في تحرك “نوعي” من طرف مبادرة OTED، التي تضم فاعلين من المجتمع المدني، جرى تنظيم ندوة رقمية أمس الخميس ناقشت “الدوار” كنسق اجتماعي ممتدّ في القرى والمداشر والمناطق شبه الحضرية. الأكاديميون المشاركون في اللقاء الملتئم عن بُعد أجمعوا على أن هذا الفضاء “استطاع لفترة طويلة أن يحافظ على التراث الطبيعي، سواء كان مادياً أو غير مادّي، ما يجعله في حاجة إلى تأهيل واعتراف مؤسساتيين”.
اللقاء الذي ناقش قضية المؤسسات الاجتماعية في المجتمع القروي بالمغرب، ولاسيما في فضاء الدوار، خلص إلى أن من بين التحديات التي تواجهها هذه المؤسسات تنامي حركية الهجرة نحو المدن وإخلاء هذه المناطق، لكنه لفت وجود ساكنة تتشبث بالعيش في الدوار وتتمسك باستمرار الحياة فيه، كما أن كثيرين يدعمون هذا الخيار، والأبناء يعودون في الأعياد الدينية وغيرها.
ديناميات متباينة ومتقاطعة
محمد مهدي، الأكاديمي والباحث في السوسيولوجيا القروية، قارب الموضوع من حيث الديناميات التي شهدها العيش في الدوار. ويرى أن الحل المؤسساتي الممكن اليوم هو تأهيل مؤسسة “الجّْماعة” التي كانت عنصراً ذا أهمية كبيرة في تحديد التوافق داخل هذه الفضاءات، والتعاون بين الساكنة، مسجلاً أنها صارت الآن متواجدة لكن مع جيل جديد استطاع أن يسخر أيضاً الرقمية للحفاظ عليها، وزاد: “‘الجماعة’ مازالت متواصلة ولكن عبر ‘الواتساب’ مثلاً”.
ووضّح مهدي، وهو يتحدث ضمن الندوة المذكورة، أن الدواوير بشكل عام مختلفة عن بعضها البعض من حيث توقيعها الترابي داخل المملكة، خصوصاً من حيث النظم البيئية الزراعية، مواصلا بأن الجبال تعدّ فضاء حاضناً لدواوير غفيرة مختلفة، فيما جبال الأطلس تختلف عن نظيرتها في الريف، وعن الدواوير الواقعة في واحات درعة أو تافيلالت، وعن الموجودة في الشرق أو في سوس أو في الصحراء المغربية.
وكشف السوسيولوجي ذاته أن النتائج أو الاستنتاجات والأبحاث المونوغرافية التي استهدفت دواوير معينة “لا يمكن تعميمها على البقية داخل التراب الوطني”، بحكم الخصوصية، مستدركاً بأنه “من ناحية أخرى لا ينتفي التعميم تماماً لهذه النتائج بما أن هناك تقاطعات واتجاهات تطورية مشتركة في المجمل”، وأشار إلى “وجود نطاقات محظوظة بحكم تواجد الماء والثلج ضمن تكوينها المناخي، كما أن فضاءات أخرى صارت خالية بحكم التغيرات المناخية”.
وتوسع المتحدث في هذه الفكرة، في إطار عرضه للديناميات، مسجلاً أنه “على الجانب الجنوبي بدأت الهجرة منذ الستينيات نحو دول أخرى، بما غيّر مصير الناس، بحيث بدؤوا تدريجياً الاعتماد على تحويلات المهاجرين أكثر من النشاط الفلاحي”، مضيفاً أنه “من جهة أخرى، وفي إمليل تحديداً، كانت الهجرة شبه منعدمة، لأن الحركة الزراعية ظلّت متواصلة، واتجه الناس إلى زراعة تُنزل للأسواق وليس فقط معيشية”.
وتفاعلاً مع أسئلة مرتبطة بشكل الدواوير والمؤسسة الاجتماعية فيها بعد فاجعة زلزال 8 شتنبر قال الأكاديمي ذاته إن هناك فضاءات دمرت بالكامل ومنها ما انمحى من الخريطة، موردا أن “هناك حالة من غياب اليقين الآن ترافق عملية إعادة الإعمار، فمن الصعب أن نجد أجوبة بخصوص استمرار الأنشطة الفلاحية مثلا؛ فهي خيار يعود للساكنة، ولذلك نحن أمام ما يمكن أن نسميه ‘دوار ما بعد الزلزال’”.
“علاقة متميزة مع الطبيعة”
الأكاديمية المغربية والباحثة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية سميرة مزبار قالت: “إننا حين نخضع الدوار لمجهر النظر نجد أننا، بشكل ما، مازلنا نجترّ الفلسفة نفسها التي وضعها المستعمر، سواء الفرنسي أو الإسباني، وهي التي تجسدت في الكتب التي جرى إصدارها عقب وصولهما إلى المغرب؛ وهي قراءة محكومة بمنطق الرغبة في التحكم، مع أننا نعلم أن هناك قرارات تتخذ محلياً داخل الدواوير التي تدبر مصيرها”.
ووفقا لمزبار فإن “هذه الفضاءات كانت غير مرئية بالنسبة للنظام المركزي المغربي، ولذلك كانت الرؤية لها تخفي وراءها قراءة متعسّفة تحاول إسقاط شكل المدينة الغربية على التعاطي المحلي”، وزادت: “نموذج هذه المدينة كان استحواذياً ومهيمناً، وتبنّيه لدينا أدى إلى الخروج بالنتائج نفسها، وهي إلقاء المناطق القروية على الهامش، بوصفها من مظاهر التخلف أو لكونها غير قادرة على استدماج مقولات الحداثة”.
من جهة أخرى اعتبرت الباحثة المغربية أن “العلاقة بين الساكنة في هذه المناطق والمدخرات الطبيعية التي تتوفر عليها تعدّ مهمة للغاية، خصوصاً من حيث قدرة الساكنة على إدارة القطاع الفلاحي”، وقالت إن “هناك تحديات أخرى تواجه هذه المناطق كما حدث في الفيضانات الأخيرة، فبعض الدواوير كانت تعتمد على إمدادات أساسية من المدينة، وقد تعطلت هذه العملية؛ وهذه مشكلة تنضاف إلى ما حدث عقب الزلزال”.
وقالت المتحدثة عينها إنه “حين نتحدث عن تراث هذه الفضاءات فنحن نتصور في أذهاننا جميعاً أنها مرادف لذاكرتنا الحية والمتحركة؛ وأنها تخزّن ماض نجمده ونحاول فهمه، فنأخذ منه بعض الخصائص ونحوّلها إلى مادة متحفية”، معتبرة أنه “بالنسبة لجميع المعنيين بالديناميات الاجتماعية والاقتصادية فإن هذه الرؤية (الفلكلورية) تعيق بشكل محوري تنمية هذه المناطق”.
فضاء سياسي؟
محمد الطوزي، الأكاديمي والباحث في العلوم السياسية والاجتماعية، قام بجرد للطريقة التي تُدار بها “المؤسسات” داخل الدوار، مشدداً على أننا “في القرن السابع عشر نعثر على دواوير بشكلها الحالي نفسه وبدقة، لاسيما من حيث تلك القدرة على التدبير الذاتي (L’autogestion)”، مضيفاً أن “الأساسي هو وجود فضاء للسكن، ويمكن أن يكون للدوار بهذا المعنى امتداد يمكن القول عنه إنه سياسي”.
وأورد الطوزي، ضمن مداخلته، أن “هذا الفضاء السكاني يمكن أن يكون في الحد الأقصى مدينة (La cité)، فلا وجود لدوار بلا عدد من المؤهلات المرفقية، التي يتولى تدبيرها وإدارتها، خصوصاً المقبرة والمسجد بشكل أساسي”.
وسجل الأكاديمي المغربي ذاته أنه “عقب الاستقلال في إطار تهيئة وبناء الدولة الوطنية كانت هذه العملية عنيفة، ومرتبطة بالقومية، بشكل ضمني وأحياناً بشكل صريح ومعلن، وأدى ذلك ليس إلى القضاء على فضاءات معينة من شكل الناس بالمغرب وإنما إلى إلحاقها بالدولة (قسراً)، التي كانت تتبنى فكرة القومية آنذاك، ومن هذه الفضاءات القبيلة التي كانت فضاء اجتماعياً ينتعش في الدواوير”.
المصدر: وكالات