ميّز الناقد إبراهيم الحيسن بين نوعين من الفنانين الاستشراقيين؛ فمع أن “الاستشراق بشكل عام في مناحيه العلمية والتاريخية والسياسية والفنية كان دائما مرتبطا بالسفر والترحال”، إلا أن هناك “فنانين رحالة منهم من عبر إلى البلاد العربية سنوات قصيرة، ومنهم من مكث بل وأسلم مثل إتيان ديني، نصر الدين ديني، بالجزائر. وكان هناك فرق واسع في الصدقية والألوان بين من أقاموا وتعرفوا على الفضاءات المرسومة وتعايشوا مع ساكنتها، ومن كانوا يرسمون انطلاقا من الاستيهامات، وما سمعوا عنه”.
جاء كلام الناقد إبراهيم الحيسن هذا في لقاء مع الإعلامي ياسين عدنان، في أحدث حلقات برنامج “في الاستشراق” الذي تعرضه “منصة مجتمع”، مضيفا أن “من الفنانين الاستشراقيين من حولوا المرأة إلى جارية في لوحاتهم، وقدموها في صور كثيرٌ منها غير صحيح، فلم تَكُنّ (النساء) موديلات للرسامين في أشكالهن العارية”، والحقيقة أن “الكثير من الرسومات التي تنتمي إلى الجسد العاري (الشرقي) تمّت في محترفات، بعيدا عن فضاءاتها (المدعاة)، بموديلات أجنبيات كن يلعبن الدور”، لكن لا ينفي هذا وجود “فنانين استطاعوا بتدخلات ولوج فضاءات رسمية، ورسم فضاء الحريم، الذي كان مسموحا في حدود أخلاقية”.
وزاد: “كانت هناك طابوهات تحرم رسم العري في تاريخ الفن الأوروبي بسلطة دينية، ومجموعة من اللوحات مثل [غذاء على العشب] لمانيه، تعرضت لانتقادات، وكان هذا هروبا من الواقع المحلي وتجسيدا له بنوع من الاحتيال”.
ودافع الناقد والفنان المغربي على أن “الاحتكاك والتثاقف بين الثقافات المتجاورة”، في وقت سابق عن قرن الاستشراق، “يصعب أن نسميه استشراقا، بل هو حراك فني وإبداعي؛ فميلاد المسيحية في المشرق العربي وانتقالها إلى أوروبا، وتأثير الفن الإسلامي في مجموع من الثقافات منذ العصور الميلادية الأولى، تثاقف”.
ثم استرسل قائلا: “كان علينا انتظار القرن التاسع عشر لتتكرس ملامح الفن المسمى استشراقيا (…) والفن الإسلامي منذ ظهوره كان له امتداد وتأثير، والعمارة الإسلامية خلقت انبهارا عند الآخر (…) وتوافُد الفنانين الأجانب على بلاد الشرق كان أولا بفعل الفضول، بعد الاطلاع على قصص منها [ألف ليلة وليلة]، لكن لم تأخذ أعمالهم بُعدَها الاستشراقي إلا مع الفنان الأنثروبولوجي في نهاية القرن التاسع عشر جون ليون جيغوم، الذي أسس أكاديمية الفنون الجميلة للفن الاستشراقي”.
وربط الحيسن الفن الاستشراقي بـ”الخلفية الكولونيالية”، ثم استدرك قائلا: “كان علينا فهم السياقات لفهم هذا المد البصري والأيقونوغرافيا البرّانية، ومجموعة من الرسامين جاؤوا المغرب في بعثات (…) بمهام، لكنهم تركوا إرثا بصريا مهما جدا، يؤرخ للوجود الاستعماري، ويسهم في الدرس الجمالي”.
وتطرق المتدخل إلى أوجين دولاكروا ولوحاته، فقد زار المغرب بعد استعمار الجزائر سنة 1830؛ فتجول بطنجة ومكناس، و”تميزت رسومه بالدقة، وأنجز دفاتر مليئة بالرسومات الإيضاحية والكتابات، كما ترك رسائل ومذكرات”، وهو “من الفنانين الأساسيين المركزين على ثيمة النور، وهذا الضوء كان يبحث عنه الفنانون، ووجد شمس المغرب ساطعة، والفنان ماتيس بدوره أطلق على المغرب بلد النور، وبما أن الانطباعيين قد اهتموا بثيمة الضوء، فإن دولاكروا كان ممهدا لهم”.
وذكّر الحيسن بقدوم بيرتوتشي للشمال وفضله في تأسيس مدرسة تطوان للفنون الجميلة، التي كانت من “الفضاءات التمهيدية للتعليم”، مع الدار البيضاء التي أسهم جاك ماجوريل في بداياتها؛ ثم علق قائلا: “عدد من طلبة المغرب تتلمذوا على هؤلاء الإسبان والفرنسيين (…) ثم أتموا تكوينهم بمدارس أوروبا، فتكونت نخبة من أبناء البلد الذين درّسوا [الفنون] بعد ذلك بمعاهده”.
وختم بأنه “بغض النظر عن الخلفية الاستعمارية، فقد ساهم [الاستشراق الفني] في تطوير فن التصوير في العالم العربي والعالم عموما”، مذكرا بأنه بعد “الاستقلالات كسّر العديد من الفنانين العرب هذه الأنماط بأساليب تميزّهم بعيدا عن التشخيص”.
المصدر: وكالات