– لن أتحدث في هذا التقديم عن الجديد الذي قد يكون هذا المقال متضمنا إياه، ولكني فقط أنبه إلى أن هذا المقال بحججه القاطعة يمكن ان يكون خرقا لما صدح به الأستاذ: علي عبد الرازق منذ زمان في كتابه: “الإسلام وأصول الحكم” ،بوجوب فصل الدين عن الدولة، لأن الدين في نظره دين ،والدولة دولة، والرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء بقصد تأسيس الدولة، ولكن جاء بقصد تبليغ رسالة من عند رب العالمين هي في كنهها لا تحتفل بأمر الدولة، وهو كذلك يمكن أن يكون خرقا لما يسلكه أتباعه وهم كثر في عصرنا هذا، حيث نجدهم يتبعون خطواته، الخطوة بعد الخطوة، حتى أصبح كتابه شهيدا عليهم فيما يفكرون فيه وفيما ينجزونه في هذا المجال …
– أبدأ هذا المقال الذي جعلته تحت عنوان: الدولة في بعدها السياسي من منظور القرآن الكريم. بإجمال معالمه في أمور ثلاثة:
-في معنى الخلافة.
– في طريقة اختيار الخليفة.
– في طريقة تدبيره الأمور.
وأجعل المنطلق فيه هذه الآيات البينات من سورتي البقرة ،والنساء وأعني بهما قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) إلى قوله: (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (البقرة 30-39).ثم قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء 59).
في معنى الخلافة
بالتأمل فيما صرح به العلماء في معنى خلافة آدم، يتبين أن هناك مذهبين، مذهب عام ومذهب خاص:
في المذهب العام وجدنا البعض منهم يرى من جهة أن لفظ “خليفة في الأرض” يشعر بأنه قد كان في الأرض صنف أو أكثر من الحيوان الناطق، وأن هذا النوع أو الأنواع قد انقرضت، ثم جيء بعدها بهذا الصنف الذي أخبر الله به الملائكة ، من أجل أن يخلفهم ويحل محلهم، وقد استدلوا لذلك بأدلة من بينها قوله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ) (يونس 14) وقد علق الإمام محمد عبده على هذا الرأي بقوله: “وإذا صح هذا القول فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على الأرض، وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق، تماثل الطائفة أو الطوائف البائدة منه، في الذات والمادة، وتخالفها في بعض الأخلاق والسجايا”
والبعض الآخر من هؤلاء يرى أن المراد من الخلافة هو جعلُ الله آدم خليفة له في الأرض على سائر المخلوقات من ملائكة، وحيوان، ونبات، ومعدن، وجماد، وذلك لأن كل نوع من هذه الأنواع المحسوسة والغيبية، له استعداد محدود: علما وعملا “وما كان كذلك لا يصح أن يكون خليفة على الذي لا حد لعلمه، وإرادته، ولا حد لأحكامه وسننه، ولا نهاية لأعماله وتصرفه”
أما المذهب الخاص الذي يعنون به “استخلاف بعض الإنسان على بعض” فقد تم تشخيصه من جانبين متكاملين، جانب ذكروا فيه أن الفلاسفة من قديم قالوا: “إن الإنسان مدني بالطبع” أي أنه لا يستطيع أن يعيش منفردا ، وذلك” لما له من حاجات واستعدادات كامنة لا تظهر إلا في مجال الحياة الاجتماعية ،ولا تعمل إلا في نطاقها، وأن هذه قد خلقت مع الإنسان، وأنها هي التي تدفع بالإنسان كي يتجمع في مجتمع”، وجانب ذكر فيه العلامة ابن خلدون :أن هذا الاجتماع إذا حصل وتم العمران بالبشر، كان لا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم” كما ذكر في موضع آخر من المقدمة: “أن الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة متعذر، لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع، فَتَعَيّنُ السياسة لذلك، وهو معنى الدولة، وإذا كانا لا ينفكان فإن اختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر، كما أن عدمه مؤثر في عدمه”
في طريقة اختيار الخليفة
هذا وبعد تبيان معنى الخلافة في بعدها العام والخاص ، يمكن القول إن هذا الوازع الدافع للعدوان والظلم لا يمكن أن يكون مؤهلا لأن يلعب الدور الإيجابي في العمران البشري إلا إذا كان متمتعا بخصائص من شأنها أن تجعل من يتولى قيادتهم يركنون إليه، ولعل الخصائص التي جعلت آدم يتبوأ منصب الخلافة هي ما ترشد إليها هذه الآيات من سورة البقرة ، إذ بالتدبر فيها نجدها قد تحدثت عن هذه الخصائص في مقاطع خمسة .ميزت بين مقطع ومقطع بكلمة “قلنا” حيث جاء فيها : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ثم قال (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ثم قال 🙁 وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ )ثم قال: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ثم أخيرا قال: (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً)، ولعل الفصل بهذه الكلمة بين مقطع ومقطع كان من أجل أن يتبين المخاطب كل خاصية على حدتها، ويتبين كذلك التراتب الحاصل بينها
– تبدأ الخطوة الأولى من طريقة اختيار الخليفة، بإخبار الحق سبحانه وتعالى ملائكة الأرض أو باستشارتهم على حد تعبير الإمام الزمخشري في شأن ترشيح آدم لخلافته في الأرض، باعتبار أنهم “هم المدبرون لأحوال هذا العالم السفلي”، فيعبرون بكامل الوضوح عن رغبتهم هم أنفسهم فيها، لأنهم أولى منه في نظرهم، حيث: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟)، ولعدم أهلية إبليس للاستشارة نجد الحق سبحانه قد سكت عنه ،إشارة منه سبحانه إلى أن ليس كل السكان مؤهلين للاستشارة…
– بعد هذا الإخبار بالترشيح الذي هو موافق لما تقول به النظرية الحديثة، يكشف الحق سبحانه في هذه الآيات عن الخصوصيات التي من أجلها تم ترشيح آدم للخلافة، فيشير إجمالا إلى “العقل” بقوله سبحانه: “إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” ثم إلى اللغة التي يتم بها البيان والتواصل بقوله: ” وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”، ثم يبسط القول فيهما تفصيلا بهذا الحوار الدائر بينه سبحانه وبين جمهور الملائكة، فيقول، ويقولون: ” ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) –: ( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ؟-” (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) ثم قال، وقالوا : (أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) – (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) – (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ)– (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ).
وهكذا تتكشف هذه الخصوصيات المؤهلة للخلافة التي هي عبارة عن العقل، واللغة، بهذا الحوار العلمي، أو بهذه الحملة الانتخابية التي كان موضوعها: خصوصيات آدم، المرشح للخلافة، والتي كان المقصود منها تعليمنا كيف يتم إجراء الاستشارة، وكيف يحصل الإقناع والاقتناع …
– ثم بعد الكشف عن هذه الخصوصيات المميزة، وحصول الاقتناع بها، تأتي الخطوة الثانية خطوة المبايعة بالطاعة والانقياد المعبر عنها بما يدل عليه لفظ السجود لغة ، أو يأتي دور الانتقال إلى صناديق الاقتراع والفرز، حيث يقول سبحانه: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، انطلاقا من أنه لا خلافة بدون طاعة أو مبايعة بها، أو انتخاب، فلابد إذن من تحديد العلاقة التي تربطه بالكائنات التي سيكون خليفة عليها، وبهذه المبايعة يكون آدم قد أصبح خليفة.
ويلاحظ أن الخلافة قد تمت لآدم بالرغم من عدم مبايعة إبليس له، وذلك لما يمثله من أقلية بالنسبة لجمهور الملائكة الذين تئط الأرض بهم، كما ورد في الحديث النبوي الشريف، ثم لما يتصف به موقفه من عناد واستكبار وغياب للعقل الذي هو الأساس في كل الأمور الهامة.
كما يلاحظ في هذا الطور، والطور الذي قبله، أن الحديث فيهما لم يكن يوجه إلى آدم، بل إلى جمهور الملائكة، حيث يقول سبحانه في الطور الأول: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ويقول في الطور الثاني: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ) لأن آدم قبل المبايعة كان مجرد فرد من الأفراد، فلما أصبح خليفة بالمبايعة، أصبح الحديث معه، لا عنه، ومع الجمهور أيضا كما هو ملاحظ في باقي الأطوار.
-أما الخطوة الثالثة الخاصة بالتجربة والإعداد العملي لهذا الخليفة في جنة من جنان العالم ليكون مؤهلا لما يأتي بعد، إذ لا تكفي الخصوصيات الفكرية المميزة وإن بلغت ما بلغت في الكمال – فيلاحظ كما هو واضح في قوله تعالى 🙁 وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)، أن الحق سبحانه وتعالى لما أراد أن يتحدث عن موطن التجربة، تحدث عنه وكأنه يتحدث عن دار الخلافة: تحدث عن الزواج الذي صدّر به في الآيتين حيث أمر آدم وزوجه “بالسكنى لتسكن قلوبهم وتطمئن بالقرار في الجنة” وأمرهما معا بمراعاة القانون المنظم للعلاقة بهذه النعم الكثيرة، وأمرهما كذلك بالابتعاد عن المغريات الداعية إلى التحدي، وأخيرا كان الحديث عن العقوبة بنوع من الإجمال في سورة البقرة، حيث قال سبحانه: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) ، وبنوع من التفصيل في سورة الأعراف حيث يقول سبحانه: ( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) (الأعراف 22). قال الإمام القشيري في هذه الفضيحة: “كان آدم لا أحد يوافيه في الرتبة، يتوالى عليه النداء: يا آدم، ويا آدم، فأمسى وقد نُزع عنه لباسه، وسُلب استثناؤه. قال الشاعر:
لله ذرهم من فتية بكروا مثل الملوك وراحوا مثل المساكين
ولعل مثل هذه الفضيحة بين الملأ الأعلى هي التي حملت ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وجعدة بن هبيرة على القول بأن الشجرة التي ذاقا منها “هي شجرة الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمرة” وتم نعتها من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، بأم الخبائث.
وبتعبير آخر: إن موطن الإعداد العملي للخليفة، ينبغي أن يكون فيه كل ما هو موجود في دار الخلافة: فيه ما هو مأمور به، وما هو ممنوع منه، وما هو مباح، فيه المخلصون للخليفة (الملائكة) وفيه المعاندون المستكبرون (إبليس) فيه المغريات الداعية إلى التحدي، وفيه حتى العقوبة مع المبادرة إلى إيقاعها… كل ذلك قد تمت الإشارة إليه في هذا المقطع من الآية
-أما الخطوة الرابعة فنجد الحق سبحانه وتعالى يرشد خليفته ويرشدنا إلى الخلاصات التي تم استخلاصها من هذه التجربة، وهي كما يشخصها قوله تعالى: ( وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )، لا تعدو ثلاثة أمور: عداوة إبليس -استقرار ومتاع غير دائمين في هذه الحياة – توبة نصوح كلما وقع في غواية من غوايات إبليس، أو كلما زلت به القدم. وقد تم التنصيص على هذه الخلاصات من أجل أخذها بعين الاعتبار لاحقا في دروب الحياة الملتوية.
في طريقة تدبيره الأمور
هذا عن الخصوصيات التي جعلت آدم جديرا بالخلافة، وعن طريقة اختياره، وإعداده العملي لهذا المنصب الجلل… وأما عن طريقة تدبيره الأمور بعد تسلمه مقاليد الخلافة، فنجد الإشارة إلى بعض معالمها قد تمت بداية بهذه الخلاصات التي خرج بها آدم من جنة التجربة، وأعني بها هذه الأمور الثلاثة: عداوة إبليس التي ترشد إلى أخذ الحيطة من هذا الذي يمليه إبليس على الدوام من طريق الغرائز والأهواء، ثم الاستقرار والمتاع غير الدائمين اللذين وقع الإرشاد بهما إلى ما تجب المبادرة إليه من أعمال صالحة، ثم المسارعة إلى التوبة كلما وقع في زلة من زلات العواطف والأهواء، بنوع من العزم والتطلع إلى المستقبل. وقد وقع التنصيص على هذه الموجهات في الخطوة الأخيرة لتكون بمثابة دستور عملي لآدم وذريته في حياتهم البسيطة.
ثم إضافة إلى هذه الموجهات الثلاث نجد الحق سبحانه يرشد إلى ما يجب أن يكون للقانون من سيادة في دنيا الإنسان، وبخاصة عندما تتعقد الحياة وذلك لما له من كلمة فصل في جميع التصرفات والنزاعات، بدونه ودون الثواب والعقاب، لن تستقيم الحياة، كما هو واضح في قوله تعالى: ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (البقرة39).
-هذا وإذا تركنا آدم عليه السلام وذريته ودستوره جانبا، والتفتنا إلى ما جاء به خاتم الأنبياء و الرسل في هذا الشأن، شأن تدبير أمور الأمة، نجد الحق سبحانة قد أوجز أمر هذا الشأن في أمور ثلاثة: الطاعة، و المشاورة، والعدل.
أما الطاعة فقد خاطب بها الأمة قاطبة حيث يقول سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء 59). يلاحظ من خلال الآية أن الطاعة التي خوطبت بها الأمة ليست طاعة عمياء يغيب فيها الفكر والقانون، بل هي الطاعة الخاضعة لقوانين معينة دلت عليها هذه الأصول الأربعة التي وقع التنصيص عليها في الآية: قوانين وردت في كتابه الكريم، وقوانين بينها الرسول عليه الصلاة و السلام في سنته المطهرة، ثم قوانين يتم وضعها من قبل أولي الأمر الذين تثق بهم الأمة، بحكم ما يتوافرون عليه من خبرة في التعرف على ما يصلح الأمة ويضر بها، بل حتى هؤلاء الذين يضعون القوانين و المسمون بأهل الحل والعقد، نجد أنه إذا وقع بينهم تنازع، فإن القرآن الكريم يأمرهم بعرض المسائل المتنازع فيها على القواعد و الأحكام العامة المعروفة في الكتاب والسنة، و ذلك قوله: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ )، فلا طاعة إذن خارجة عن القوانين وعن المرجعية المعروفة.
أما المشاورة فلأهميتها في تدبير الشأن العام، نجد الحق سبحانه قد خاطب بها الرسول القائد في آيتين: واحدة منهما مكية والأخرى مدنية، يقول سبحانه في المكية: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (الشورى 38) ويقول في المدنية: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (آل عمران159)، يظهر من الآيتين أن الحق سبحانه في الآية المكية يبين ما للأمة من حقوق في هذا الشأن وفي الآية المدنية يبين ما على الخليفة من واجبات..
بالإضافة إلى هذا، فإن أهمية واجب الاستشارة تظهر أيضا في أنه سبحانه يأمر نبيه بها حتى عندما يخطئ المستشارون، كما وقع في غزوة أحد حيث قال سبحانه مخاطبا رسوله: ) فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (آل عمران 159)، وتظهر أيضا في أنه قد خص بها أناسا معينين ممن لهم دراية بالمصالح الدينية والدنيوية وهم المسمون في القرآن بأولي الألباب.
والأمر مثله في الأهمية بالنسبة للعدل، حيث نجد الرسول القائد يخبر أمته بأن الله تعالى قد أمره بالعدل بينهم، مثلما أمرهم هم أنفسهم به فيما بينهم، بل لخطورة العدل وجدناه يُرفَع كشعار من قبل جميع الرسل في أقوامهم حيث يقول سبحانه: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى15 ) ويقول: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا) (النساء135) ويقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (المائدة25)
هذا ونظرا لما لمبدأي المشاورة، والطاعة، من أهمية في تدبير الشأن العام، كان بودنا ان نتابع الحديث عنهما من جانبين: نظري، وعملي، أعني كيف وقع الفهم لهما، وكيف وقع تطبيقهما، في اختيار الخليفة من جهة، وفي تدبير الشأن العام من جهة، غير أن المقام لما كان لا يسمح بذلك، ارتأينا ان نكتفي بهذه الخلاصة:
يتبين مما سبق: أي من الموجهات التي خرج بها آدم من تجربته الإعدادية، ومن مخاطبة الأمة بالطاعة المقننة، ومن مخاطبة الرسول القائد لمشاورة العلماء ذوي الألباب العارفين بالمصالح الدينية والدنيوية- يكون الحق سبحانه قد أرسى قواعد الفضاء الذي يتم فيه التعايش بين الحاكمين والمحكومين. يدل على ذلك عمليا، أن الطاعة والمشاورة عندما كان لهما حضور في عهد أبي بكر وعمر ( مثلا) كان هناك المجتمع الذي فاخرت به أمتنا الأمم، وأنه لما فقدتا معا، أو إحداهما، كانت الفثنة الكبرى التي تحدث المؤرخون عنها كثيرا ، ولا يزالون، فبينوا من جهة كيف فقدت الامة الاستشارة في عهد عثمان من جهة ، كيف فقد الإمام علي طاعة المبايعين له بالخلافة من جهة، حتى قال بمرارة: ” لا رأي لمن لا يطاع” ، فكانت الفثنة الكبرى ، بفقدان أحد الامرين، كما بينوا من الجهة الأخرى كيف استبد معاوية بالراي، وبانتزاع الطاعة من الأمة تارة بالقوة وأخرى بالحيل، فكان ما كان مما هو مثبت في مسيرة أمتنا.
(*) أستاذ مادة أصول الفقه
المصدر: وكالات