قاربت دراسة بحثية مهمّة، حديثة الإصدار عن مركز “أبعاد للدراسات الاستراتيجية”، “إشكالية تغيير المنظورات الأمنية والعسكرية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط”، في سياق تداعيات “الحرب الروسية الأوكرانية” المستمرة رحاها في الدوران منذ فبراير 2022.
ولفت مؤلف الدراسة الدكتور محمد عصام لعروسي، أستاذ العلاقات الدولية خبير في الشؤون الاستراتيجية والأمنية، إلى أن “الحرب الروسية الأوكرانية كرَّست تدويل تداعيات الأزمة لتشمل نطاقات جغرافية متباعدة عن القارة الأوروبية التي تدور فيها رحى الحرب بين روسيا وأوكرانيا والغرب بشكل عام”.
الورقة البحثية التي استهدفت “تحليل تأثير وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على منطقة الشرق الأوسط”، أشارت إلى أنها حاولت “الإجابة عن فرضية استفادة المنطقة من عالم متعدد الأقطاب في طور التشكل (Multipolarity) بناء على تغير موازين القوى الدولية والإقليمية”.
ويتناول هذا التحليل، وفق صاحبه، “المتغيرات الرئيسية والفرعية التي تساهم في تغيير سياسات الدول الأكثر أهمية في المنطقة بناء على منطلقات جديدة ومقولات تُنهي نسبياً الحالة الصدامية بين أطراف النظام الإقليمي والاعتماد على شراكات نوعية تستفيد منها كل الأطراف”.
انعكاسات وتحولات
في ملخص الدراسة الصادرة في نسخة إلكترونية من حوالي 30 صفحة، أجمل محمد عصام لعروسي أن “الحرب مازالت تُخلّف انعكاسات معقدة على العديد من مناطق العالم”، وزاد شارحا أن “التأثيرات الجيو-سياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية متوسطة وبعيدة المدى، أصبحت أمراً واقعاً يمكن معاينتها في جميع المناطق، وخاصة الدول النامية منها”.
“في ظل هذه الحرب التي قاربت السنتين، وبعد الأزمة الصحية العالمية لفيروس كورونا، شهدت منطقة الشرق الأوسط تحوُّلات جوهرية ومتسارعة على مستوى البنيات الأمنية والتحالفات السياسية وتغييرات في أداء النسق الأمني الذي تم اعتماده منذ بداية القرن العشرين القائم على الوصاية الأمريكية والبريطانية”، يورد الخبير المغربي في العلاقات الدولية، مشيرا إلى أن ذلك أفضى بالتالي إلى “بداية التفكير في تبني سياسات سيادية ذات استقلالية أكبر عن الدول المؤثرة في المنطقة، ومحاولة الدول الرئيسية في المنطقة تكييف قدراتها الذاتية مع المشهد الدولي المتغير مع نهج سياسة تنويع الشركاء الإقليميين والدوليين”.
“التكيف” مع توازنات
ترى الورقة أن “الانسحاب الأمريكي النسبي من منطقة الشرق الأوسط-رغم أن الإدارة الأمريكية الحالية ليس لديها الرغبة في الانسحاب مثلاً من العراق، باعتباره إحدى أوراق الضغط على إيران وربطه بتطورات المباحثات الجارية في فيينا لإحياء خطة العمل المشترك (الاتفاق النووي)-وتراجع الدور الأمريكي، خاصة في إيجاد حلول للأزمات السورية واليمنية والليبية، عامل دافع باتجاه أن دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحاول إيجاد طريقة للتكيف مع التوازنات الأمنية الحالية، من خلال الدفاع عن حدودها وسيادتها وملء الفراغ الذي نتج عن تراجع الوصاية الأمريكية”.
ولفتت الوثيقة ذاتها ضمن أبرز خلاصاتها إلى أن “دول منطقة الشرق الأوسط تحاول التركيز على بناء الضمانات الأمنية والعسكرية على أساس رؤية لعالم متعدد الأقطاب من خلال الانصهار مع تحالفات جديدة، والشراكة مع لاعبين دوليين آخرين مثل الصين وروسيا، الوافدين حديثاً على المنطقة العربية”.
كما سجلت استنتاجاً أساسيا مفاده أن “دول المنطقة تهدف بذلك إلى تنويع شركائها من خلال تعويض دور الفاعل الأمريكي باعتباره الحامي الأكبر للمنطقة والمرتبط باتفاقات أمنية مع العديد من الدول، كدول الخليج حيث تم بموجبها إنشاء العديد من القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة لحشد كافة القدرات العربية والخليجية للتصدي للعدوان الإيراني”.
خريطة النفوذ
أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى إعادة تشكيل علاقات القوى الإقليمية مع الخارج وإحداث تحولات على نفوذ القوى الكبرى في الشرق الأوسط، ويبرز التحول الأكبر في هذا السياق في منطقة الخليج التي تضاعفت أهميتها في نظام الطاقة العالمي، وعززت استقلاليتها في السياسات الخارجية والنفطية عن الولايات المتحدة. كما دفعت الحاجةُ إلى النفط الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى زيارة الرياض في محاولة لتحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية.
مع ذلك، شكلت الحرب فرصة للدول الخليجية، والدول العربية بشكل عام، للمضي قدماً في استراتيجية تنويع شراكاتها الخارجية مع القوى الكبرى من منظور المصالح الوطنية.
بهذا الشأن، ضرب لعروسي المثال بـ”تمسك الرياض بالشراكة النفطية مع موسكو”، مع “بروز الصين فاعلاً دولياً جديداً في المنطقة في محاولة منها لملء الفراغ الناجم عن تراجع الشراكة الخليجية-الأمريكية”.
عالم متعدد الأقطاب
زاد معلقا بأن “انضمام ثلاث دول عربية إلى منظمة بريكس (BRICS) في غشت 2023، يعكس حقيقة هذا التوجه نحو عالم متعدد الأقطاب يبحث عن مصالحه الحيوية بعيداً عن التحالفات الكلاسيكية”.
وسجلت الدراسة بإيجابية “استطاعة دول الخليج خلقَ هوية جيو-سياسية جديدة لها وتعزيز استراتيجية التحوُّط من تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، فضلاً عن تحويل الحرب إلى فرصة لإعادة تشكيل الشراكة مع الولايات المتحدة على قواعد جديدة تقوم على المنافع المتبادلة”.
“بقدر ما مَنحت الحرب (في أوكرانيا) دولَ الشرق الأوسط فرصة لتعزيز دورها في الجغرافيا السياسية الإقليمية والعالمية، فإنها جعلت المنطقة تواجه تحديات سياسية وأمنية واقتصادية تتركز في قدرتها على مواصلة النأي بنفسها عن التنافس العالمي المتزايد بين القوى الكبرى، والحد من مخاطر تصاعد الاضطرابات الإقليمية في ضوء تراجع فرص إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني وتزايُد التوتّر بين إسرائيل وإيران”، يشدد لعروسي خاتماً.
المصدر: وكالات