حِسابات المُعادلة الإقليمية
النظام الإقليمي في الشرق الأوسط هو اليوم أمام مشهد جيوسياسي جديد ترسمه إيران في المنطقة لأول مرة منذ حرب الثماني السنوات بين نظام الولي الفقيه في طهران ونظام البعث في بغداد، الضربة الإيرانية تأتي اليوم بعد سلسلة من العمليات النوعية التي قام بها جهاز الموساد والجيش الإسرائيلي ضد المصالح الإيرانية في الشرق الأوسط منذ عقود خلت ابتداء من تحييد قيادات فاعلة في الحرس الثوري والميليشيات التابعة له في المنطقة وانتهاء باستهداف مبنى ديبلوماسي إيراني في دمشق واغتيال قيادات رفيعة في الحرس الثوري الإيراني، قبل التطرق لهذا التصعيد الخطير وتأثيراته على الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط والعالم، علينا أن نتفق على أن الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر 2023 ليس هو الشرق الأوسط ما بعد الثالث عشر من أبريل 2024، فالعديد من المياه تجري تحت الجسر وصورة إسرائيل المستهدفة من طرف حركة حماس لطختها الدماء الغزيرة التي أريقت في قطاع غزة، بعد العمليات الدموية التي نفذتها القوات الإسرائيلية في حق المدنيين العزل من الأطفال والنساء والمصابين والجرحى، وتراجع حجم التعاطف الدولي مع أسطورة شعب إسرائيل المظلوم والمحاصر من طرف شعوب تريد إلقاءه في البحر كما في “الرواية الإسرائيلية” التي لم يعد يصدقها أحد أكثر من أي وقت مضى، فإسرائيل في هذه اللحظة هي في حاجة إلى إعادة توحيد العالم” الغربي “حول مظلوميتها التاريخية باعتبارها “الواحة” الوحيدة للسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان المحاصرة من طرف شعوب الشرق الأوسط المعادية للسامية.
إيران هي الأخرى في حاجة ماسة إلى إعادة توحيد ساحات المقاومة والحفاظ على عنصر التناغم المطلوب لنجاح عمليات الميليشيات التابعة لطهران ضد إسرائيل والحرص على توافقها مع المصالح العليا لإيران، وذلك لن يتم إلا باسترجاع ثقة المنظمات والميليشيات الشيعية الموازية للحرس الثوري الإيراني وفي قدرة نظام الولي الفقيه على إدارة المواجهة الشاملة مع إسرائيل وحلفائها بعد عقود من حروب الظل في مختلف مناطق الشرق الأوسط وأيضا في قدرة الحرس الثوري على تقديم طوق النجاة في الوقت المناسب في حالة المواجهة المباشرة مع العدو، وهنا يحق لنا طرح السؤال المحوري: ما علاقة التصعيد الإيراني مع الواقع الميداني العسكري على الأرض في قطاع غزة!؟
النظام الإيراني كعراب لمحور المقاومة أصبح مطالبا اليوم بتنفيذ وعوده لإنقاذ حركة حماس من خطر التشظي والتفكك و تلاشي قدراتها القتالية يوما عن يوم، بسبب الحصار الإسرائيلي لجنوب القطاع والهزائم التي حصدتها وحداتها القتالية بعد ستة أشهر من حرب الشوارع في مختلف مناطق غزة، توجته إسرائيل باستهداف مباشر لعائلة رئيس المكتب السياسي لمنظمة حماس إسماعيل أبو هنية وهو استهداف بدلالات متعددة ولا يمكن فصله عن استهداف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق وبالتالي فالوضع الميداني في القطاع ليس في صالح محور المقاومة، وإيران غير مستعدة لخسارة منطقة تماس جيوسياسي لها أهميتها في جنوب إسرائيل قد ينتهي وجود حماس فيها بسيناريو شبيه لخروج المقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات إلى المنافي في اليمن وسوريا وتونس في 30 غشت 1982، بعد الاجتياح الإسرائيلي لدولة لبنان واحتلال بيروت في السنة نفسها بقيادة إرييل شارون وهو الوضع نفسه الذي قد نشهده مرة أخرى في قطاع غزة لكن بواقع جيوسياسي جديد.
خروج إيران من منطقة الظل وفتح أبواب المواجهة الشاملة مع إسرائيل لم يكن ليحدث إلا بتجاوز الموساد للخطوط الحمراء كما أكد رئيس هيئة الأركان الإيرانية اللواء محمد باقري، الضربة الإيرانية كان الهدف المعلن عنها هو كسر قواعد الاشتباك التقليدية بين إسرائيل ومحيطها الإقليمي ومحاولة فرض معادلة ردع جديدة على المستوى الإقليمي في ظل وضع جيوسياسي يطبعه التعقيد وتداخل المصالح بين كبار اللاعبين في منطقة الشرق الأوسط، ولأول مرة في تاريخ المواجهة الإيرانية الإسرائيلية يتم استهداف مباشر للعمق الإسرائيلي انطلاقا من قواعد عسكرية داخل إيران، بدل استخدام البنادق المأجورة للميليشيات الإيرانية التابعة للحرس الثوري في العراق وسوريا ولبنان واليمن أو قطاع غزة، طوال عقود من المواجهة المفتوحة بشكل غير مباشر بين إسرائيل وإيران وبشكل أدق الموساد والحرس الثوري لم يتم تجاوز الخطوط الواضحة لقواعد الاشتباك وحتى حدث تحييد الجنرال قاسم سليماني “عراب ميليشيات إيران” في الشرق الأوسط ومنسق عمليات الحرس الثوري في العالم كان بقرار أمريكي وبأدوات أمريكية، رغم كل التقارير التي روجها الإعلام التابع لمحور المقاومة بأن المعلومات الدقيقة حول تحركات قاسم سليماني تعود لعناصر من الموساد.
قواعد الاشتباك التقليدية في الشرق الأوسط حددتها سابقا المصالح الاقتصادية والجيوسياسية وكذا الحسابات الداخلية لكل طرف فاعل في مسرح المنطقة، حيث هنا نسجل تطورا في الموقف الإيراني وانتقاله من لغة التهديد والوعيد والخطابات الإنشائية والحملات الإعلامية والبروباغندا واستهداف المصالح الاقتصادية باختطاف السفن وأعمال القرصنة البحرية وتبادل القذائف الصاروخية في جنوب لبنان، باستخدام وكلاء حرب كميليشيا الحوثي في اليمن وميليشيا حزب الله في لبنان إلى الحرب المباشرة مع إسرائيل بما تحمله من مخاطر كبرى على الأمن الإقليمي والعالمي.
اليوم مسرح الشرق الأوسط مقبل على حرب إقليمية كبرى قد تهدد الأمن الدولي لما تشكله منطقة الشرق الأوسط من أهمية جيوسياسية واقتصادية لمختلف القوى الفاعلة في السياسة الدولية، وكما هو معروف الولايات المتحدة الأمريكية لن تترك إسرائيل وحدها في مواجهة الصواريخ الإسرائيلية، ولن تترك الممرات المائية في الخليج العربي والبحر الأحمر لتتحول إلى أوراق ضغط في يد نظام الملالي من أجل استخدامها لفرض واقع عسكري يخدم مصالح طهران وحلفاءها، غير أن الأكيد أنه في حالة اشتعال هذه الحرب فإن إيران ستسعى جاهدة لتوسيع نطاقها بتحريك قطع الدومينو المنتشرة في مختلف أنحاء العالم من ميليشيات إرهابية وحركات انفصالية التابعة بشكل مباشر أو غير مباشر للحرس الثوري وبشكل خاص فيلق القدس الذي يعتبر النواة الصلبة التي تنفذ بها إيران استراتيجياتها الإقليمية، بهدف تخفيف الضغط الهجومي على قواعدها في داخل إيران وتشتيت القدرات الهجومية لمحور إسرائيل وحلفائها.
وإيران قد أرسلت رسالة واضحة إلى محيطها الإقليمي قبل إطلاق المسيرات الإيرانية لاستهداف العمق الإسرائيلي، بقرصنة سفينة شحن تابعة لرجل أعمال إسرائيلي في مضيق هرمز في إشارة إلى استعدادها لتحويل المضيق الاستراتيجي إلى منطقة قرصنة بحرية على شاكلة مضيق باب المندب في جنوب البحر الأحمر.
اليوم العالم يترقب الرد الإسرائيلي على الضربة الجوية الإيرانية التي كسرت كبرياء إسرائيل وأنهت بشكل نهائي معادلة غير معلن عليها تلتزم فيها إيران بعدم المخاطرة باستهداف عمق إسرائيل، انطلاقا من قواعد عسكرية في قلب إيران ولتقدير موقف متناسب لطبيعة الهجوم الإسرائيلي وشكله وحدوده، لكن الأكيد أن صانع القرار الاستراتيجي في تل أبيب سيكون أمامه خيار وحيد بشن “عملية جراحية هجومية واسعة النطاق” في إيران ومناطق توزع الميليشيات الإيرانية في الشرق الأوسط باستخدام سلاح الطيران والمسيرات وقوات العمليات الخاصة لتنفيذ غارات دقيقة وموجهة للأهداف والبنية التحتية ذات القيمة العالية لإيران، وبشكل خاص استهداف البنية التحتية الخاصة بالبرنامج النووي العسكري الإيراني مع العمل على عدم استهداف البنية التحتية المدنية الضرورية لاستئناف حياة طبيعية مما يجعل النظام يفكر كثيرا في حجم الخسائر الممكنة في حالة اختياره التصعيد الإقليمي، مما يقلّص بشكل كبير فرص اختيار إيران لاستراتيجية الرد الشامل.
في ما يخص الرد الإيراني المرتقب فهناك عدة عوامل لتقدير الرد الإيراني على الرد الإسرائيلي الذي ينتظره العالم، الأول يتعلق بالجهة المهاجمة وهنا نطرح التساؤل المشروع هل من المرتقب حدوث هجوم إسرائيلي بدون دعم أمريكي أو هجوم مشترك بين إسرائيل وحلفائها وبشكل خاص أمريكا، وقد تابعنا جميعا انخراط القوات الأمريكية والبريطانية في عملية الصد الاستراتيجي للمسيرات الإيرانية في عملية الثالث عشر من أبريل في إشارة واضحة إلى استعداد الجيش الأمريكي الكامل، للمشاركة في الحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي؟
العامل الثاني متعلق بأهداف الهجوم الإسرائيلي والأمريكي وهل الهدف منه هو إضعاف مقومات النظام والحد من القدرات التشغيلية للقوة الصاروخية الإيرانية وضرب البنية التحتية للجيش الإيراني؟ أم الهدف سيكون عملية تطهير شامل في العاصمة طهران بتفكيك بنية النظام بعد سلسلة من الغارات الجوية على شاكلة عمليات عاصفة الصحراء أو درع الصحراء وفتح ممرات آمنة للقوى المعارضة من أجل استلام السلطة، في ظل الغليان الشعبي ببن مختلف فئات الشعب الإيراني بعد فشل الثورة في تحقيق التنمية الموعودة وتبديد ثروات الشعب الإيراني في سياسات التسليح وتمويل الحركات والميليشيات الطائفية والانفصالية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
لكن ما يمكن التأكيد عليه هو أن حسابات الداخل الأمريكي والإسرائيلي قد تستبعد هجوما واسع النطاق على إيران في الوقت الراهن والمؤكد أن تستأنف إسرائيل بدعم تكتيكي أمريكي في إطار التنسيق الأمني والعسكري بين الأجهزة الاستخباراتية عملياتها النوعية والعودة إلى المطاردات الأمنية في الساحات المستباحة أمام الجيش الإسرائيلي كسوريا ولبنان وقطاع غزة، باستهداف شخصيات بارزة في النظام وتقليم أظافر الميليشيات الإيرانية المنتشرة في مختلف مناطق الشرق الأوسط، وبشكل خاص مضيق باب المندب الذي أصبح هدف تطهيره وافتكاك سيطرة جماعة الحوثي على مفاصله مطلبا إقليميا، لنزع فتيل التصعيد الإقليمي الذي قد يتحول إلى مواجهة شاملة قد تدخل العالم في أتون حرب عالمية ثالثة.
المصدر: وكالات