يواظب المغرب ككل سنة على إقامة الدروس الحسنية خلال شهر رمضان، وهو تقليد دأبت عليه مؤسسة إمارة المؤمنين منذ عهد الحسن الثاني إلى اليوم. وتُجسد هذه الدروس، التي يساهم في إلقائها ثلة من العلماء والمختصين في الحقل الديني، سواء بالمملكة أو خارجها، نوعا من التعظيم المغربي لشهر رمضان، وتكريسا لسمو مكانة العلماء بالبلاد.
وتم الجمعة الماضي بالقصر الملكي بالرباط افتتاح سلسلة الدروس الحسنية لرمضان 1445، بحضور الملك محمد السادس، حيث ألقى، كما هو معتاد، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، الدرس الافتتاحي حول موضوع “تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين”، على أن تليه دروس أخرى على مدار هذا الشهر.
ووقف باحثون في مجال الفكر الإسلامي والشريعة على دلالات ورمزية هذه الدروس، التي ظلت مستمرة بالمملكة منذ زمن الحسن الثاني، والتي عرفت نوعا من التحديث في عهد محمد السادس، مبرزين أنها “تظل تجربة إقليمية رائدة وجامعة مفتوحة لتدارس قضايا الدين والدنيا، لا سيما أنها أعطت الفرصة لعلماء مغاربة وأجانب لتنوير عموم العالم الإسلامي”.
تجربة إسلامية فريدة
لحسن سكنفل، رئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة الصخيرات تمارة، أفاد أن الدروس الحسنية الرمضانية تظل “تجربة وخاصية مغربية فريدة، حيث تُعد تقليدا مغربيا مستمرا بين الملوك العلويين؛ فعلى سبيل المثال حضرت هذه التقاليد حتى في الفترة الحفيظية، غير أنها ستصير على الشكل الحالي منذ ستينيات القرن الماضي بمبادرة من الملك الحسن الثاني”.
وأوضح سكنفل، في تصريح لهسبريس، أن “الاهتمام المغربي المتزايد بالدروس الرمضانية برز خلال القرن الماضي تزامنا مع انتشار الفكر الإلحادي وما فعله التيار الشيوعي بالعالم، وبالتالي فهي دروس عادة ما يلقيها ثلة من العلماء المسلمين أمام الملك في وضعية يكون فيها العالم بأعلى المنبر ويتقابل معه الملك الذي يظل جالسا، وهذه الوضعية لها أبعادها الرمزية، وتدور هذه الدروس حول مواضيع علوم القرآن والحديث والفقه والكون”.
وبيَن المتحدث أن “هذه الطريقة في تنظيم الدروس الحسنية الرمضانية ظل معمولا بها إلى اليوم، غير أن اللافت بشكل جلي خلال الآونة الأخيرة هو شروع النساء العالمات بدورهن في إلقاء الدروس إسوة بالعلماء الذكور، وهو ما يبين مركزية المرأة في المجتمع الإسلامي ككل والمغربي خاصة”، لافتا إلى أن “هذه الدروس استفاد منها المغاربة خلال سنوات طويلة بالنظر إلى كونها تبث على التلفزيون الوطني ويستفيد منها كذلك المسلمون أجمعون”.
وتابع قائلا: “الدواعي التي دفعت إلى إقرار هذه الدروس في رمضان هي كون هذا الشهر الفضيل شهر للذكر، فضلا عن كون المغاربة في الأزمان السالفة كانوا يواظبون على الاستماع إلى الحديث خلال هذا الشهر، خصوصا بعد صلاة العصر، وهو ما تجسده هذه الدروس كما وكيفا”، لافتا إلى أن “عددا من العلماء المسلمين من غير المغاربة شاركوا، وما زالوا، في هذه التجربة التي أبدعها الملك الحسن الثاني، الذي عادة ما يلقب بملك العلماء من قبل هؤلاء العلماء”.
جامعة رمضانية
أحمد البوكيلي، الأستاذ الباحث في الفكر الإسلامي والحوار بين الحضارات بجامعة محمد الخامس بالرباط، قال إن الدروس الحسنية الرمضانية “تعكس نوعا من العبقرية الملكية في بناء وتقديم نموذج ديني وروحي مؤسس على إمارة المؤمنين التي تؤطر المجال الروحي بالمملكة، وتعكس كذلك نوعا من التميز المغربي في المزج بين الوظائف الدينية والثقافية لمؤسسة إمارة المؤمنين”.
وأضاف البوكيلي، في تصريح لهسبريس، أن “هذه الدروس تعكس كذلك طبيعة النموذج الحضاري للشخصية المغربية في المجال الروحي، على اعتبار أنه نموذج عالمي وإنساني متفرد، وهو الأمر الذي يبين أن هذه الدروس الملكية هي جامعة مفتوحة للعلماء من جميع القارات والفضاءات الثقافية والحضارية، بالنظر إلى فتح المجال للتواصل بين هذه القامات العلمية المتخصصة في المجال الديني”.
واعتبر المتحدث ذاته أن “هذه الدروس تظل قبلة روحية لثلة من العلماء بالعالم الإسلامي، فضلا عن كونها تعبير عن تعظيم المغرب ومؤسسة إمارة المؤمنين لهذا الشهر الفضيل، وتأكيد لقيمة هذه المؤسسة في ضبط المجال الروحي لملايين المغاربة، على اعتبار أن هذه المؤسسة تظل منتصرة لنموذج في التدين قائم على التعايش والتسامح والوسطية”.
وخلص إلى أن “استمرارية هذه المدرسة الدينية تظل من ثمرات مؤسسة إمارة المؤمنين، التي تبقى محصنة للمجال الديني بالمغرب”، مبرزا أن “مشاركة النساء العالمات في إلقاء هذه الدروس تعكس بشدة الحرص المغربي على تمكين المرأة اقتصاديا واجتماعيا وعلميا مادام للبلد علماؤه وعالماته كذلك”.
المصدر: وكالات
