1
الحقيقة الأدبية في جزء منها حقيقة تاريخية، والموضوع الأدبي موضوع تاريخي من حيث الماهية والوظيفة. يمكن تعزيز هذا الفهم بالعديد من التصورات التي تهتم ببحث علاقة التاريخ بالأدب؛ فقد اعتبر التاريخ منذ نهاية القرن الثامن عشر جزءا من الأدب بمعناه الواسع، وتقاسم مع الأشكال التخييلية تراث البلاغة الكلاسيكية التي استقى منها طرق تنظيم موضوعه. وبعد أن هجر المؤرخون البلاغة لكي يقدموا الحقيقة دون زخرفة زاد – بحلول القرن التاسع عشر – ابتعادهم عن الأدب الصرف واهتموا بالمناهج العلمية في شتّى التخصصات. ومع ذلك ظل التاريخ وثيق الصلة بالإنسانيات والعلوم الاجتماعية.
صحيح أن النص الأدبي يوجد دوما في موقف تاريخي، أي في موقف إيديولوجي تحدده علاقة جدلية يقيمها بين الواقع ومبررات قراءته. وبهذا الحافز لا يفهم التاريخ إلا في إطار العلاقة التي يقيمها مع حقيقة السياق، سواء أكانت لفيفا من الأحداث والوقائع أو أطوارا من حياة ماضية يكتسب التاريخ فيها معنى: ما تحقق في الزمن وتواشج مع تجارب الوجود. وهذا ما انتبه إليه أرسطو حين قال إن المحتمل لا يعني علاقة الخطاب بمرجعه (علاقة الحقيقة)، بل علاقة الخطاب بما يعتقد القراء أنه حقيقي. من هنا، لا ترتهن الرواية التاريخية بوصف ماض منقض، بل يكون بإمكانها كذلك أن تصف حاضرا مستمرا.
2
سعى جورج لوكاش في كتابه “الرواية التاريخية” إلى تبيان كيفية تكوّن وتطوّر هذا الصنف من الروايات في علاقة بالتحوّلات الاجتماعية الكبرى التي عرفتها الأزمنة الحديثة، غايته من ذلك حصر معضلات الشكل الأدبي بما هي انعكاسات فنية لتلك التحولات السوسيو- تاريخية. اتجه لوكاش، وهو يسائل تلك التحولات، إلى الإقرار بأن الرواية التاريخية قد تكون ولدت مع بداية القرن التاسع عشر، رغم أننا يمكن أن نجد روايات ذات موضوعات تاريخية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ترجع أصولها إلى التاريخ القديم وأساطير القرون الوسطى.
انطلق لوكاش في تحليلاته من تصور بالغ الأهمية لأنه أعاد رسم الحدود بين التاريخ بوصفه وقائع وأحداثا تنتمي إلى الماضي وبين الحوافز الواقعية التي تعين الزمن الحاضر. وهذا ما تجليه – مثلا – الروايات التاريخية للقرن الثامن عشر عبر اختيار الموضوعات واللباس. بيد أن سيكولوجية الشخصيات والعادات تنتسب لزمن الكاتب. هكذا، لا تكون الرواية التاريخية معادلا للزمن الماضي، بل إن الزمن الحاضر يشكل أيضا قصديتها.
تستدعي قراءة رواية “ربيع قرطبة” لحسن أوريد إيراد بعض الاعتبارات السابقة، من غير أن أجعل منها مدخلا لازما، ذلك أننا نحتاج بين الحين والآخر أن نتمثل بعض الأفكار التي تعيننا على فهم – بأبسط عبارة – توصيف ارتضاه هذا الكاتب أو ذاك وهو يغامر بكتابة أدب روائي متعلق بحقبة تاريخية معلومة في بناء أحداثها، ويتعلق الأمر في هذه الرواية بالخلافة الإسلامية في الأندلس.
أفترض أن حسن أوريد تسلّح بكثير من النباهة وهو يُقْدم على كتابة “ربيع قرطبة” لأن استقراء التاريخ لا يكتسب دلالته إلا لأن هناك في الحاضر ما يستدعي ذلك، أي إن استثمار التاريخ البعيد يكون من أجل فهم حاضر آنيّ، أو على الأقل أبعاده الرمزية التي هي – في العادة – أكثر تأثيرا من الوقائع الحقيقية ذاتها. ولعل رمزية الربيع العربي واحدة من تلك الصور التي اقترنت بمجتمعات تحوَّل ربيعها إلى حالة وجودية وإيديولوجية أعادها حسن أوريد إلى ربيع بعيد عاشته قرطبة، وقُدِّر له أن يكون موضوع رواية مشوقة. وإليكم البيان:
“البوح يضمد الجراح”، يقول السارد في فقرة من فقرات الرواية (ص35)، ولأن الأمر يتعلق بالخليفة الأموي الأندلسي الحَكَم بنعبد الرحمن “… أنا الخليفة الحكَم بنعبد الرحمن الناصر، الملقب بالمستنصر بالله…(ص 10)، فالرواية لا تكون مجرد استرجاع لسيرة وأحداث، بل إعلانا خاصا ومقصودا أراده السارد أن يكون بَوْحا من أجل غاية ومقصد: تضميد الجراح، كل ذلك بعد أن أقعده المرض وأحس بدُنُوِّ أجله.
وفي استعادة الخليفة الحكَم المستنصر بالله سيرته عودةٌ إلى سنوات طفولته وما عاشه في أحوال التمرد مع والده عبد الرحمن الناصر من أجل السّيطرة على الحكم. وتبلغ استعادة السيرة ذروتها من التعقيد حين يتذكر الخليفة مقتل أخته الصغيرة زينب أمام عينيه على يد أحد المتمردين، فتتوقّد – من قلب التمرّد – مشاعر يختلّ معها كيان وعقل الخليفة الفتى ويغمره شعور بخيبة الأمل لا قدرة له على تخطيه ولا قبل لِوَعْيه بفهم معناه.
يتأكد من هذا الاستدعاء ونظيره أن شخصيات رواية “ربيع قرطبة” لا تستكين إلى وضع فردي أو شخصي، بل إن مصائرها تتقاطع في ما بينها، ولذلك سيجد الفتى الخليفة نفسه أمام طلبٍ غريب من والده يدعوهُ لترؤس طقوس إقامة الحدّ على المتمردين الذين ثاروا ضده: “…كنت أريد أن أقل له: لا أريد أبتاه. لا أقوى على منظر الدم وحز الرؤوس”. (ص26). لماذا أصرّ والده على ذلك؟ وهل كانت تلك طريقته لتدريبه على الحُكم؟.
3
هذه لحظات من البوح الإشارة إليها قد تكون مفيدة في فهم الربيع التي تُبشّر به رواية حسن أوريد، وهو يعيد تأمل محطات من حياة الخليفة الحكَم المستنصر بالله، والذي يبدو على امتداد الرواية أن كل ما بداخله يسقط ويتهاوى، لذلك لا يتردد في القول: “حكم التاريخ أبغي، يا جوذر، لا حكم البشر، فهؤلاء متقلبون تستبد بهم الأهواء ولا يستقرون على أمر (ص12)”. هذا حكمٌ للتاريخ يعود للقرنين العاشر والحادي عشر الميلادي، وقد شهد ذروة التطور الثقافي بالأندلس تحت حكم الخلافة الأموية، وظهور الدولة الفاطمية في شمال إفريقيا بعد انتصار الفاطميين على دولة الأغالبة، الأمر الذي مكنهم من فتح مصر بعد انتصارهم على الدولة الإخشيدية.
يمنح استحضار التاريخ في الرواية انطباعا للقارئ بأنه لا يقرأ رواية واحدة، بل روايتين واحدة تقول الصدق والثانية الكذب (بمعناهما المنطقي طبعا)، ورغم ذلك يكون دائما من الصعب عند قراءة رواية تاريخية البحث عن مطابقة الأحداث والوقائع. تظل العبارة في الرواية دوما شفافة وموحية وذات معان طيْفية مُضْمرة. من هنا قد لا يبدو مفيدا قراءة “ربيع قرطبة” واستحضار ما يعيشه العالم العربي اليوم من تحولات وصراعات، لأن الرواية تبني أحداثها على نقض واقعية المحاكاة، وهذا ما عبر عنه السارد بعبارة واضحة حين أشار إلى أن حضارة الأندلس اندثرت وأن الأهم هو الاحتفاظ بها باعتبارها فكرة قادرة على تخطي كل حنين أو رجْع صَدى.
تتولد الأحداث في رواية “ربيع قرطبة” والخليفة الحكَم يحيا آخر أيّامه، ويروي على فراش المرض لجوذر الفتى البربري، ولزيري وطبيبه شرحبيل، فصولا من حياته منذ الطفولة الأولى ومرافقته لوالده الناصر، إلى توليه الحُكم من بعده، وحتى مرضه وتمكن بن أبي عامر من السيطرة على مفاصل الدولة. زمن تاريخي وآخر روائي يبرزان شخصية الخليفة الحكَم المستنصر بالله في حزمها وقوتها وسلطتها، وأيضا في ضعفها وقلقها وهشاشتها ووهنها.
لا يتردد الخليفة في القول إنه يريد في ما تبقى له من حياة أن ينسلخ من هذا الدِّثار، دثار السلطان، ولا يبتغي إلا هذا الذَّماء وما يبقى من الروح (10)، وإنه بعدما عرف سُؤدد الحُكم وصَولة السلطان لم يعد يشعر بالحنين لأي شيء. بوحٌ واعتراف بعدما لم يبق للخليفة من حُطام الدنيا إلا بعض الذكريات وجوذر والفتى زيزي كيْ ينقلا شهادته بعدما بدأ حَمَام الموت يَطُوف به.
تظهر الروايات التاريخية ميلا نحو السّيرة أو ترجمة الحياة الشّخصية. معنى ذلك أن الشكل السّيري يغدو أحد مُمكنات الحكاية في الرواية التاريخية. التاريخ في “ربيع قرطبة” اجتماعي وسياسي وشخصي يمكّن الخليفة الحكَم المستنصر بالله وهو يستعيدُ فصولا من سيرته من تأمل قضايا وجودية بِحَيْرة وَصِدق وبما خلفته من آثار في النفس بتراجيديا مُدمّرة حتى في أنبل الأحاسيس حين يتعلق الأمر بالحب والعشق، ويُخصص لذلك فَصْلا يحكي فيه ما حدث له ذات يوم وهو في طريقه إلى ممارسة هواية القنص رفقة صديقيه جعفر وباشكوال حينما وقع في حب هِنْد، وقد سكنت قلبه وسلبت عقله؛ وفي وقت كان يغلب عليه طبعٌ من الحشمة وميل إلى الانطواء، سيحدث ما لم يكن في الحُسبان حين سيدعوه الخليفة يوما ليرأس حفل خطبة أخيه الأمير عبد المالك .. وبمن؟ بِهِنْد. يقول: “إلى الآن لا أدري ما حصل، وحينما كان يمكن أن أعرف وقد توليت شؤون الخلافة لم أسعَ أن أعرف، لأن الجرح ظلّ غائرا ولمّا يندمل؟ هل كان الخليفة يعلم بحبي لهند وأراد أن يمحق هذا الشعور لأنه كان يريدني لجسيم الأمر الذي لا يستقيم فيه حبّ ولا هوى؟ (39)”.
من العشق إلى الخيبة ثم الفجيعة حين ينتشر خبر خيانة هند لعبد الملك ويأمر الخليفة بِنَفيها إلى جزيرة نائية؛ على أن الخليفة الحكَم لما قرر إنهاء نفي هند سيكتشف أنها خانت أخاه مع صديقه باشكوال، ثم حين ستطلعه خلال زيارته لها بمنفاها من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وإطلاق سراحها لن تقبل بذلك، بل إنها ستبلغه بخبر خيانة زوجته صُبْح له مع وزيره ابن أبي عامر.
كيف الخروج من ضلالات وسخافات الوقت والفواجع المدمرة والخيانات الظاهر منها وما بطن؟ هل ينتقم الخليفة الحكَم المستنصر بالله من الخونة باشكوال وابن عامر وهند أم يُعلي من هيبة الدولة والخلافة؟ سيقتنع الخليفة الحكَم أن السلطان لا يوجد لذاته، ولكن لغاية ولم يبق له إلا أملٌ واحد: أن تتحول الأندلس إلى فكرة(ص164)، ويتحوّل حديثه إلى رواية يعرف الخليفة الحكَم أن الغرض منها ليس هتك الأسرار أو تعرية المخبوء وبدائع زمنٍ مُنهار وهو يواجه الموت في لحظة تمنحنا قبل الرحيل صفاء الذهن ونفاذ البصيرة. وما بين عجز الجسد وعجز العزيمة كان الخليفة الحكَم على علم ومنذ نعومة أظافره أنه مطوّق بأمر جسيم، وكان لزاما عليه أن يتهيأ للاضطلاع به، ليبقى حكمته صادقا فهو القائل: “كم من الأحداث الجسام لا يمكن أن يستجلى سرها من دون الوقوف على صغار أمورها، وكم من أشياء صغيرة تتناسل وتعظم، نستخف بها إذ تقع، ولا ندرك خطورتها إلا بعد فوات الأوان وقد أصبنا بالعجز (ص35)”.
4
كانت بداية هذا الحديث أفكار استقيتُها من جورج لوكاش في دراسته عن الرواية التاريخية، وقد اعتبرَها شكلا أدبيا يستمد قيمته الفنية من تعلقه بسياق اجتماعي وسياسي، أي إن خطاب الرواية التاريخية يتحدد من خلال ما تقوله لا من خلال ما تنقله، ولا يهم تكرار سرد الأحداث التاريخية، بل إحياء وبعث الكينونات التي كانت شاهدة على تلك الأحداث، وسيكون مهما أن نحيا ثانية البواعث الاجتماعية والإنسانية التي قادت الناس إلى التفكير والإحساس والتصرف بهذه الطريقة أو تلك كما هي في الواقع التاريخي. وهذا ما بيَّتُنه من عرضي السابق لبعض مواقف الخليفة الحكَم المستنصر بالله في رواية “ربيع قرطبة”، فما يهمّ في الرواية التاريخية– كما بين جورج لوكاش – ليس إعادة سرد الأحداث، بل المَلْمح الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث؛ ما يهمّ هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماما في الواقع التاريخي… وأن كل كتابة لكيْ تمتع وتفيد عليها أن تستند إلى حقيقة معينة من حقائق الحياة.
تُظهر الحكاية في رواية حسن أوريد “ربيع قرطبة” طبيعة الصراع الملتبس بين الماضي والحاضر، الواقع والمُتوقّع، الامتلاك والفقد، الحضور والغياب، إلى غير ذلك من الصور التي تجعل الحكاية مُنفتحة على تجربة أخرى من تجارب فهم حقائق الكينونة في مواجهة التاريخ والعلاقات.
أفترض – أخيرا – أن حسن أوريد يوَدّ بكتابته هذه الرواية أن يجعلنا في مُواجهة هذا السؤال: ماذا فعلنا بحياتنا؟ إن مجرد التفكير فيه يجعلنا تافهين لأننا لا نشعر بمرور الأيام ولا السّنين، ولا بالغياب الذي ينتظرنا في الأفق قبل العُبُور إلى العالم الآخر.
المصدر: وكالات