راهنت جلسة “مهارات الغد.. كيف يمكن بناء النظام التربوي؟”، المنعقدة ضمن فعاليات اليوم الأخير من مؤتمر “الحوارات الأطلسية”، على مساءلة التحديات والاضطرابات التي تعرفها المنظومة التعليمية في العديد من البلدان، خصوصا بلدان الجنوب العالمي، في ظل الثّورة الرقمية والتقدم التكنولوجي، وكيفيات تأهيل القوى العاملة من خلال تمتين المهارات الأساسية اللازمة للتفاعل مع تعقيدات مستقبل يشتغل وفق مفاهيم جديد.
كما راهنت الجلسة، التي تخلَّف وزير التشغيل يونس السكوري عن حضورها مساء السبت، وحضرها الأكاديمي الفرنسي وعالم المستقبليّات جاك أتالي، إلى جانب الأكاديمي الأمريكي تشارلز كوبشان، على وضع تشخيصات موضوعيّة لوضعية التعليم لإعادة هيكلة التصور التربوي بشكل يمكنه من صياغة مفاهيم استراتيجية حديثة لمواكبة التطورات التكنولوجية وضمان تماشي أنظمة التعليم مع متطلبات الغد الاقتصادي.
جاك أتالي، الكاتب الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي، قال إن “التربية والتعليم قطاع يمثّل جزءاً لا يتجزّأ من الأبعاد الجيوسياسية؛ هناك علاقة وطيدة بين الشقّ الجيوسياسي والتّعليم لأن التداخل حاصل والتأثير متبادل بين البعدين”، مؤكداً أن “وضع التربية والتعليم في عالم اليوم يحتم معالجة النقل، الذي هو أكثر صمتا وحيوية. النقل يتم في سياق الأسرة والمجتمع والمدرسة، بينما التعليم يحيل على ما يتلقاه الفرد داخل الأوساط الأكاديمية والمؤسسات التعليمية”.
وأوضح أتالي، في مداخلة له خلال جلسة عامة، أن “هناك تحوّلات وتطورات حدثت في هذا الجانب، فمنذ خمسينيات القرن الماضي لم يكن هناك أكثر من 10 في المائة من سكان العالم يحسنون القراءة والكتابة، لكن اليوم هناك أكثر من 90 في المائة من سكان الكوكب يلجون التّعليم، وكثير منهم يمرون من الصفوف الابتدائية إلى الإعدادية والثانوية ثم الجامعية”، مشيرا إلى أن ثمة أبحاثا جامعيّة في المستوى.
غير أن الأكاديمي الفرنسي عاد بسرعة ليؤكد أن “هناك تحديات حقيقية تواجهها المسألة التعليمية على مستوى الدول النامية”، موضحاً أن “فشلا ذريعا وإفلاسا حقيقيا تعيشه العديد من البلدان على المستوى التعليمي”، ومشيراً إلى أن “هناك تراجعا في النمو الديمغرافي، وتراجعا من حيث الرغبة في التعلم، الأمر الذي أفرز أعدادا أقل من الطلبة في الفصول الدراسية، كما أن هناك هزالة كارثية في الميزانيات التي يتم ضخها في هذا القطاع”.
وتابع قائلاً: “نعاين كذلك انهياراً في المنظومات والآليّات التي من شأنها تقييم جودة المقررات الدراسية على مستوى المناهج التعليمية، خصوصا في الرياضيات واللغات الأجنبية، وقد امتدّ هذا الوضع إلى البلدان المتقدّمة اليوم”، مسجلا أن “قلّة المصادر والموارد واكتظاظ المؤسسات التعليمية جعلا مردوديّة هذا القطاع تتأثّر بشكل لافت للانتباه، والتداعيات هنا ضخمة وواسعة النطاق من حيث كلفتها مستقبلا، مما يستدعي التعامل معها بسرعة”.
من جهته، قال تشارلز كوبشان، أستاذ العلاقات الدوليّة بجامعة جورج تاون الأمريكية، إن “تأمل أجندة التربية والتعليم في عالم اليوم يقتضي النظر في هذه المنظومة كأداة محوريّة من أجل تمتين التّماسك والهويّة الوطنيّتين”، مبرزا أن “العالم يعرف تصدعات وانشقاقات مجتمعية داخلية بسبب الوسائط الاجتماعيّة، وبحكم ضعف المؤسسات التي تحول الأفراد ذوي الانتماءات العرقية والثقافية وغيرها إلى مواطنين حقيقيين، خصوصا في أمريكا التي تعتبر البعض مواطنين من الدرجة الثانية”.
وأكد كوبشان أن “هناك حاجة اليوم إلى ضمان كيفيّة قادرة على دفع المنظومات التعليميّة نحو خلق مواطنين مؤهّلين وقادرين على خدمة بلدانهم”، موضحاً أن “التركيز على روح المواطنة في التعليم وما يعنيه أن يكون المواطن مسؤولا هو ما صارت الأنظمة التعليمية تهمله في وقت تنتعش فيه السرديات الرقميّة، وهو ما ساهم في تنامي المدّ العنصري في العديد من الأقطار”.
وألح الأكاديمي الأمريكي على ضرورة أن نعمل على استثمار التعليم لخلق مواطنة مسؤولة قادرة على التعايش داخل مجتمعات متماسكة، وكذلك تعزيز ولوجية الفتيات والنساء إلى التعليم”، مسجلاً أنه “كانت هناك خطوات سابقة متواضعة ومحتشمة في هذا المجال، لاسيما من حيث تأهيل الرأسمال الاجتماعي، لكن الكثير من تصوراتنا لا تزال موروثة عن حقبة الثّورة الصناعية، في الوقت الذي نمر نحو الثورة الرقميّة”.
ودعا إلى التفكير في خلق نظم تعليمية جديدة تساعد الأفراد على الالتحاق بركب الثورة الرقمية، ومساعدتهم على تحقق مداخيل فردية من هذه الوسائل المتاحة اليوم. كما دعا إلى “إعادة الوهج إلى الأدب والتاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية، التي صارت تعرف تراجعا حقيقيّا على مستوى المقررات الدراسية في الوقت الذي تُعتبر هذه العلوم حجر الزاوية من أجل تحول الأفراد إلى مواطنين منتجين ومبدعين”.
المصدر: وكالات