إذا قمنا بجولة تدبرية في القرآن الكريم، وجدنا أن الحق سبحانه قد أجمل معالم المسيرة التي قطعها الدين الإسلامي عبر تاريخه الطويل في هذه الآية الكريمة: ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ (الشورى 13)، إذ فيها يتبين أن نوحًا عليه السلام كان أول نبي مرسل أوحى الله إليه رسالته وشرعه، وفيها كذلك من الجهة الأخرى أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم كان آخر الأنبياء، وبين البداية والنهاية كانت رسل أتت الآية على ذكرهم.
ثم في آيات أخرى وجدناه سبحانه يصرح باسم هذا الدين الذي وصى به نوحًا، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا، حيث يقول في حديثه عن دين نوح عليه السلام: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ (يونس 70-71)، ويقول سبحانه في حديثه عن دين إبراهيم عليه السلام: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا ﴾ (آل عمران 67)، ويقول سبحانه كذلك عن دين موسى عليه السلام: ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ (يونس 84)، ثم يقول عن دين طائفة من الأنبياء ضمنهم عيسى عليه السلام: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ (البقرة 136)، وأخيرًا يقول عن دين النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسْكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ (الأنعام 162-163).
كذلك يقول سبحانه في حرص كل الأنبياء والرسل على ملة الإسلام، ورغبتهم في توريثها لذرياتهم: ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأوْصَىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ (البقرة 130-132). وهكذا يتحدث القرآن عن المسيرة التي قطعها الدين الإسلامي حتى بلغ بها النهاية التي كان التعبير عنها بقوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ (المائدة 3).
ومن هذه المسيرة نعلم أن قوله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (آل عمران 85) وقوله: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ ﴾ (آل عمران 18) لا يختص بمن بعث إليهم الرسول عليه السلام، بل هو دين واحد عام في الأولين والآخرين، وإن كان الآخر منه ينسخ الأول، ونعلم من جهة أخرى حقيقة ما ذهب إليه أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ ﴾ (البقرة 111)، ثم قوله: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ ﴾ (البقرة 113) “أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله، وآمن به ألا يكفر بالباقي، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعًا متواردة على تصديق بعضها بعضًا” (الكشاف).
بقيت الإشارة إلى أن الإمام الرازي عند تفسيره قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ طرح سؤالًا: هل كان الدين الإسلامي ناقصًا قبل نزول هذه الآية؟ وكان الجواب عنه بثلاثة أجوبة، اختار من بينها ما ذكره القفال رحمه الله، وهو أن الدين الإسلامي ما كان ناقصًا البتة، بل كان أبدًا كاملًا، يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالمًا في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم، ليس بكامل في الغد، ولا صلاح فيه، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت، وكان يزيد بعد العدم، وأما في آخر زمان المبعث، فأنزل شريعته كاملة، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فلأجل هذا المعنى قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ (الرازي).
الإسلام كفطرة
أما عن الوضع الذي كان عليه الإسلام قبل نوح، فيمكننا بداية أن نتساءل: إذا لم يكن هناك أنبياء ورسل قبل نوح فما موقع آدم من هذه المسيرة؟ يرى السيد رشيد رضا: أن “ليس في القرآن نص قطعي صريح في رسالة آدم عليه السلام، بل مفهوم قوله تعالى: ﴿ ِإِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ ﴾ (النساء 163) أن نوحًا أول نبي مرسل أوحى الله إليه رسالته وشرعه” (تفسير المنار).
ثم يسوق ما يؤكد هذا، فيذكر من جملة ما يذكر، قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۖ ﴾ (الحديد 26). ثم يذكر أيضًا أن اسم آدم لم يرد له ذكر في السور التي تم سرد المرسلين المشهورين فيها، كسورة هود، ومريم، والأنبياء، والشعراء، والصافات، وص، والقمر.
لكنه يعود فيذكر من جهة أخرى، أن الثابت قطعًا في المسألة هو أن آدم عليه السلام كان على هدى من الله يعمل به، ويربي عليه أولاده، وأن منه عبادات، وقربات يرغب فيها، مبشرًا بأنها يثاب عليها، ومحرمات ينهى عنها، منذرًا بأنها يعاقب عليها، وهذه الهداية من جنس هداية الله للنبيين والمرسلين التي بلغوها لأقوامهم، ولا ندري كيف هدى الله تعالى آدم إليها، فإن طرق الهداية والتبليغ الإلهي متعددة، وكأن الظاهر المتبادر، أن ذلك كان بوحي الرسالة، لولا ما عارضه من حديث الشفاعة، وآية ﴿ ِإِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾، وما يؤيدها مما تقدم.
ثم يذكر من جهة ثالثة وهي الجهة التي رجحها، أن قوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ﴾ يحتمل أن ذلك من هداية الفطرة السليمة التي فطر الله آدم عليها، ونشأت عليها ذريته إلى زمن نوح، إذ اختلف الناس، وحدثت فيهم الوثنية، فبعث الله النبيين، وجعل منهم الرسل المبلغين عنه بإذنه، المؤيدين منه بالآيات، لإقامة الحجة على الكافرين.
ثم يسوق ما يؤيد هذا الاحتمال فيذكر أنه “قد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر ذلك بأنهم كانوا على الإسلام، وفي رواية مفصلة عنه، قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين، قال الرواة: وكذلك هي قراءة عبد الله (أي ابن مسعود): كان الناس أمة واحدة (فاختلفوا) فبعث الله النبيين” إلخ، ورووا عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الهدى، وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله نوحًا، وكان أول رسول أرسله الله إلى الأرض… ويؤيد الرواية عنه بحديث الصحيحين وغيرهما، الناطق بأن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه… والمراد من ذلك في مسألتنا أن الله تعالى فطر آدم على معرفته، وتوحيده وشكره وعبادته، وزاده هدى بما كان يلهمه إياه من الأقوال والأعمال، وبما يصل اجتهاده، كما قيل في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار قبل البعثة.
بالإضافة إلى هذا يسوق ما ذهب إليه الشيخان: أبو مسلم، والقاضي حيث قالا: إن الأمة الواحدة هي الآخذة في اعتقادها وعملها بالعقل، ومقتضى الفطرة قبل النبوات جميعها، لأن ظهور النبوة والاستعداد لقبولها طور من الأطوار البشرية لا يصل إليه النوع الإنساني إلا بعد التدرج في طريق طويلة تنتهي غايتها إلى هذا النوع من الكمال الإنساني.
ويشرح السيد محمد رضا هذا النوع من الاستعداد لقبول ظهور النبوة فيقول:
-“عندما تبلغ العقول منزلة من القوة ومقامًا من السلطة، وتبلغ النفوس من قوة التصرف في المنافع والمضار ما يخشى معه من ضلالها أن يوقعها في خبالها، عندما تعظم مطامح العقول والشهوات…
– هنالك يخشى على الجمعية البشرية من بعض أفرادها، أو من كل واحد منهم على بقية أركانها، كما يخشى من قوى الشباب أن تهلكه عندما تبلغ البنية حد النمو، وتبدو له الشهوات في أجلى صورها…
– فكما كان من حكمة الله أن يهب الشباب قوة العقل عند بلوغ السن التي تعظم فيها الشهوات، ليقوده في تلك الغمار، كذلك فعل الله بالجمعية البشرية عندما بلغت بمعارف أفرادها، ذلك الحد الذي ذكرنا- وهبها الله تلك الآيات البينات التي جاء بها الأنبياء على اختلاف أزمانهم وأممهم، بما يلائم حالتها النفسية، ومكانتها العقلية.
– فكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمم بمنزلة الرأس من البدن، جاءوهم يبينون لهم الخير، ويبشرونهم بحسن الجزاء لكاسبه، ويكشفون لهم مسالك السوء، وينذرونهم بسوء المصير لصاحبه.
– ثم يقول ولما كان الاستعداد يتفاوت في الأمم، كانت أمة أولى من أمة، بتقدم عهد النبوات فيها، وكانت الأمة المتقدمة جديرة بأن تكون إمامًا للأمة المتأخرة، سنة الله في الخلق” (تفسير المنار مع قليل من التصرف).
ما بعد إكمال الدين قرآنًا
هذا عن الوضع الذي كان عليه الإسلام قبل الرسل أولي العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وأما عنه فيما سيكون عليه بعد هذا الإكمال المشار إليه بقوله سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ فينبغي أن نشير إلى حقيقة أخرى وهي أن الإسلام أو القرآن، بالرغم من أنه بين بذاته لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (القمر 17)، فإن فيه أمورًا لا يمكن أن تفهم إلا في إطار البيان الذي قام به الأنبياء والرسل من جهة، ويقوم به العلماء من بعدهم من جهة، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ ﴾ (إبراهيم 4)، وقال سبحانه: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ (النحل 44)، وقال سبحانه: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ (البقرة 143).
بيان الرسول عليه الصلاة والسلام
ومن ثم كانت السنة النبوية الشريفة في جوهرها ليست إلا بيانًا لما أنزل إلى الرسول من رب العالمين، وقد رسم الإمام الشاطبي لهذا البيان سبعة أبعاد:
- بيان لما هو عام جدًا وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع…
- بيان لما أجمل ذكره من الأحكام، وذلك كالأحاديث الواردة في بيان المصطلحات الشرعية، كالصلاة، والزكاة، والحج…
- بيان لما دل عليه الكتاب في الجملة، وهو لا يخرج عن التعريف بمقاصد الدارين ومفاسدهما…
- بيان يتمثل في “مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين”، ويضرب الشاطبي لتوضيح هذا البعد عشرة أمثلة، من بينها “أن الله تعالى أحل الطيبات، وحرم الخبائث، وبقي بين هذين الأصلين أشياء، يمكن لحاقها بأحدهما”، فألحق النبي صلى الله عليه وسلم بالطيبات الضب، والحبارى، والأرنب، وألحق بالخبائث لحوم كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من طير، ولحم الحمر الأهلية…
- بيان يتمثل في مجال القياس الدائر بين الأصول والفروع، كقياسه صلى الله عليه وسلم تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، على تحريم الجمع بين الأختين، من حيث كان الكل داخلًا في قرابة النسب التي تنتهي في العمومة والخؤولة. ثم إن ما ورد في الحديث من التعليل: “فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم” يشعر بذلك.
- بيان يتمثل في النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معانٍ مجتمعة، مثل قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ ﴾ (البقرة 231)، وقوله: ﴿ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ ﴾ (الطلاق 6)، وقوله: ﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ۚ ﴾ (البقرة 233)، وقوله: ﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ ﴾ (البقرة 282)، فيستخلص النبي صلى الله عليه وسلم من الأدلة المتفرقة، المعنى العام الذي يوحد بينها، وهو هنا نفي الضرر، فيقول عليه الصلاة والسلام: “لا ضرر ولا ضرار”.
- البعد السابع يتمثل في ألفاظ مجملة وردت في آية من الآيات، كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر لما طلق ابنه عبد الله زوجته وهي حائض: “مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر بها الله أن يطلق لها النساء”، يعني أمره في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ (الطلاق 1).
بيان العلماء
هذا ولما كان هذا القرآن – كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام – “… لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد”، وجدنا الرسول عليه الصلاة والسلام يسند مهمة البيان من بعده إلى العلماء، فيقول: “العلماء ورثة الأنبياء”، وقد وجدنا هؤلاء العلماء في هذا البيان:
- زيادة على كونهم قد بينوا العلوم التي يحتاج إليها القرآن من جهة والسنة النبوية من جهة، تحت مصطلح: علوم القرآن، وعلوم الحديث…
- وزيادة على كونهم قد كشفوا عن “أصول خاصة امتاز بها القرآن: كبناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد المصالح والمنافع، ودفع المضار والمفاسد، وكبيان أن للكون سننًا مطردة تجري عليها عوالمه العاقلة وغير العاقلة، وكالحث على النظر في الأكوان، للعلم والمعرفة لما فيها من الحكمة والأسرار التي يرتقي بها العقل، وتتسع بها أبواب المنافع للإنسان” (تفسير المنار 1-68).
- وجدناهم كذلك قد وضعوا قوانين راعوا فيها كيفية التعامل مع كتاب الله، وسنة رسوله، لغةً ومضمونًا، أطلقوا عليها “علم أصول الفقه”، الذي هو في كنهه – كما قال الفيلسوف الفقيه ابن رشد: “يعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن نحو الصواب”، إذ هو “في نسبته إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس فيما لا يؤمن أن يغلط فيه”.
كان أول من وضع قواعد هذا المنهج البياني، الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابه “الرسالة”. ثم جاء من بعده علماء أجلاء عملوا على رفع قواعد هذا العلم، كان في طليعتهم الإمامان: الغزالي والشاطبي.
الخلاصة: يتحصل من كل ما تقدم أن الإسلام ليس كما يفهم كثير من الناس، دينًا جديدًا، وإنما هو – كما نص القرآن – دين أوحاه الله إلى جميع رسله، أرسل به أول رسول إلى خلقه، ثم أرسل به رسلًا تترى، لإنهاض الناس على اختلاف عقلياتهم، وتنظيمهم حسب اجتماعاتهم، حتى كملت الإنسانية، وبلغت رشدها في العقل والتفكير، فأرسل محمدًا يجدد، ويصدق دعوة إخوانه الأولين، ويكمل ما يقتضيه النضج الإنساني، والرشد البشري، وبذلك كان رسل الله كما صورهم رسول الله محمد بناة بيت واحد، وسعادة واحدة، ودعوة واحدة: “مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى دارًا فأكملها، وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون، ويقولون لولا موضع اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين”، واللبنة التي جاء بها هي هذا القرآن المعجز…
المصدر: وكالات