بعد تقديم قراءة في الحصيلة المرحلية للحكومة في قطاع التربية الوطنية نحاول من خلال هذا المقال مناقشة الحصيلة في قطاع التعليم العالي. يبقى القاسم المشترك بين الحصيلتين هو الإفراط في التفاؤل، وهو شيء طبيعي ما دمنا نتحدث عن تقييم ذاتي من سماته الحياد عن الموضوعية خاصة في غياب مرجعية للتقييم تستند إلى مؤشرات مضبوطة. وقد كان ملفتا للانتباه أن يتحاشى رئيس الحكومة مقارنة حصيلة وزرائه مع ما التزم به في البرنامج الحكومي، وأن يتجاهل أن إصلاح التعليم بجميع مكوناته يستند إلى مرجعية قانونية ملزمة، هي القانون الإطار 51.17. وإذا تركنا جانبا العبارات الإنشائية التي يعج بها تقرير الحصيلة المرحلية فإن الثلاث صفحات التي خصصها للتعليم العالي تخبرنا أن المنجــزات الحكومية المتعلقــة بهذا القطاع تضمنت ما يلي:
أولا، الشروع في تنفيذ المخطــط الوطنــي لتســريع تحــول منظومــة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار من خلال أربع توجهــات اســتراتيجية تهم التميز الأكاديمي، والتميز العلمي، والتميــز في الأداء والحكامة، وفتــح المجالات للابتكار. وكان منتظرا من الحكومة أن تقدم لنا ما أنجز على هذا المستوى لكنها اكتفت بتذكيرنا بالوضعية التي وجدت عليها بعض المؤشرات من قبيل انقطــاع حوالــي %49 من الطلبة عن متابعــة دراســتهم الجامعيــة بــدون الحصــول علــى أيــة شهادة، وبلوغ نسبة العطالة بين أصحاب الشهادات %18,7 مــن خريجــي المؤسســات ذات الاستقطاب المفتــوح. لكن ما لم يقله عزيز أخنوش هو أن هذه المؤشرات ازدادت تدهورا في السنتين الأخيرتين بحيث غادر %59 من الطلبة مقاعد الدراسة الجامعية دون الحصول على الإجازة، وتتوقع الوزارة الوصية أن تصل هذه النسبة إلى %55 في نهاية 2024. أما نسبة البطالة في صفوف حاملي الشهادات فقد ارتفعت بثلاث نقط مقارنة مع سنة 2021.
ثانيا، المصادقة على النظام الأساسي الجديد لهيئة الأساتذة الباحثين بوصفه إطارا محفزا يضفي الجاذبية على مهنة الأستاذ الباحث ويحفــزه علــى الانخراط الفعــال فــي المهــام والأدوار الجديــدة الموكولــة للتعليــم العالــي. وإذا كان يحسب للحكومة قيامها بمجهود مالي من أجل الزيادة في أجور الأساتذة الباحثين، فإن من السابق لأوانه الحكم على مدى تأثير ذلك في الرفع من درجة انخراطهم في تفعيل الإصلاح نظرا للمدة القصيرة التي تفصلنا عن تطبيق هذا الإجراء. لكن ما يلاحظ على الحكومة في هذه النقطة، وهي على كل حالة ملاحظة عامة على أدائها في مجال التعليم، هو تهميشها للقانون الإطار 51.17 الذي نص في المادة 37 على ضرورة أن تستند كل مراجعة للأنظمة الأساسية لأطر منظومة التربية والتكوين على الإطار المرجعي للوظائف والكفايات من أجل تدقيق مواصفات كل مهنة من مهن التربية والتكوين والبحث العلمي من جهة وتحديد الكفايات التي ينبغي تملكها من أجل ممارسة كل مهنة من جهة أخرى. غير أن الحكومة ارتأت أن تراجع الأنظمة الأساسية لموظفيها سواء في التعليم العالي أو في التربية الوطنية دون إعداد هذه الوثيقة المرجعية.
ثالثا، مراجعة دفاتر الضوابط البيداغوجية الوطنيــة لأسلاك الإجازة والماســتر والإجازة فــي التربيــة وســلك الدكتــوراه، وهي الدفاتر التي شرع في تطبيقها فعليا هذه السنة ولا يمكن الحكم على مدى فعاليتها إلا بعد مرور فترة زمنية كافية. غير أن الملاحظات ذات الطابع المنهجي تظل قائمة ونذكر منها طلب الحكومة رأي المجلس الأعلى للتربية يوم 25 ماي 2023 وفق هذه الدفاتر، ونشرها في الجريدة الرسمية يوم 7 مارس 2024 أي بعد حوالي سنة من انقضاء أجل تقديم طلبات الاعتماد، وهو ما يطرح الإشكال القانوني الذي يجسده السؤال التالي: هل يمكن تطبيق الضوابط البيداغوجية بأثر رجعي؟ أم كان ينبغي إعادة مسطرة تقديم طلبات الاعتماد بعد نشر القرار الخاص بدفتر الضوابط البيداغوجية الجديد؟ لكن السؤال الأبرز هو لماذا طلبت الحكومة رأي المجلس الأعلى في نصوص تنظيمية بسيطة في حين لم تطلبه في نصوص أهم مثل النظام الأساسي للأساتذة الباحثين، ولا في نصوص مماثلة مثل دفاتر الضوابط البيداغوجية الوطنية في تخصصات الطب والصيدلة، التي تم تغييرها دون أخذ رأي المجلس رغم أنها شملت قرارا كبيرا يتعلق بخفض سنوات التكوين من سبعة إلى ستة؟ وهو القرار الذي تسبب في توقف الدراسة في كليات الطب والصيدلة لمدة تزيد عن أربعة أشهر، وما زلنا نعيش تداعياته إلى اليوم.
رابعا، دعــم القــدرات اللغويــة للطلبــة، وتعزيــز تكويــن الطالــب بمهــارات حياتيــة وذاتيــة ومهــارات رقميــة. وإذا كان من الضروري تثمين الهندسة البيداغوجية الرامية إلى دعم الوحدات المعرفية بوحدات اللغات الأجنبية ووحدات المهارات الحياتية والذاتية، لأن من شأن ذلك تكوين طالب متمكن من تخصصه من جهة ومتمكن من المهارات التي تؤهله للاندماج بشكل أفضل في المجتمع الوطني والدولي بصفة عامة وفي سوق الشغل بصفة خاصة، لكن من الضروري أيضا التنبيه إلى انعكاسات تطبيق هذه الهندسة على تراجع حجم الوحدات المعرفية قياسا للنظام السابق وهو ما سيؤثر حتما على المستوى التخصصي لخريج الإجازة بعد تطبيق الإصلاح الجديد. إن إدخال وحدات للغات الأجنبية والمهارات المرنة في سلك الإجازة سيؤدي إلــى انخفاض واضح في الغلاف الزمنـــي المخصص للوحــدات المعرفية، بحيث سيتقلــص، مقارنــة مــع النظام السابق، بمــا يعادل 215 ســاعة بالنســبة للوحــدات المعرفية وبمــا مجموعــه 175 ســاعة بالنســبة لوحــدات اللغــات الأجنبية، مع تخصيص غلاف زمنـي لوحدات المهارات الحياتـية والذاتـية سيصل إلى 14% من الغلاف الزمنـي الإجمالي. وسيؤدى هــذا التغييـــر إلــى نقــص فــي نســب الغلاف الزمنـــي المخصص للوحــدات المعرفية مــن 80% إلــى 67%، ولوحــدات اللغــات الأجنبية مــن 20% إلــى 14%. هذه الأرقام تؤكد أن خريج الإجازة الجديدة سيتراجع مستوى تمكنه من الكفايات المعرفية، ليس فقط بحكم تراجع عدد ساعات الوحدات المعرفية، ولكن أيضا بحكم تدني مستوى الحاصلين على شهادة البكالوريا، كما أن الغلاف الزمنـــي المعتمد لتدريــس اللغــات الأجنبية غيـــر كاف لبلــوغ أهــداف اكتســاب اللغــات، خاصــة مع التراجع المسجل في عدد ساعات تدريسها وتبني التدريس عن بعد بنسبة تصل إلى 70%.
خامسا، إرساء مسارات للتميــز بالمؤسســات ذات الولوج المفتوح وهو ما سيســمح للطلبــة الذيــن لــم تتــح لهــم فرصــة الدراســة فــي المؤسســات ذات الولــوج المحــدود، للاستفادة مــن ثلاث ســنوات مــن التكويــن بهــذه المســارات. وهي محاولة جديدة للخروج من أزمة جودة التكوين التي تعاني منها المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح، على غرار محاولات سابقة كان آخرها الإجازة المهنية وإجازة التميز، فهل تتوفر لها الشروط لتحقيق المراد؟ علما أن المجلس الأعلى للتربية سبق أن انتقد في رأي سابق تبني مسارات موازية للإجازة الأساسية لأنها غالبا ما تستقطب اهتمام المسؤولين فيتم ذلك على حساب المسار العادي الذي لا توفر له أدنى مستلزمات التكوين، مما يكرس الفوارق بين المسارات وبين المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح والمؤسسات ذات الاستقطاب المحدود على مستوى جودة التكوين.
إن التمعن في الحصيلة المرحلية المقدمة من طرف رئيس الحكومة بخصوص التعليم العالي يثير الكثير من التساؤلات حول مدى تلاؤم المنجزات المعلنة مع طموحات البرنامج الحكومي وتوجهات القانون الإطار، لكنه في المقابل يفتح الطريق أمام بعض الملاحظات التي قد تساعد على دعم المكتسبات وتفادي الانزلاقات الممكنة:
أولا، الإشادة باستكمال نظام إجازة ماستر دكتوراه بما كان ينقصه منذ بداية تطبيقه في المغرب سنة 2003، ونعني بذلك نظام الأرصدة القياسية وملحق الدبلوم، وحتى لا تكون هذه الإضافات شكلية فقط وجب توفير الإمكانات الضرورية لتطبيقها خاصة على المستوى اللوجستي ومستوى نظام المعلومات ومستوى مواكبة الطلبة في إنجاز وتتبع الأنشطة المحتسبة في الأرصدة القياسية مع تحديد الحيز الزمني لكل رصيد؛
ثانيا، التنويه بتنويع الممرات والجسور ما بين المسالك وما بين المؤسسات من خلال انفتاح التخصصات على بعضها البعض على أمل تعميم ذلك على جميع المسالك والجذوع المشتركة مع إلزامية إدماج وحدة على الأقل تخصص للانفتاح على الثوابت الوطنية، إلى جانب ما نص عليه القانون الإطار من تدريس وحدة باللغة العربية في المسالك المدرسة بلغات أجنبية؛
ثالثا، التنبيه إلى أن الإصلاح الجديد يفتقد الشرعية القانونية التي جاء القانون الإطار لإضفائها على الإصلاحات التي أتت بعد صدوره إلى جانب وظيفته في ضمان استمرارية الإصلاحات وعدم الوقوع في الدوامة الفارغة لإصلاح الإصلاح التي حذر منها الملك في إحدى خطبه. وهكذا لم يتم بعد وضع المخطط التشريعي والتنظيمي لتطبيق القانون الإطار في مسطرة المصادقة رغم انقضاء أجل ثلاث سنوات الذي حدده هذا الأخير. كما أن القانون 01.00 الذي ينبغي أن يؤطر جميع النصوص التنظيمية الصادرة عن وزارة التعليم العالي لم تتم مراجعته بعد رغم مرور أكثر من 20 سنة على إصداره؛
رابعا، إثارة الانتباه إلى أن معظم مكونات الإصلاح الجديد كانت متضمنة في إصلاح الباشلور الذي ألغته الحكومة الحالية بحجة عدم اعتماده على سند قانوني. وبغض النظر عن وقوعها في نفس المطب القانوني فإن تبنيها لمضامينه دون تقييم بيداغوجي لا للمسالك الحالية ولا لمسالك الباشلور التي جربت لمدة سنة يؤكد أننا ما زلنا ننتقل من إصلاح إلى إصلاح دون تقييم دقيق ومعمق يهم مسالك التكوين ومضامينها البيداغوجية؛
خامسا، التأكيد على ضرورة أن يندرج الإصلاح البيداغوجي ضمن إصلاح شمولي للتعليم العالي بجميع مكوناته كما نصت على ذلك المادة 12 من القانون الإطار وخاصة تجميع جميع مكونات ما بعد البكالوريا وإحداث مركبات جهوية وأقطاب موضوعاتية ووضع خارطة استشرافية للتعليم العالي.
المصدر: وكالات