سلّط الكاتب الأردني عواد ألوزينة الضوء على مضامين رواية “حلم تركي” الصادرة في 2021 للكاتبة كريمة أحداد، مستهلا مقاله المعنون بـ”الحلم التركي إلى أين؟” بالإشارة إلى أن “الغربة الحقيقية ليست تلك التي نشعر بها في بلدان غير بلداننا؛ بل تلك التي نشعر بها ونحن داخل أوطاننا، فنضطر إلى البحث عن وطن جديد”.
وأكد ألوزينة أن “المؤلفة كانت بارعة جدا في الغوص في أحاسيس الأنثى وفي تصوير تلك الأحاسيس ورسمها والجري وراء أعماقها في مواقف الحياة المختلفة؛ في الحب، وفي الكراهية، في الشباب وفي الشيخوخة، في الراحة والتعب، في الواقع وفي التخيل، وفي الغيرة، وفي الكيدية، وفي الشعور بالفرح والحزن والأسى والغربة والأمومة”.
هذا نص المقال:
“الغربة الحقيقية ليست تلك التي نشعر بها في بلدان غير بلداننا؛ بل تلك التي نشعر بها ونحن داخل أوطاننا، فنضطر إلى البحث عن وطن جديد. وأغلب الظن أننا لن نعثر أبدا على وطن آخر، ونضيع الطريق إلى أوطاننا الأصلية” من رسالة من زهرة التوليب لإيمان، حلم تركي، ص 306.
صدرت رواية (حلم تركي) لكريمة أحداد عام 2021 عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء في 416 صفحة، وتميزت برشاقة السرد وبراعة التصوير ومسرحة الأحداث، وفيها حشد ثقافي هائل متنوع عربي مغربي وتركي وعالمي يمتد من الأدب إلى الموسيقى والغناء إلى فنون وثقافات عديدة، قد يكون مبالغا فيها. وقد جاءت الرواية في 68 فصلا، تتفاوت عدد صفحات كل فصل.
(حلم تركي) رواية تتقاطع فيها الآمال الكبيرة والخيبات والفواجع الكبيرة كذلك. ورواية تتشابك الجذور وتتعارض الانتماءات والرؤى والمشارب والأصول والآراء والمواقف والمصائر. شخصياتها ذات طموحات عالية في تغيير حيواتها وتتطلع في خيالات وأحلام تختلف أحيانا وتتعارض مع الواقع. عرب يغيرون ملامح شخصية تركيا وهويتها ولغتها، كما عبرت عن ذلك شخصية تركية تتصف بالعنصرية في الرواية، وهي تعارض ذلك التوجه بصراحة ووضوح، مما يثير عنصرية بعض الأتراك إلى حد العدوانية اللفظية والجسدية.
في الظاهر هناك حياة إسطنبول المرتبطة بالمخيال التراثي التي تبدو مترفة ومريحة يغمر أناسها الحب والعشق والهيام في كل شقة وزاوية وشارع وزقاق ومقهى ومطعم. وفي العمق تشوهات وتمزقات وخيبات كبار، وضياع وفقد وأحقاد دفينة وعدوات وكراهية وهروب وإجهاض وخصومات وغيرة قاتلة وتنافس شديد، وخصوصا بين النساء الكثيرات في الرواية.
هل كتبت الرواية تحت تأثير الثقافة التي أشاعتها المسلسلات التركية والرومانسية التي غلبت عليها والتي تسللت بسهولة إلى المجتمعات العربية مدبلجة وغير مدبلجة؟ أغلب ظني أن الأمر كذلك، سواء في الأحداث أو في أسلوب الحياة المصورة في الرواية أو حتى في اللغة العاطفية الرومانسية المغرقة في الخيال إلى حد يقارب حواف الجنون أحيانا. وقد ذكرت الكاتبة نفسها أنها تسمرت ساعات طويلة وأياما كثيرة في صغرها وهي تشاهد المسلسلات التركية خاصة.
خالد وإيمان الخطابي، الزوجان المغربيان الآتيان من الدار البيضاء إلى إسطنبول والحالمان ببناء مستقبل زاهر لهما هربا من حياة التهميش، هما الشخصيتان الرئيسيتان المنقسمتان بين الحب الجارف والكراهية الدفينة، والخيال الجامح والمشتت بين الحب والسعي إلى التقدم الوظيفي وتوفير حياة هانئة ومستقرة في تركيا. فإلام وصلا؟ بعد لوثة تشبه الجنون بحب إيمان الواهم لكنان ولزهرة التولب أم كنان والكاتبة التركية، وبعد تجربة الإجهاض اعتبرت إيمان أن كل ذلك كان نوعا من العبث والجنون ولم يعد يعنيها في شيء، وأرادت أن تعود إلى حياتها البيتية المعتادة الرتيبة المملة مع خالد، والنكوص إلى ما كانت عليه في الدار البيضاء من طبخ واهتمام بالبيت وانتظار عودة خالد من العمل. لكن حياتهما أخذت في الذبول، وتراجعت طموحات خالد، وأخذت إيمان تفكر في الطلاق، وأجهضت مما قد يعني أن ذلك الزواج غير مثمر كما هي رحلة تركيا.
ونبيل المصري الهارب من القمع والملاحقة سياسيا والمحكوم عليه في مصر والهارب بجلده. ونجوى أو ناجي التونسي الضائع بين الجنسين، هو راغب في أن يكون رجلا لكنه في جسم امرأة وطالما كره نفسه، ويحاول أن يظهر بمظهر رجل لكن جسمه يفضح سره، والطامح إلى اتخاذ تركيا معبرا لأوروبا، وإيناس السورية الحكاءة المشيدة بمواقف الحكومة التركية في احتضان المهاجرين السوريين والهاربة من الحرب وويلاتها، ولا ترى في دور تركيا في سوريا إلا الجانب الإيجابي، وإسراء الفلسطينية من خان يونس المهاجرة إلى تركيا للدراسة، ثم العمل، بعد أن فقدت عائلتها في عدوان 2014 الإسرائيلي. جاءت إسراء في منحة للدراسة فأرادت أن توجد لها جذورا بدل جذورها التي اجتثت في خان يونس، فتزوجت تركيا عاملها بوحشية ثم طلقها وأخذ طفلها بعد سنتين من زواجهما، وهي ستعيد تجربة الزواج مع نبيل المصري. وحتى زهور أم خالد بعد أن وصلت إسطنبول في زيارة لولدها عبرت عن إعجابها قائلة: “إن كل التقدم الذي وصلت إليه تركيا اليوم هو بفضل أردوغان، وأنها حلمت دائما بالمجيء إلى هذا البلد من أجل اقتناء ملابس وعباءات تركية أصلية” ص 269… هكذا هو الافتتان بكل ما هو تركي. تركيا الدولة العظيمة. هكذا.
لم يكن ذلك هو تصور زهور وحلمها وحدها فقط؛ بل كان هو انبهار وإعجاب عربي شامل بالتاريخ التركي وقصور السلاطين ومجدهم وجمال طبيعتهم ونظافة شوارعهم، وجمال نسائهم ورجولة رجالهم، وتلك القصص الحبية الرومانسية التي عاشها السلاطين والناس العاديون، وحياة الترف والقصور والجمع بين التحضر والجمال والحرية والتدين. إنها تركيا العظيمة في كل شيء، وهو نموذج يشعر العرب نحوه بدونيتهم. حتى الطعام التركي وبوراك يمجده العرب ويتجمعون لرؤيته والتصور معه. صور رسمتها كريمة أحداد بما يقرب من السخرية لغرابتها.
وشخصيات تركية أخرى ذات أدوار بارزة وفعالة؛ أهمها هازال وكنان. كانا زوجين وانفصلا، وزهرة التوليب أم كنان والمختفية عن ولدها كنان.
تصادف إيمان كنان في لقطة قصيرة وتعلقت به إلى حد الجنون والهذيان. ورسمت الكاتبة علاقة حب موهومة وخيالية بين إيمان الخطابي وبين كنان. هي حالة مرضية نفسية وعقلية جرفت إيمان إلى الهيام في الشوارع والأزقة والمقاهي والمطاعم للالتقاء بكنان. صور تنقلها كريمة في الرواية بلغت بإيمان إلى حدود الهوس والجنون والهلوسة، فأخذت تتخيله في أي شيء وفي أي شخص تمر به. صورة تلفازية وسينمائية غرائبية.
هذه الشخصيات العربية الهاربة من واقعها والمتشوقة إلى حياة تركية أكثر ازدهارا وحرية تجمع بين تاريخ الشرق وحرية الغرب تلتقي بشخصيات تركية لا تقل معاناتها في الحب والهيام وفقدان الحبيب/ة، وفي الحياة عن هؤلاء العرب المغتربين الذين يعملون في الكتابة والصحافة غالبا، وهم الذين يتجرعون مرارة الغربة ومرارة العنصرية التركية. ومن هنا، فإن في الرواية تقاطعات كذلك بين ما فيها من أحداث مع حياة الكاتبة في المغرب وفي تركيا. إلى أي حد هذا التقاطع؟ الجواب بحاجة إلى كثير من الدراسة غير متأتية الآن؟
هذا هو محور رواية (حلم تركي) لكريمة أحداد، الصحافية والكاتبة والقاصة المغربية والتي أصدرت من قبل رواية (بنات الصبار) متناولة فيها معاناة المرأة المغربية القروية من قهر ذكوري ومن تهميش في الحياة.
في هذه الرواية معالجة لقضايا متكررة بطريقة نمطية، وهناك تعميم لهذه المسائل النمطية، ومعالجتها كذلك نمطيا بفكر موروث متناقل عبر قرون. ويمكنني الإشارة إلى هذه النمطية التقليدية المتوارثة في ثلاث قضايا: القضية الأولى: هي في العلاقة بين الحماة (أم الزوج) وبين الكنة (زوجة الابن بالنسبة لأمه)، بين زهور الأم/الحماة وبين إيمان/الكنة، وهي علاقة كراهية وبغض وحقد وتأليب الابن ضد الكنة ومشاعر متوترة متبادلة، واحتجاج الكنة على تدخلات حماتها في علاقتها بزوجها، وبخصوصيتها وحياتها… إلخ وهذا التدخل الفج يحول حياة الزوجين إلى جحيم.
القضية النمطية الثانية: هي الحساسيات والغيرة بين النساء وأحاديث القيل والقال والهمز واللمز في اللقاءات التي تجمعهن والنميمة والطعن المتبادل بطرق مباشرة وغير مباشرة. ويتركز هذا الطعن والانتقاد على حركات البدن، واللباس، والزينة، وطريقة الكلام، والأفكار والآراء والميول والنزعات الجنسية. ولعل ذلك أوضح ما جرى هو بين إيمان وياسمين، إذ عبرت إيمان أكثر من مرة عن ضيقها بياسمين وزينتها ولباسها… إلخ. ولا يتوقف الأمر عن النساء العربيات، بل يشمل التركيات أيضا.
والقضية النمطية الثالثة: هي العلاقة بين الرجال والنساء وتقلبها بين الحب والعنف والكراهية والهروب. صورة تحدثت عنها زهرة التوليب وإيمان في رسائلهما المتبادلة. ومن تلك الصورة النمطية أن النساء أكثر التزاما بالعائلة وتماسكها وبالأطفال؛ في حين يسهل على الرجال الهروب من مسؤولياتهم إزاء زوجاتهم وأطفالهم.
والمؤلفة بارعة جدا في الغوص في أحاسيس الأنثى وفي تصوير تلك الأحاسيس ورسمها والجري وراء أعماقها في مواقف الحياة المختلفة، في الحب، وفي الكراهية، في الشباب وفي الشيخوخة، في الراحة والتعب، في الواقع وفي التخيل، وفي الغيرة، وفي الكيدية، وفي الشعور بالفرح والحزن والأسى والغربة والامومة… إلخ. هل هذا العمق والغوص في نفسية المرأة ومشاعرها والدقة في التصوير، وفي اختيار المفردات وأساليب التعبير المعبرة عن مشاعر الأنثى خاصة يعود إلى أن المرأة (المؤلفة في هذه الحالة) أقدر وأدق في فهم مشاعر المرأة والتعبير عنها؟. أعتقد ذلك
الفصل 43 جاء بعنوان (تركيا أفضل بلد في العالم) فهل تنتهي الرواية بالجواب إيجابا عن سؤال بهذا المعنى؟
الصورة التي روتها إيمان لحماتها زهور أكثر من كئيبة حول الإسلام في تركيا. وسوف أترك الجواب للقارئ، متمنيا له قراءة ممتعة لرحلة متعبة، بل متعبة جدا في تتبع خيوط العلاقات بين الشخصيات والأحداث وفي التقطيع والقفز الزمني والقضايا المتداخلة المتشابكة تشابك حياة إسطنبول والشخصيات متعددة المواقف والآراء والاهتمامات منسجمة ومتعارضة، حتى ولو كانت شائقة قراءة.
المصدر: وكالات