بعد اعتراف إسرائيل بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، الذي أعلن عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عبر رسالة إلى الملك محمد السادس، تتجه أنظار المراقبين إلى العاصمة الفرنسية باريس لمعرفة موقف “الحليف الأوروبي التقليدي” للمغرب الذي ما زال يكتنفه الغموض.
في هذه الورقة التحليلية التي خص بها هسبريس، يسلط الدكتور الشرقاوي الروداني، خبير في الشؤون الاستراتيجية والأمنية، الضوء على التداعيات والتأثيرات الإقليمية والدولية للاعتراف الإسرائيلي بمغربية الصحراء ومساءلته الموقفَ السياسي الحالي للدولة الفرنسية تجاه الصراع القائم في المنطقة.
====
الاعتراف الإسرائيلي بمغربية الصحراء ليس حدثًا سياسيًا عاديًا أو دبلوماسيًا عابرًا. هذا الموقف السياسي يُرسِل رسائل واضحة إلى دول معينة حول الانخراط الكامل في الديناميكية الدولية المتعلقة بالاعتراف بمغربية الصحراء. فالاعترافات بسيادة المغرب على أراضيه بقدر ماهي عنوان إفريقيا تتحول وتخرج من براثن الصراعات الجيو-سياسية، فهي في الوقت نفسه بوصلة لتقييم السياسة الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر قائدة سمفونية العلاقات الدولية، داخل القارة الإفريقية. فالخطة الاستثمارية “لنبنِ معاً ازدهار إفريقيا” التي تبنتها إدارة بايدن، لا يمكن أن تحقق الآمال المنشودة بدون اجتثاث أصل المشاكل التي تعرفها مناطق القارة، ومنها الفراغات الجيو-سياسية التي أصبحت تتصيدُها الجماعات الإرهابية للتموقع ونشر الفوضى.
هذه العوامل وأخرى تحول دون ممارسة دور أمريكي أوسع نطاقا داخل القارة. فكلمة الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية عندما كان نائب الرئيس أوباما، وهو يقول في قمة الأعمال بمدينة مراكش بأن المملكة المغربية هي بوابة العالم نحو القارة الإفريقية، لم تأت من فراغ، ولكن هناك مزايا جيو-استراتيجية تجعل من المغرب محفزا للتنمية والاستثمار في هذه القارة. من ثم، هذه الديناميكية التي جسدها الموقف التاريخي للولايات المتحدة تعتبر نقطة تحول تاريخية في مسار هذا الملف المفتعل، والتي للإشارة تنسجم مع المبادرة الأمريكية “بناء عالم أفضل” (B3W)، لاسيَّما وأنها تَلتها اعترافات أخرى من إسبانيا وألمانيا وإيطاليا ومجموعة من الدول العربية والأوروبية. هذه الانتصارات المغربية ليست وليدة الصدفة ولكن تتطلب قراءة متأنية للتكتلات الإقليمية وللمحاور الاستراتيجية، وهي نتيجة للعمل الدؤوب والدقيق من قِبل جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، الشخصية الرئيسية والفاعلة في السياسة الخارجية للمملكة المغربية.
عندما نلقي نظرة على توقيت الإعلان الإسرائيلي، نجد أنه لم يحدث عبثًا، بل جاء في خضم احتفالات الشعب المغربي بذكرى عيد العرش. وبالتالي، يتمتع هذا الموقف بحمولة شعبية واستراتيجية وقانونية. توقيت هذا الموقف يكرس الرؤية التي ترسخت لدى المجتمع الدولي. هذا الأخير، بدأ يدرك أن هذا النزاع المفتعل من طرف الجزائر ليس مجرد قضية سياسية بالنسبة للمغاربة، بل هو مسألة تتعلق بكرامة الأمة المغربية بكاملها. فالمغاربة يرون في افتعال هذا النزاع من قِبل الجزائر خيانة لأرواح إخوانهم المغاربة الذين قدموا تضحيات جسامًا لاستقلال الجزائر. فاليوم يرون مفارقةً غريبة، إذ يرون الجزائر، التي منذ مدة دخلت في عسكرة الخطاب السياسي اتجاه المغرب، تسعى إلى تقسيم المغرب وتخصص لذلك مبالغ ضخمة لإحباط الوعي الجماعي للمغاربة، ولا تتوقف عن ابتزاز دول عدة من خلال الضغط بالغاز. في المقابل، تعترف إسرائيل بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية وتسعى لافتتاح قنصلية عامة في هذه الأقاليم، بهدف المساهمة من خلال استثمارات قوية ستؤدي إلى تنمية اقتصادية ملموسة للسكان.
ما انتبهت إليه دول العالم، هو أن نظرة المغاربة إلى الصحراء المغربية ليست مجرد نظرة جغرافية وحسب، بل هي نظرة وجودية، حيث أنها جزء لا يتجزأ من هويتهم الوطنية ووجودهم كشعب وأمة. فالمغاربة يرون في الصحراء مكونًا أساسيًا من التراث التاريخي والثقافي المغربي، وهذا يدفعهم للتمسك بحقوقهم المشروعة فيها. وبناءً على هذه النظرة العميقة والشاملة، تأتي العقيدة الدبلوماسية المغربية، التي تعتبر ملف الصحراء المغربية المنظار الذي ترى من خلاله علاقاتها الخارجية وتقيِّمها. حيث يعتبر المغرب هذا الملف المهم ميزانًا حقيقيًا لنقاء العلاقات وفعالية الشراكات التي يتمتع بها على المستوى الدولي.
ومن ثم، فإن الاعتراف الإسرائيلي، وبعيدًا عن دغمائية الخصوم الذين يريدون المس بالشعور الجمعي للمغاربة، يعتبر ذا أهمية استراتيجية تظهر صلابة الدبلوماسية المغربية، التي في خضم موازين القوى الجديدة على المستوى الدولي وأثر ذلك على صراع الملفات السياسية داخل الغرف المغلقة للعواصم الوازنة في هندسة العلاقات الدولية، استطاعت تحقيق إنجازات كبيرة بوأتها مكانة مرموقة في النظام الدولي.
هذا الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء يجسد مكانة الرباط في مجموعة من المعادلات الجيو-استراتيجية والسياسية. فموقف الاتحاد الأوروبي من اتفاقية الصيد البحري، التي أصبحت تخضع لإطار جديد ومندمج يأخذ بعين الاعتبار المصالح الشاملة للمملكة المغربية، يؤكد مكانة المغرب الجديدة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي. كما أن الدور المسؤول والكبير التي تقوم به الرباط داخل المجموعات الاقتصادية للقارة الإفريقية من خلال جلب الاستثمارات وتهيئة البيئة الأمنية عن طريق محاربة الإرهاب والمساهمة بمعية الأمم المتحدة في تطوير القدرات الأمنية لدول عديدة من بوابة المكتب الأممي لمحاربة الإرهاب بالرباط، يضع الرباط كمحدد استراتيجي في الهندسة التنموية داخل القارة الإفريقية ومحدد مهم في التصورات الأمنية لدول غرب أوروبا.
في هذا الصدد، الدور الذي يلعبه المغرب في الملف الليبي من خلال ضبط التوازنات الداخلية من أجل الذهاب إلى عملية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، يبقى ذا أهمية استراتيجية بالنسبة للضفة الشمالية للمتوسط. وبالتالي، فإن قراءة الاعتراف من زاوية الحشد الدولي لمغربية الصحراء، مهم، لكن يبقى تأويلا استراتيجيا نسبيا. فثِقل ووَزن هذه الاعترافات يجب وضعهما في سياق مركزية المغرب ومساهمته المستقبلية في إعادة البناء الجديد على مستوى القارة الإفريقية، خاصة في ظل وجود تضارب وصراعات بين عقائد جيو-سياسية ذات مصالح متباينة. فتطور إفريقيا مرتبط بقدرتها على الانخراط في حركة الاقتصاد العالمي. والاعتراف الأمريكي يمكن قراءته على أنه تحوّل جيو-سياسي عميق في الرؤية الأمريكية لمنطقة المغرب العربي، إذ كانت هذه المنطقة تُعتبر منذ سبعينات القرن الماضي جزءًا متأثرًا برؤية وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، الذي قام بتقسيم العالم إلى مناطق إدارية وألحقَ المنطقة المغاربية بمنطقة الشرق الأوسط. وبالتالي، فإن النهج الأمريكي الجديد تجاه القارة الإفريقية والمنطقة المغاربية جعل المملكة المغربية تحظى بدور استراتيجي محوري في السياسة الأمريكية تجاه شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
في السياق نفسه، وعلى ضوء نقاشات قمة حلف الشمال الأطلسي الأخيرة التي أقيمت في لتوانيا والاهتمام الكبير بتعزيز الردع والاستجابة الاستراتيجية أمام التهديدات المستقبلية التي ستؤثر في قواعد اللعبة الدولية، تم إنشاء ثلاث مناطق دعم استراتيجي، من بينها مجال شمال دول غرب أوروبا. تواجه هذه المنطقة تحديات أمنية كبيرة بسبب التموقع الإيراني المتزايد في إفريقيا والتواجد الروسي في دول الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء. الزيارة الأخيرة للرئيس الجزائري إلى روسيا وتصريحاته المعادية للنظام الاقتصادي والمالي القائم على مركزية الدولار، تبرز أن هذه الدولة أصبحت مكونًا أساسيًا في استراتيجية استخدام القطع الصغيرة في لعبة شطرنج موجهة نحو دول غرب أوروبا، وخاصة فرنسا.
في علاقة هذه التطورات بشبكة المصالح الدولية، فإنه ليس من باب الصدفة توقع في الأشهر القادمة تطورات في دول الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء. فالقادم سيكون لا محالة صعبا على هذه المنطقة وعلى دول خليج غينيا التي تعرف تموقعا جديد للقوات الفرنسية. فالقرار الأخير لمجلس الأمن القاضي بإنهاء البعثة الأممية في دولة مالي والموقف الروسي الذي طالب بتسريع هذا الانسحاب الأممي، سيربك لا محالة مجموعة من محددات الاستقرار الجيو-سياسي التي لا تخدم المصالح الفرنسية والأوروبية. فالتنظيمات الإرهابية ستجعل من مثلث الموت، منطقة ما بين مالي، النيجر وبوركينافاسو، منصة للتصدير تكتيكات خلق بؤر التوتر في مناطق أخرى في محاولة لإفشال أي تركيز وتموقع للدول الأوروبية، وخاصة فرنسا. بل أكثر من ذلك، فإن “تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى”، التابع ايديولوجياً لـ”داعش” وعملياتياً للأجهزة المخابرات الجزائرية، لن يتوان في إشعال النار في المنطقة برمتها. وإذا ما أخذنا العلاقة التي أصبحت واضحة اليوم ما بين ميليشيات البوليساريو وتنظيم “داعش” في الساحل، فمن المتوقع أن تكون استراتيجية خلق التوتر في أجندات من يهمهم زعزعة مستقبل استقرار دول غرب إفريقيا.
أمام هذه التحديات الأمنية، فالمغرب بطريقة استباقية وفي إطار التعاون الوثيق من خلال إبرام عدة اتفاقيات للتبادل الحر، أسس لتصور استراتيجي يسمح بتقوية شراكات مهمة مع الدول الإفريقية. في هذا السياق، وضع المغرب صناعة عسكرية محلية واعدة من خلال التوقيع على شراكات مع مجموعة من المجمعات الصناعية ذات الصيت الدولي، أبرزها من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. هذه الصناعات ستكون موجهة للدول الإفريقية من خلال تلبية حاجياتها من الأسلحة ورفع مستوى جاهزية جيوشها للتصدي للقوى المحدثة للفوضى كالجماعات الإرهابية والحركات الانفصالية. قد يكون تزامن جلوس وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، مع اليوم نفسه الذي بعث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، برسالة اعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية واجتماعه مع مجموعة من كبار المسؤولين الأفارقة في نيروبي، ليس مجرد صدفة.
كل هذه المعطيات تجعل من الإجماع الدولي حول مغربية الصحراء تكريسا لرؤية استراتيجية دولية ستجعل من الأقاليم الجنوبية صلة وصل ما بين دول غرب أوروبا ودول غرب إفريقيا. فالميناء الأطلسي الداخلة وما يوازيه من استثمارات وطنية في هذه الأقاليم، سيجعل منها حزاما استراتيجيا واقتصاديا سيقوي من المبادلات التجارية بين مجالات جغرافية محددة في معادلات علاقات جنوب-جنوب وعلاقات شمال-جنوب. فالبناء الجديد الذي يصل بين العقيدة الجيو-سياسية للشمال الأطلسي والجنوب الأطلسي وأهميتهما في بوصلة المحيط الهندي ـ الهادئ، يؤسس للدور كبير للقارة الإفريقية.
أمام كل هذه التطورات البراغماتية التي أصبحت تفرض نفسها على ديناميكية الأحداث في شمال إفريقيا وداخل مجموعة من المحاور الدولية، فإن هذا الاعتراف الإسرائيلي وما تلاه من مواقف سياسية لدول وازنة داخل الاتحاد الأوروبي، أصبح يسائل الدولة الفرنسية. هذه الأخيرة أصبحت مطالبة بالخروج من المنطقة الرمادية والانخراط في البناء الجديد لمحور استراتيجي واعد يشمل واشنطن-لندن-الرباط وتل أبيب؛ فالاعتراف الإسرائيلي ومواقف الدول الأوروبية كألمانيا، إيطاليا وكذلك صربيا، يفتح محورا جديدا شرق-غرب قادرا على أن يفتح آفاق تقارب عملياتي على مستويات مختلفة في مواجهة التحديات والتهديدات الناشئة والهجينة التي تؤثر على المجال الجيو-سياسي لشرق وغرب المتوسط.
إن اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء لن يعتبر مجرد موقف سياسي وحسب، بل سوف يُنظر إليه على أنه استراتيجية فرنسية تهدف إلى تصحيح حساباتها في جميع أنحاء القارة الإفريقية، ولا سيما في المنطقة القارية الناطقة بالفرنسية. فبالإضافة إلى إعادة التنظيم في مخطط يتوافق مع سياستها الخارجية، سيكون هذا الاعتراف إشارة قوية للغاية لإعادة تعديل سياستها الخارجية على نطاق دولي. إذ لا يمكن أن يكون التزامها بالدفاع عن أوكرانيا من خلال تسليم الأسلحة والذخيرة والصواريخ للدفاع عن وحدة أراضيها متسقًا مع تراخيها وموقفها المترقب في منطقة مغاربية أصبحت هدفا للتموقع لعقائد جيو-سياسية دولية ستكون لا محالة الحرب الروسية الأوكرانية ليست إلا أحد تمثلاتها الظاهرة التي قد تصل إلى استهداف ونسف وحدة أراضي الدول الأوروبية.
المصدر: وكالات