إلى الوجود في المشهد السياسي الجزائري ثنائية اللباس العسكري واللباس المدني جنبا إلى جنب.
إعجاب النخب الجزائرية بعد الاستقلال بنموذج الحكم على طريقة نابليون جعلها تصنف في خانة الدول، التي قال عنها رئيس المجلس الوزاري الفرنسي إيدغار فور إنها دول تحكمها النخب المهتمة بالمشاكل المرتبطة بالقوة والحروب والديبلوماسية والنفوذ الوطني .
ميشيل فوكو سيؤكد كذلك أن هذه النخب تعمل على تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع من خلال ما يطلق عليه “ميثاق الأمن”. ومن المعروف أن الحكم من خلال “ميثاق الأمن” هو نموذج للحكم تعمد فيه الدولة إلى حماية المجتمع من خلال ما يطلق عليه “ميثاق الجغرافية والحدود”، مع التركيز أكثر على المشاكل الحدودية.
وجود دولة في المنطقة المغاربية يحكمها عقل نابليون كان يعني وجود دولة لا تعتمد في تدبيرها الماكرو سياسي على (الدستور- القانون- المرسوم- ما تقوله الصحف اليومية)، بل تعتمد في تدبيرها على الحضور الوازن للمؤسسة العسكرية من خلال (الخطابات والتصريحات العسكرية- الدستور- القانون- المرسوم- ما تقوله الصحف اليومية). والمعروف عن النخب العسكرية أنها نخب تحكمها ثنائية (الصديق- العدو)، بينما عقل العمل والعقل المدني يتعامل مع الآخر من خلال الثلاثية الذهبية (الصديق- المنافس- الخصم).
الخطر الكبير لعقل نابليون الجزائري على الشقيقة الجزائر وعلى المنطقة المغاربية يتمثل في كونه يحرم الجزائر ويحرم المنطقة من الحلم بعصر تحكم فيه الجزائر من طرف توني بلير جزائري أو عصر تحكم فيه الجزائر من طرف روزفيلت جزائري أو عصر تحكم فيه الجزائر من طرف رؤساء على شاكلة بيل كلينتون (حيث يتم التنافس بين دول المنطقة من خلال المؤشرات الاقتصادية والمؤشرات المرتبطة بخلق الثروة كما حدث في التجربة الآسيوية بدل التنافس من خلال عدد الجيوش وعدد الطائرات وعدد الدبابات، وهو المنطق الذي يفرضه حكم العسكر وحكم الجنرالات والحكم المعجب بنابليون على دول الجوار)، مما كان سيجعل من منطقة شمال إفريقيا منطقة تنافس، وقد تتفوق على منطقة شرق آسيا بدل أن يجعلها منطقة قريبة من برميل البارود.
2) المنطقة المغاربية والمواجهة بين العقل المغربي الناضج والعقل الجزائري المراهق والمتهور
استقلت الجزائر في بداية الستينيات، وبالتالي عمرها اليوم كدولة مستقلة يصل إلى أكثر من ستين سنة. يشبه مجموعة من الباحثين عمر الدول بعمر البشر (الطفولة- المراهقة- النضج)، وبالتالي هناك دول حديثة التأسيس تمارس الحكم كأنه لعب أطفال، ثم تنتقل إلى ممارسة الحكم باعتباره طيشا ومراهقة، وبعد ذلك تصل إلى مرحلة النضج، وتمارس الحكم باعتباره نضجا سياسيا وتعقلا ورزانة.
في كتابه الذي يحمل عنوان “العودة إلى القرن العشرين” سينقل الباحث طوني جيدت ملفا كتبه مجموعة من الباحثين الإسرائيليين سنة 2006 بجريدة “هآرتس” يحمل عنوان “الدولة التي ترفض أن تكبر”. في هذا الملف الصحفي يؤكد الكتاب أن الدولة الإسرائيلية بقيت في مرحلة المراهقة وترفض أن تنضج، وبالتالي وضعت دول الشرق الأوسط أمام معضلة وجود دولة ترفض أن تنضج. نفس المعضلة تواجهها المنطقة المغاربية بوجود دولة ترفض أن تكبر وترفض أن تنضج وتتعقل. في نفس المقال يؤكد الكتاب أن من أسباب عدم النضج بالنسبة لإسرائيل كونها تحكم دائما من طرف جيل من السياسيين كانوا يحتلون المقاعد الأمامية في تدبير الشأن العام إبان مرحلة التأسيس.
الجارة الجزائر قدرها دائما أن يحكمها في الغالب رؤساء فوق الستين سنة، وبالتالي رؤساء مرحلة الاستقلال ورؤساء مرحلة الاندفاع والتهور ورؤساء القرن الماضي والعالم القديم.
العقل المغربي كان يعتقد دائما أن العقل الجزائري سيدخل يوما ما مرحلة النضج والتعقل، مما جعله يتصرف بحكمة العقل الاستراتيجي الصبور والحكيم والرزين في مواجهة تهور وطيش العقل الجزائري، وحتى عندما تبنى العقل الجزائري الجبهة الانفصالية في منتصف السبعينيات، اعتبر العقل المغربي الرزين ذلك طيشا طفوليا من قبل نظام جزائري في مرحلة الطفولة وعلى مشارف مرحلة المراهقة (النظام الجزائري كان عمره آنذاك 13 سنة)، وأن الحكمة والتبصر والتعقل تقتضي منح المزيد من الوقت للعقل الجزائري في انتظار مرحلة نضجه وتعقله وتبصره.
عجز العقل الجزائري عن ولوج عصر النضج والتعقل والتبصر فوت عليه فرصة ولوج مرحلة من العمر تمكنه من معرفة السلبيات والإيجابيات، وتمكنه كذلك من معرفة أخطائه ونقط ضعفه، وتفتح له الطريق كذلك لمعرفة ما يجب فعله وما لا يجب فعله لأننا من المفروض أن نتصرف كدولة (وكعقل مركزي) في مرحلة النضج .
بقاء العقل الجزائري في مرحلة المراهقة وعجزه عن ولوج مرحلة النضج والتعقل يضع الجزائر والمنطقة المغاربية على فوهة بركان في مواجهة الأفعال المتهورة للعقل المراهق الجزائري، الذي يرفض أن يكبر و يتعقل، فيتصرف بالتالي كالشيخ المراهق (خروج ميلشيات مسلحة من التراب الجزائري لمهاجمة التراب المغربي هو تصرف لا يقوم به إلا نظام متهور ومراهق).
3) المنطقة المغاربية والمواجهة بين العقل الحداثي المغربي والعقل الناجي الجزائري
ولد العقل الجزائري المستقل في مرحلة القطبية الثنائية، وبالتالي كان من المفروض بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991 أن يستوعب الدرس ويعمل على تحديث حقيبة أفكاره (بعد سقوط حلفائه الذين يشاركهم نفس حقيبة الأفكار)، ولكن هذا العقل اختار العمل من داخل مربع العقل الناجي.
انضمت الجزائر سنة 1977 إلى جبهة الصمود والتصدي، التي كانت تتكون من الدول التالية: ليبيا- اليمن الديمقراطية- سوريا- منظمة التحرير الفلسطينية. قتل الرئيس الليبي وقسمت ليبيا، اختفت اليمن الديمقراطية من الخريطة، أعدم الرئيس العراقي صدام حسين، دمرت سوريا وقسمت إلى مناطق نفوذ، مما كان يفرض على العقل الجزائري أن يستوعب الدرس ويعتبره فشلا لاختياراته وتحالفاته، ويعتبره كذلك سقوطا لأحلامه التوسعية، ويعمل بالتالي على نهج طريق التحديث ومراجعة حقيبة أفكاره وتغيير البوصلة السياسية بالكامل، إلا أنه اختار أن يستمر في العمل من داخل مربع العقل الناجي.
يؤكد الفيلسوف فراكفيلت أن ما يميز الناجي هو كونه عقل من القرن الماضي ومن العالم القديم. وميزة العقل الناجي كذلك أنه عقل يحن إلى الماضي، وينظر إلى الوراء، ويجري وراء العالم القديم، رغم علمه أن لا فرصة لديه للحاق به . ويؤكد الفيلسوف كذلك أن ميزة العقل الناجي أنه عقل يملك حقيبة مملوءة بالمآسي والندم، وبكونه عقل ينتظر النهاية.
يقول الباحث أوغست كونت إن “العيش مع الأموات يشكل لحظة أساسية وثمينة للبشرية”، والعقل الناجي يعتبر العيش في القرن الماضي والعالم القديم، أي العيش مع الأموات، لحظة أساسية وثمينة. الماركيز دوكوندورسيه سيقول إن لحظة الثورة الفرنسية جعلت هناك فرقا يمتد إلى قرن من الزمن بين رجل اليوم ورجل الغد (وفي نفس السياق سيؤكد الاقتصادي الفرنسي جاك أطالي أن نهاية القرن العشرين تحدد بزمن سقوط جدار برلين، أي في سنة 1989 )، مما يعني أن العقل الجزائري الناجي يفصله قرن من الزمن عن العقل الحداثي للقرن الجديد والعالم الجديد.
بخلاف العقل الجزائري الناجي، عمد العقل المغربي إلى الايمان بأن بقاءه مرتبط بقدرته على الخروج من القرن الماضي والعالم الماضي، وعمل على الاستفادة كثيرا من أحد الشعارات الأساسية المرفوعة إبان أحداث ماي 1968 بفرنسا، والتي مفادها “اِجرِ يا رفيقي فالعالم القديم وراءك”.
مباشرة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي عمد العقل المغربي إلى إعطاء إشارات قوية على أنه اختار الاشتغال من داخل مربع العقل الحداثي من خلال شرعنة مرحلة التناوب السياسي والعمل على تعديل الدستور. الاستفادة من الوصايا الأساسية للقرن العشرين جعلت العقل المغربي كذلك يعمد إلى انشاء هيئة الإنصاف والمصالحة من أجل تصفية القرن الماضي والعالم القديم، وبعد مجيء الربيع العربي اختار العقل المغربي التأكيد مرة أخرى على أنه متشبث بالعمل من داخل مربع العقل الحداثي، وبالتالي عمد إلى الرفع من السرعة حتى لا يلحقه العالم القديم والقرن الماضي من خلال طرح دستور جديد والعمل على الرفع من السرعة التدبيرية.
الخطر الذي يشكله العقل الجزائري الناجي على المنطقة المغاربية هو أنه عقل لا يملك مشروعا للمستقبل، مما يجعله يتشبث بالمشروع الموروث عن القرن الماضي والعالم القديم (المعروف عن مشروع القرن العشرين أنه مشروع الحربين العالميتين المدمرتين، وبالتالي مشروع معجب بقرن أصوات القنابل والمدافع والحديد والنار وجثث الموتى)، مما يجعل المنطقة المغاربية تحت رحمة حقيبة أفكار العقل الناجي المدمرة والانتحارية.
4) المنطقة المغاربية بين عقل الطريق السيار المغربي وعقل الطريق الوطنية الجزائري
من خلال المشاريع الكبرى والإنجاز من خلال ثنائية (الهدف-الزمن)، ومن خلال كذلك الاستحقاقات المرتبطة بتنظيم كأس العالم 2030، أثبت العقل المغربي بأنه عقل قرر الاشتغال من خلال الفعل السريع، وبالتالي العمل من خلال ثلاثية (فتح المشروع- الإنجاز- المشروع الجديد). استراتيجية الفعل السريع تؤكد كذلك أن العقل المغربي مفروض عليه السفر من خلال الطريق السيار، خصوصا أن السفر عبر الطرق السيارة تفرض عليك شرط السرعة، كما أن من مميزات السفر عبر الطرق السيارة إخبارك قبليا بالمدينة القادمة أو الوجهة القادمة أو الهدف القادم والمسافة المتبقية، ويتم إخبارك كذلك أن التوقف ممنوع.
السرعة والهدف ليسا فقط ميزة السفر عبر الطرق السيارة، بل هناك كذلك رسالة مهمة يرسخها السفر عبر الطريق السيار هو التركيز على المستقبل والقادم والآتي، وبالتالي يعرف عقل الطرق السيارة أنه عقل السرعة وعقل الهدف وعقل المستقبل، كما أن السفر عبر الطرق السيارة يكون متاحا أكثر للمسافر دون حقائب ثقيلة، أي المسافر الخفيف، يقول الفيلسوف إيرنست رينان: “في السابق كان كل شيء يعتبر كأنه موجود، وهكذا كنا نتكلم عن القانون وعن الدين وعن الشعر بشكل مطلق، بينما الآن كل شيء يعتبر في طور التشكل”.
اعتبار كل شيء في طور الإنجاز وطور التشكل يؤكد كذلك أن السفر في الطريق السيار يفرض أن يكون المسافر خفيفا، أي دون حقائب لأن السرعة تحتاج الخفة. ووجب التأكيد أن العقل الذي يسافر بالطريق السيار لا يمكن أن يكون مثقلا بالحقائب، بل من المفروض أن يكون عقلا خفيفا يتعامل مع السياسات العمومية والبرامج والمشاريع، ويملك القدرة على تقييم السياسات العمومية وإلغائها أو تعديلها أو تحديثها من خلال استراتيجية فتح الملفات، ثم الإنجاز، وفي الأخير إغلاق الملفات. وبالتالي ميزة عقل الطريق السيار أنه عقل يتخلص من الحقائب بسرعة، كما أن عقل الطريق السيار هو عقل أجندته متجددة لأنه عقل يخضع القرارات الكبرى والقرارات الاستراتيجية لمنطق السفر عبر الطريق السيار، وبالتالي عقل مبدع في الإنجاز وإغلاق الملفات وطي الصفحة. ووجب التأكيد أن استراتيجية طي الصفحة جد مهمة للدول المسرعة لأنها تمكنها من التخلص في الطريق مما يطلق عليه الحقائب الثقيلة والفيلة (الملفات دون حل والملفات الصنم والملفات المدمرة).
عكس العقل المغربي يتميز العقل الجزائري بكونه عقل يعمل وفق أجندة موروثة في غالبيتها من مرحلة الاستقلال، وبالتالي هو عقل يتنقل بحقائب ثقيلة. وجود الحقائب الثقيلة والفيلة (الملفات المفتوحة منذ الاستقلال- الأوهام التوسعية- الارتباط العاطفي بالقرن الماضي والعالم القديم) تجعل العقل الجزائري عقلا يسافر في الزمن من خلال الحقائب الثقيلة، مما يفرض عليه البطء والجمود والانتظارية، كما أن الحقائب الثقيلة تجعل العقل الجزائري غير قادر على السفر في الطريق السيار، بل اقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يسافر في الطريق الوطنية، ومن المعروف أن السفر عبر الطرق الوطنية هو سفر السرعة المحدودة واللوائح التي تذكرك بضرورة تخفيف السرعة أو أن السرعة محدودة أو بضرورة التوقف، كما أن السفر بالطرق الوطنية هو سفر التذكر، أي سفر عبر التاريخ والجغرافية، وبالتالي الماضي. لهذا يصنف عقل الطرق الوطنية بأنه عقل البطء والجمود وعقل التذكر وعقل يشتغل وفق استراتيجية “إياك أن تنسى”، أن تنسى الأحداث والحقائب الثقيلة، وبالتالي هو عقل الماضي .
ومن المعروف كذلك أن العقل الاستراتيجي الذي يرث حقائب ثقيلة لا يملك الجرأة على التخلص منها من خلال تصفيتها محاسباتيا عبر إغلاقها، وبالتالي هو عقل يصعب عليه تنفيذ ما يطلق عليه “طي الصفحة”. المفهوم السياسي لاستراتيجية “طي الصفحة” هو القدرة على التخلص فعليا من الحقائب الثقيلة والقدرة على استبدال الأجندة الموروثة عن مرحلة الاستقلال بالأجندة الحديثة التي تواكب أزمات العصر وأزمات العالم الجديد والقرن الجديد، وهي كذلك القدرة على تحديث الأهداف ووضع أهداف جديدة، والقدرة على استبدال الأهداف الطوباوية بالأهداف الواقعية والقابلة للتحقق، وبالتالي هو عقل غير قادر على مراجعة السياسات العمومية من خلال الحذف أو التعديل أو التحيين. عدم القدرة على المراجعة والحذف تجعل هذه السياسات تكبر وتتعقد وتتحول إلى حقائب جد ثقيلة وإلى قنابل موقوتة.
العقل المغربي باعتباره عقل الطريق السيار يحاول أن يفرض على المنطقة المغاربية الاشتغال وفق عقلنة مرتبطة بالسرعة، والسرعة يواكبها دائما هدف معين من المفروض الوصول إليه سريعا، وبالتالي تركز على القادم والمستقبل، ومن خلال ذلك تقوم أوتوماتيكيا بتصفية الماضي وإغلاق ملفاته واستبدالها بملفات جديدة، ومن خلال ذلك يراهن العقل المغربي على أن السرعة يمكن أن تدفع العقل الجزائري إلى التخلص الطوعي من الحقائب الثقيلة إذا أراد مواكبة السرعة الجديدة في المنطقة المغاربية، التي تتماشى كذلك مع السرعة التي يتميز بها القرن الواحد والعشرون، ولكن خطورة عقل الطريق الوطنية أو العقل الجزائري الذي يملك احلاما توسعية أنه يعمد هو كذلك إلى تعميم البطء والجمود من خلال تعميم الفوضى وشرعنة تدمير الثروات الوطنية، ووحدها الحروب من توقف عداد السرعة وتدمر الثروات الوطنية وتعود بك إلى الماضي وتعمم الفقر والجوع والموت وغياب الأمن، وبالتالي يعتبر العقل الجزائري قنبلة موقوتة في الزمن المغاربي قابلة للانفجار في أي وقت.
الخلاصة
خطورة العقل الجزائري المتهور تكمن في كونه عقل لا يشتغل تحت سقف الحساب ولا سقف الجدل، وبالتالي حتى عندما يريد أن يشتغل فهو يشتغل تحت سقف “قليل من العقل كثير من الإرادة”. وفي هذا السياق يؤكد الفيلسوف هيديجر (سنة 1959) أن “الإنسان لحد الآن اشتغل كثيرا، ولكن استعمل عقله قليلا”، في إشارة واضحة من الفيلسوف إلى تجربة الزعيم النازي أدولف هيتلر، الذي وإن كان يتميز بقدرة هائلة على الفعل إلا أن ضعفه الكبير أنه قليلا ما كان يستعمل عقله، والنتيجة تدمير ألمانيا وتقسيمها بعد الحرب.
تهور وعدم نضج العقل الجزائري جعله منذ استقلال الجزائر يشتغل من داخل استراتيجية “إخضاع الجار المغربي للمزيد من الشرور والآلام، والعمل كذلك على إلحاق المزيد من الأضرار بدول الجوار”، وهي الاستراتيجية التي تبناها السياسي الفرنسي جورج كليمونصو تجاه ألمانيا عندما أكد على قولته الشهيرة “يجب أن نخضع المانيا للمزيد من الشرور والآلام”. لم يعش كليمونصو ليرى فرنسا تعيش تحت رحمة ألمانيا، وبالتالي كيف انتصرت الإرادة الالمانية على الإرادة الفرنسية، وكيف انتصر عقل الاقتصاد الألماني على عقل فرنسا، الذي لا يزال إلى اليوم تحت نفوذ عقل نابليون الحربي.
العقل الجزائري المتهور عليه أن يقرأ دروس التاريخ، خصوصا الدروس المرتبطة باللحظات التي كان فيها العالم قريبا من أن يفقد عقله وحكمته، فيما يطلق عليه أزمة الصواريخ الكوبية، لكن الحكمة والتبصر لعبت دورا كبيرا في ترجيح لغة العقل، خصوصا عندما يلتقي عقلان ناضجان (وليس عقل ناضج وعقل متهور).
لغة النضج ولغة التبصر تتضح من خلال نوعية اللغة المستعملة في الرسائل المتبادلة بين الرؤساء، حيث يقول الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف في إحدى رسائله إلى الرئيس الأمريكي جون كينيدي “إذا اندلعت الحرب لن يكون في مقدورنا إيقافها لأن هذا هو منطق الحروب، وقد شاركت شخصيا في حربين وأعرف أن الحروب لا تنتهي إلا بعد أن تجتاح المدن والقرى وتنشر معها الموت والدمار، وأنتم لا تحتاجون أن اشرح لكم بوضوح ما سيقع لو اندلعت الحرب بين بلدينا، لأنكم تعرفون أي قوة رهيبة تتوفر عليها بلداننا، وبالتالي أتمنى أن تعودوا إلى لغة العقل بدل لغة اطلاق التهديدات”.
فهل يعمد العقل الجزائري المتهور إلى الاستفادة من دروس التاريخ قبل فوات الأوان؟ هذا ما تتمناه شعوب المنطقة المغاربية.
المصدر: وكالات