قال الأستاذ المنتصر السويني، الباحث في العلوم السياسية والمالية، إن المغاربة يعبرون عن إرادتهم الفعلية العمل من داخل المؤسسات الشرعية، وبالتالي العمل من داخل ثنائية “السيادة الشرعية -السيادة النقدية” من خلال دستور 2011.
وأضاف السويني في مقال له بعنوان “شرعنة حق تجميد المرسوم يفتح الطريق فعليا نحو بروز حكومة التنسيقيات”، أن “السيادة الشرعية تمارسها الأغلبية البرلمانية والسيادة النقدية تمارسها الأقلية أو المعارضة البرلمانية من خلال المراقبة والتقييم”، مؤكدا أن “العمل من داخل ثنائية السيادة الشرعية-السيادة النقدية يؤسس لتنزيل الثنائية المرتبطة بالديمقراطية الوظيفية، وبالتالي ثنائية مهام التسيير وتنفيذ البرنامج الأغلبي والقدرة على إيجاد الحلول”.
ويرى الباحث المغربي أن “الاتفاق بين الحكومة والنقابات الأربع على تجميد المرسوم أسس فعليا لمرحلة جديدة من خلال الانتقال من العمل من داخل الثنائية إلى العمل من داخل الثنائية المعتمدة على السيادة الشعبية أو السلبية من تعطيل مرفق حيوي مرتبط بالتعليم إلى غاية تنفيذ المطالب بالكامل، وتنفيذ إستراتيجية كل شيء أو لا شيء على السيادة الشعبية عن طريق فرض تجميد المرسوم، وبالتالي الشرعنة الفعلية لما يطلق عليها حكومة التنسيقيات”.
وهذا نص المقال الذي توصلت به جريدة هسبريس الإلكترونية:
1) غياب الأفكار والحلول يشرعن عمليا بروز حكومة التنسيقيات وبروز المشرع التنظيمي الثاني
يعود الفضل إلى الفقيه والعميد ليون دي جي في ابتكار مفهوم -حكومة الموظفين في مواجهة الحكومة السياسية – هذا الابتكار كان في سياق الحديث عن شرعية إنشاء التنسيقيات الخاصة بالموظفين بفرنسا، حيث أكد الفقيه أن الخطير في هذا التأسيس أنه قد يفتح الباب على مصراعيه في المستقبل من أجل إنشاء حكومة الموظفين في مواجهة الحكومة السياسية.
الاتفاق بين الحكومة والنقابات الأربع الأكثر تمثيلية، الذي أسفر عن تجميد النظام الأساسي الحالي (رغم أن المرسوم يعدل أو ينسخ فقط مع احترام مبدأ توازي الشكليات والمساطر والاختصاصات)، رغم أن هذا الأخير صودق عليه من طرف المجلس الحكومي ووقع بالعطف من طرف الوزراء المكلفين بالتنفيذ وتم إبلاغه إلى الرأي العام الوطني من خلال نشره بالجريدة الرسمية، يذكرنا بما سبق أن قاله القانوني هانس كلسن عندما أكد أن المجلس الدستوري عندما يلغي قانونا فهو ليس قاضيا يحكم، بل يتصرف كمشرع ثان.
وبالتالي فإن تجميد مرسوم هو في حقيقة الأمر ارتقاء بالنقابات الأربع إلى مستوى مشرع تنظيمي ثان، وبالتالي فإن النقابات انتقلت من دورها المتمثل في الدفاع عن حقوق الشغيلة إلى مستوى سلطة تنظيمية ثانية (وتم ذلك من خلال قبول حكومي). ويخلص القانوني هانس كلسن إلى أن سلطة إلغاء قانون تمنح للمجلس الدستوري فعليا صفة المشرع السلبي، وبالتالي فإن فرض النقابات تجميد المرسوم يرتقى بالنقابات إلى ممارسة دور المشرع التنظيمي السلبي.
ووجب الاعتراف بأن الإعلان عن تجميد مرسوم صودق عليه من طرف المجلس الحكومي، ووقع بالعطف من طرف الوزراء المكلفين بالتنفيذ ونشر بالجريدة الرسمية، وبالتالي أبلغ إلى الرأي العام الوطني، سبب صدمتين للباحثين الدستوريين؛ الصدمة الأولى مرتبطة بكون المرسوم يعدل أو ينسخ فقط، وبالتالي فإن مصطلح التجميد غريب لا مكان له في الدستور أو في القانون الإداري. لكن الأخطر في التجميد أنه يفتح الباب على مصراعيه في الحياة الدستورية والسياسية والاجتماعية والنقابية المغربية على مصطلح جديد يسمى حق المطالبة بتجميد المراسيم، وقد ينتقل بنا في المستقبل إلى المطالبة بحق تجميد القوانين، ولما لا المطالبة بتجميد بعض المقتضيات الدستورية.
معطى التجميد كان يعني للباحث الدستوري كذلك أن هناك حكومة للتنسيقيات استحوذت على سلطة غير مخولة لها في إطار النظام الديمقراطي للبلد الذي أرساه دستور 2011، وهنا نستحضر ما سبق أن أكد عليه القانوني هانس كلسن من أن إلغاء قانون يوازي في واقع الأمر إصدار قانون مضاد، وبالتالي فإن تجميد مرسوم يرقى كذلك إلى مستوى إصدار مرسوم مضاد. وعليه فإن التجميد هو إعلان كذلك عن العجز عن القرار، وبالتالي إعلان ضمني بدخول الحكومة في مرحلة الفراغ من خلال عدم القدرة على اتخاذ القرار في قضية معينة وملف معين (ولكنه ملف أساسي وحيوي بالنسبة للشعب المغربي).
بروز الحكومة السياسية في دور الحكومة المترددة والحكومة الضعيفة وغير القادرة على اتخاذ القرار والدفاع عنه أو تعديله أو نسخه من تحت سقف الديمقراطية الإيجابية (الديمقراطية التي ترسخ حق المشرع العادي والأغلبية البرلمانية والحكومة المنبثقة عنها في اتخاذ القرار بمفهومه العام) فتح المجال لترسيخ ما يطلق عليها الديمقراطية السلبية (المشرع التنظيمي السلبي الذي من خلال شل المرافق العمومية يفرض نفسه كمشرع تنظيمي فعلي ويرسخ على أرض الواقع ما يطلق عليها حكومة التنسيقيات).
بروز السلطة التنظيمية الثانية أو السلطة التنظيمية السلبية كان يعني خروجا عن المظلة الدستورية. وفي هذا السياق وجب التذكير بما قاله ميشيل تروبير من أن بروز القضاة كمشرعين هو تجاوز لمهامهم المتمثلة في كونهم -لسان القانون- وبروز التنسيقيات باعتبارها تمتلك السلطة التنفيذية السلبية أو باعتبارها سلطة تنفيذية ثانية هو في حقيقة الأمر تحول هذه التنسيقيات من المهام الموكلة لها في ضمان استمرارية المرفق العام من خلال الجودة التي ينشدها المرتفق والكلفة المقبولة التي يطمح لها دافع الضرائب إلى ممارسة دور السلطة التنفيذية الثانوية، أو السلطة التنفيذية السلبية، أو السلطة التنفيذية الجزئية (ملف التعليم).
2)عجز الحكومة عن ترسيخ الموظف المواطن من خلال ثنائية “قليل من الموظفين -رواتب نوعية” شرعن لنا فعليا ما يطلق عليه الموظف السلبي وحكومة التنسيقيات
تنصيص الفصل التاسع والثمانين من الدستور على: “تمارس الحكومة السلطة التنفيذية. تعمل الحكومة، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين، والإدارة موضوعة رهن تصرفها…”، يعني عمليا أن هناك علاقة ينظمها الدستور ما بين الثنائي المكون من “الحكومة-الإدارة” من أجل تنفيذ القانون ومن أجل تنفيذ البرنامج الحكومي، ما يفرض على هذا الثنائي الالتزام بضمان استمرارية المرفق العمومي، من خلال تقديم خدمات نوعية ترضي المرتفق العمومي وترضي دافع الضرائب من خلال كلفة (رواتب الموظفين) معقولة ومقبولة.
خصوصا أن دافع الضرائب تحمل منذ البداية كلفة تمويل المنصب المالي القار المخصص للموظفين (الفصل السابع من قانون الوظيفة العمومية)، مع العلم أن منح المنصب القار للموظفين ومنحهم الحماية من خلال قانون الوظيفة العمومية تم ربطه دائما بالمسؤولية النوعية عن ضمان استمرارية المرفق العمومي وتحسين خدماته، وجعل كلفته مقبولة، لهذا تم ربط الموظف بالمؤسسات السياسية والمشروعية الشعبية وتجنيبه ويلات قانون السوق والتوظيف من خلال العقد.
لكن الموظف مواطن كذلك، وبالتالي من المفروض أن يتمتع بالحق النقابي والحق في الإضراب، والاعتراف بالحق النقابي والحق في الإضراب للموظفين كان يستهدف عمليا خلق من يطلق عليه -الموظف المواطن- وبالتالي فإن الفصل التاسع والثمانين من الدستور كان يفرض على الحكومات المتعاقبة على تسيير الشأن العام الاهتمام بشكل مستمر بتحسين الوضعية المالية والإدارية للموظفين، حتى ترسخ صورة الموظف المواطن، وتمنع انتقاله إلى مربع الموظف المضرب والموظف المتمرد.
ووجب الاعتراف هنا بأن التنزيل الفعلي للثنائية المكونة من “الحكومة-الإدارة” كان يفرض بشكل أتوماتيكي على العقل الحكومي العمل بشكل مستمر على تحسين الوضعية المالية للموظف، بما يضمن ترسيخ الموظف المواطن، وبالتالي الموظف الذي يشتغل تحت يافطة “التقييد المرتبط بوضعه كموظف-الحرية المرتبطة بوضعه كمواطن”، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تحسين الوضع المالي للموظف مرتبط بشكل وثيق بترسيخ المصالحة بين المواطن دافع الضرائب والموظف المواطن.
ترسيخ المصالحة بين المواطن دافع الضرائب والموظف المواطن كان يفرض على الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام بالمغرب العمل على جعل كلفة تحمل الموظف المواطن ضمن الحدود المقبولة والممكنة بالنسبة لدافعي الضرائب بالمغرب، حتى لا تفتح الصراع بين الموظف المواطن والمواطن دافع الضرائب.
وهاجس الكلفة المقبولة لرواتب الموظفين كان يفرض على الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام بالمغرب إلزامية تطبيق الثنائية الذهبية المعتمدة على “ضبط أعداد الموظفين بشكل صارم – رواتب نوعية ومميزة”. وفي هذا السياق سيؤكد ليك ريبان، مدير المركز الوطني للبحث العلمي، أنه سنة 1914 كان العقل السياسي الفرنسي مقتنعا بضرورة تطبيق الثنائية المعتمدة على “قليل من الموظفين-رواتب نوعية ومحفزة”، لأن هذه الثنائية هي الوحيدة القادرة على ترسيخ (الموظف-المواطن) وكذلك (الموظف -الفعالية)؛ كما أنها تعمل على الترسيخ الفعلي لصورة الموظف النوعي بدل الموظف السلبي.
في التجربة المغربية كان الرأي العام الوطني ينتظر من خلال تطبيق سياسة المغادرة الطوعية سنة 2005 أن تفتح الباب من أجل تطبيق القاعدة الذهبية المتمثلة في “قليل من الموظفين -رواتب نوعية”، وبالتالي ترسيخ القاعدة الدستورية المعتمدة على ثنائية “الحكومة-الإدارة”، والعمل كذلك على تحسين الوضعية المالية والإدارية للموظفين بما يضمن استمرار المرفق العام في تقديم خدمات نوعية، مع البقاء ضمن حدود الكلفة المقبولة بالنسبة لجيوب دافعي الضرائب.
لكن الحكومات المتعاقبة منذ حكومة عباس الفاسي إلى اليوم عملت على إغراق الوظيفة العمومية بجحافل من الموظفين، ما رفع الكلفة وخلق وضعية تعتمد على “ارتفاع إعداد الموظفين-رواتب مستقرة وهزيلة ولا تتماشى مع ارتفاع كلفة المعيشة”، وبالتالي أنتجت لنا على أرض الواقع الموظف الفقير، وكذلك الموظف السلبي، أو كما قال ألبير كامو في كتابه “الإنسان الثائر” أنتجت لنا الموظف الثائر.
الخلاصة:
الإضراب المفتوح والارتباك الحكومي والعجز عن إيجاد الحلول هو مؤشر سلبي على التوجه نحو ما يطلق عليها الديمقراطية السلبية. والمعروف عن الديمقراطية السلبية أنها تنمو داخل مناخ يتميز بالإحساس بخيبة الأمل، وتنقلنا من الاشتغال من داخل مربع الديمقراطية الإيجابية (إصدار المراسيم من طرف حكومة الأغلبية البرلمانية-انتقاد المراسيم والمطالبة بنسخها وتعديلها في إطار الحوار واستمرارية المرفق العام)، إلى الاشتغال من داخل مربع الديمقراطية السلبية (إصدار المراسيم من طرف حكومة الأغلبية البرلمانية -تجميد المراسيم تحت ضغط الإضرابات المستمرة وخضوع الحكومة الشرعية لحكومة التنسيقيات). وللأسف فإن جنوح الحكومة نحو القبول بتجميد المرسوم (ما رسخ للأسف قوة الشيء المتفق عليه على قوة المرسوم التنظيمي)، كان شرعنة من طرف الحكومة لسلطة المنع وسلطة التجميد، بينما الدستور يخول لها حق الحسم وحق اتخاذ القرار أو تعديله ونسخه. وفي هذا السياق نستحضر ما قاله مونتسكيو: “أسمي القدرة على الحسم القدرة على إصدار الأمر أو القدرة على تغيير الأمر، وأسمي القدرة على المنع الحق في جعل الحل المقترح منعدما”.
موافقة الحكومة على تجميد مرسوم صودق عليه من طرف المجلس الحكومي ووقع من طرف الوزراء المكلفين بالتنفيذ وتم نشره بالجريدة الرسمية، وبالتالي بلغ للرأي العام، هو تشجيع فعلي على شرعنة الديمقراطية السلبية والسياسات السلبية، خصوصا أن السياسات السلبية ميزتها أنها تنمو كالنار في الهشيم. وفي هذا السياق يؤكد السوسيولوجي الفرنسي بيير روزنفلون أن نمو السياسات السلبية يفسر بكون هذه الأخيرة تعطي نتائج فورية (تجميد المرسوم من جلسة الحوار الأولى)، وبالتالي فإن الفعل السلبي يحقق نتائج قابلة للقياس وفورية من خلال قرارات بسيطة وقابلة للقراءة. كما أن السياسات الشعبوية تقوي صفوف المتشددين والشعبويين والمتطرفين، بينما الديمقراطية الإيجابية تشرعن أفعالا تستهدف بلوغ أهداف إيجابية تخضع لتقييمات متذبذبة وصعبة القياس (حذف ضريبة معينة يحقق إجماعا فوريا عليه، بينما الهدف المتمثل في إصلاح يستهدف تحقيق العدالة الضريبية يصعب تحقيق إجماع حوله). لكن الإيجابي في الديمقراطية الإيجابية أنها تعمل على تقوية صفوف المغرب الشرعي والمغرب القانوني والمغرب المعتدل والمغرب الوسطي.
من خلال تدبير ملف التعليم أثبتت الحكومة المغربية عجزها عن إيجاد الحلول، ما أنتج عدم قدرتها على ترسيخ الموظف المواطن، ما جعل الأخير ينحدر إلى مرتبة الموظف الفقير. مرتبة الموظف الفقير تحول أوتوماتيكيا هذا الأخير إلى لعب دور الموظف السلبي والموظف المضرب. وبروز الموظف السلبي والموظف المضرب هو نتيجة طبيعية لإغراق القطاعات الوزارية والمرافق العمومية بجيش من الموظفين في غياب القدرة المالية التي تمكن من التوفر على هامش ميزانياتي يمكن من تحسين الظروف المادية والإدارية لهؤلاء الموظفين.
وبالتالي فوتت الحكومات التي تعاقبت على تسيير الشأن العام بالمغرب على نفسها تطبيق وترسيخ الثنائية الذهبية المعتمدة على “قليل من الموظفين-رواتب نوعية”؛ لكن الأخطر من ذلك هو عجزها عن ترسيخ قوة الدستور والديمقراطية المغربية من خلال تجميد مرسوم صودق عليه بالمجلس الحكومي ووقع بالعطف من طرف الوزراء المكلفين بتنفيذه ونشر بالجريدة الرسمية، وبالتالي بلغ إلى الرأي العام الوطني، ما يثبت أنها فوتت الفرصة على نفسها للبروز كحكومة سياسية قوية، وفوتت على نفسها كذلك البروز كسلطة تنفيذية قادرة على ممارسة المهام الموكلة لها من طرف الدستور، والمتمثلة في العمل على تنفيذ القوانين وتنفيذ البرنامج الحكومي وتشجيع العمل من داخل مربع الديمقراطية الإيجابية.
الضعف السياسي والضعف التنفيذي وإن كان ضعفا مس فقط ممارسة جزء من المهام (ملف التعليم) إلا أنه يرسخ على أرض الواقع ما يمكن أن يطلق عليها السابقة. والسابقة الخطيرة التي رسخها الصراع الذي جمع الحكومة والتنسيقيات هي أنه شرع واقعا جديدا يتمثل في العمل من خلال ثنائية “القرار-تجميد القرار”، وبالتالي يفتح الطريق أمام بروز تنسيقيات جديدة في قطاعات أخرى سيستهويها العمل من داخل ثنائية “القرار –التجميد”، نظرا لقدرته على تحقيق نتائج فورية، وهو ما يهدد التجربة الديمقراطية المغربية ويوجه لها ضربة موجعة، خصوصا إذا كان العقل الحكومي يتميز بكونه يعجز عن إيجاد الحلول.
المصدر: وكالات