ما زالت فكرة تحرير سوق المحروقات وموارد الطاقة بالمغرب وإمكانية فتحها أمام فاعلين جدد تشكل موضوعا ذا راهنية، ويحظى باهتمام واسع وكبير في أوساط الرأي العام، خاصة في ظل الأزمة الطاقية العالمية العاصفة بتقلبات الأسعار.
الأمر تأكد هذه المرة على لسان فاعل رسمي سبق له فتح تحقيق في ملف المحروقات، يتعلق الأمر بـ”مجلس المنافسة”، باعتباره “سلطة ضبط وتقنين للسوق”، مما يفتح النقاش نحو آفاق أرحب في ملف وصفه رئيس المجلس أحمد رحو بـ”الشائك والمثير للجدل”.
وأعاد حديث رحو، تفاعلا مع سؤال وجه إليه خلال اللقاء السنوي لمجلس المنافسة مع وسائل الإعلام الذي انعقد أمس الخميس بالرباط، فتح الملف من جديد للنقاش العمومي، خاصة مع استحضار مطالب وأصوات مهنية مرفوعة منذ أشهر بإعادة النظر في سياسة الدولة تجاه تحرير سوق المحروقات، بما يشمل حتى سوق الغاز الطبيعي.
وكان رحو قد لمّح، خلال لقائه بممثلي وسائل الإعلام، إلى “التفكير الجدي لمجلس المنافسة في فعلية تحرير أكبر لسوق المحروقات بما يشمل الغاز الطبيعي”، كاشفا “انتظار المجلس للدور الحكومي قصد إعادة النظر في المراسيم والقوانين المنظمة لتحرير سوق بيع وتوزيع المحروقات والاستثمار فيها”، مما يعني مباشرة فتح السوق أمام فاعلين جدد ورفع منسوب التنافسية.
وحاز موضوع دور مجلس المنافسة في تنظيم الأسواق وتشجيع المنافسة وحماية الممارسات المخالفة لقانونها، لا سيما في قطاعي المواد النفطية والغاز الطبيعي، حيزا وافرا من تفاعل الإعلاميين مع رئيس المجلس.
وفي رده على الأسئلة، أكد المسؤول ذاته أن “المجلس سيقوم كل ثلاثة أشهر بإجراء تقييم ومراقبة دقيقة لسوق المحروقات بالمغرب قبل نشر البيانات المتاحة بعد إجراء تقييم”. وزاد: “كما قررنا القيام بدراسة لسوق المحروقات وتقييم أدائها عام 2023″، مذكراً بمحطات مسار سلك مسطرة “الغرامة التصالحية” ضد تسع شركات للمحروقات فاعلة في السوق الوطنية.
وتفاعلاً مع سؤال حول “آفاق تحرير الغاز الطبيعي في المغرب”، أكد رحو “تأييد مجلس المنافسة لهذا الإصلاح، الذي من شأنه أن يجعل من الممكن استبدال دعم منتجات الطاقة بالمساعدة المباشرة للمواطنين المعوزين والفئات الهشة”.
وأضاف أن “إعانة الدولة لفائدة المنتجات الطاقية لا تُفضي إلى تهيئة بيئة تنافسية صحية، بحكم أنها غالباً ما تفيد الشرائح الأكثر ثراء من السكان”، قبل أن يشدد على أن “مجلس المنافسة يعارض الحفاظ على سعر غاز واحد، مما يعيق ويعرقل القدرة التنافسية لباقي الفاعلين في السوق”.
ويزداد موضوع التحرير وتعزيز تنافسية سوق الطاقة بالمغرب أهمية وإلحاحاً بمجرد تأطيره في السياق العالمي لتقلبات أسواق الطاقة، التي ما زال المغرب مرتهناً إليها بقوة من حيث كميات وأحجام المواد الطاقية المستوردة من الخارج، خصوصا في ظل اشتداد الصراعات الجيوسياسية الفاعلة بقوة في دينامية تحديد الأسعار.
“الحتمية الاقتصادية”
الباحث الاقتصادي بدر الزاهر الأزرق قال إن “تحرير سوق المحروقات عموماً (سواء البنزين، الغازوال أو الغاز) أصبح يدخل في باب الحتمية الاقتصادية بالنسبة للمملكة المغربية”، لافتا إلى أنه “لا يمكن الذهاب اقتصادياً بسُرعات مختلفة بين القطاعات والأنشطة الاقتصادية، إذ سيبرز تباين بين قطاعات تخضع لحرية الأسعار وحرية المنافسة وقواعدها مقابل قطاعات خاضعة لنوع من التسقيف والوصاية من طرف الدولة”.
ودعا المحلل الاقتصادي ذاته، في حديث لهسبريس، إلى “الاستفادة في الظرفية الراهنة من أخطاء الماضي”، مسجلا أن “تحرير أسعار المحروقات الذي تم منذ 2015، وإخراجها الكلي من دائرة صندوق المقاصة، فضلا عن الرفع التدريجي لأسعار غاز الطهي (البوتان)، يضاف إليها إرهاصات أن تحرير سوق الطاقة سينفتح على مجموعة من الفاعلين الجدد في المشهد الاقتصادي المغربي”.
واسترسل قائلا: “هذا يُحَتِّم على مجلس المنافسة الاضطلاع بدور أكبر في مراقبة السوق، وضبط العلاقات فيها، ومراقبة الفاعلين، وتجنب الإشكاليات المطروحة فيما سبق، لا سيما الاتفاقات الودية بين مجموعة من الموزعين والموردين لمنتجات الطاقة بالمغرب، التي تسببت في رفع الأسعار إلى مستويات قياسية، ودفعت إلى تهديد السِّلم الاجتماعي، مع مخاطر موازية أثرت على القدرة الشرائية في عدد من المواد الاستهلاكية”.
“اليوم هذا الأمر أصبح غير مقبول لأنه في السابق إذا كان تحرير المحروقات همّ جزءاً منها وبقيَ جزء آخر خاضعا لإعانة ودعم الدولة، فإن هذا التحرير في الظرفية الحالية قد يكون شاملاً، إذ سيكون لأيَّ تلاعب أو توافقات ودية تساهم في ارتفاع الأسعار انعكاسات وخيمة على القدرة الشرائية والاقتصاد المغربي”، يضيف الأزرق.
تبعاً لذلك، يشير المحلل ذاته إلى أن “مجلس المنافسة مدعو لتجديد آلياته القانونية وآليات الرقابة، وأنْ يكون أكثر حضورا،ً وبالتالي أكثر زجراً للفاعلين من أجل انضباط أكبر للقانون المغربي وقانون المنافسة وحماية القدرة الشرائية للمواطنين. لذلك فإن الدور الأكبر ملقى على عاتق هذه المؤسسة”.
“مسألة سيادية لكن أساسية”
من جانبه، يرى الخبير الطاقي عبد الصمد ملاوي أن “تحرير سوق المحروقات مسألة سيادية وأساسية للدولة، خصوصا مع انخراطها في آنٍ واحد في استراتيجيات متوازية قطاعياً تمتد بين 2020 و2030 (استراتيجيات وطنية في الطاقة المتجددة، والنجاعة الطاقية، والتنمية المستدامة) متكاملة فيما بينها، إذ سطّرت أهدافا واضحة طاقياً وتنموياً وتعهدات دولية بشأن مسائل البيئة والتنمية المستدامة والمناخ”.
وتابع ملاوي، في إفادات تحليلية لهسبريس، أن “كل هذه الأهداف الموضوعة ترتبط بشكل أو بآخر بالمحروقات بحُكم استيراد المملكة أكثر من 80 في المائة من حاجياتها الطاقية من الخارج”، لافتاً إلى أن “المغرب ما زال يعتمد على توليد الكهرباء بأكثر من 60 في المائة من المصادر الطاقية المستوردة، خاصة المصادر الأحفورية (الفحم الحجري أو الغاز الطبيعي”.
“إيجابيات وسلبيات التحرير”
ملاوي أكد أن “تحرير سوق المحروقات ستكون له إيجابيات وسلبيات”، مضيفا أن ” التحرير سيمكّن من الزيادة في التنافسية عبر دخول شركات جديدة للاستثمار في القطاع، مما يسمح بتقديم عروض وخدمات جديدة تمكّن من تحسين جودة العرض، وتعدد الاختيارات لدى المستهلك المغربي فيما يخص مجال الطاقة”.
ومن الإيجابيات التي أوردها الخبير ذاته “تحفيزُ مستوى التنافسية بين الشركات الناشطة في القطاع عبر خفض الأسعار على المدى البعيد، وتقليل هامش أرباحها، مما سيكون إيجابيا بالنسبة للمستهلك”، معرجا على “جذب المزيد من الاستثمارات بما يخلق بيئة تنافسية جديدة، وإحداث فرص شغل جديدة، بالإضافة إلى تحفيز الابتكار وتحسين استخدام أمثل للموارد، بما يخفِض التكلفة العامة على المَدييْن البعيد والمتوسط، وإتاحة إمكانيات وخيارات أكثر للمستهلكين”.
أما عن السلبيات، فسجل ملاوي أنها “متعددة وأبرزها يحتمِل إمكانيةَ ارتفاع الأسعار الطاقية بالمغرب في المدى القريب لأن الشركات التي ستدخل المنافسة ستضطر للاستثمار الهائل في بنيات تحتية لازمة لعملها”، فضلا عن “تأثير تغيرات السوق الدولية للطاقة في ارتفاع مباشر ومفاجئ للأسعار لدى المستهلك النهائي”.
“صعوبة صمود الفاعلين الصغار في قطاع الطاقة في ظل المنافسة، مما قد يهدد بخروجهم من السوق الطاقية الوطنية” سلبية أخرى عدّدها المتحدث ذاته، منبها إلى أن “ارتفاع أسعار الطاقة بعد تحريرها الكامل قد يضرّ بالقدرة الشرائية للفئات الهشة أو ذات الدخل المحدود، وهو ما كان دعم الدولة يحاول امتصاص تأثيراته”.
وذكّر ختاما بأن “الوضعية الراهنة تؤشر على أن المغرب لم يُحرّر سوق الطاقة بشكل كامل رغم مبادرة جزئية لتحرير بعض المواد (سوق المحروقات سنة 2015)”، مما يدعو الدولة إلى “التفكير الجدي في التحرير الشامل دون تحديد سقف زمني لذلك”.
المصدر: وكالات