تناول الكاتب والحكواتي إدريس الجاي، في مقال له، جوانب تاريخية من مدينة فاس العتيقة، وقال إن “عدد مدارسها العلمية العتيقة الاثنتي عشرة كأنه ينافس عمر المدينة البالغ اثني عشر قرنا، حتى وإن لم تبق منها اليوم غير عشر قائمة وشاهدة على عصور تحولات المدينة”.
وتطرق الجاي لعدد من المدارس العتيقة، كمدرسة الصابرين، ومدرسة فاس الجديد ومدرسة دار المخزن، ومدرسة الصهريج، ومدرسة الأساتيذ، ومدرسة الوادي، ومدرسة العطارين، والمدرسة المصباحية، والمدرسة البوعنانية، والمدرسة المتوكلية، وبمدرسة باب الجيسة، وباسم مدرسة الشراطين، والعبدلاوية، والمدرسة المحمدية…
هذا نص المقال:
فاس تحفة وهاد ثر بشواهد تاريخية، متحف شاسع الأطراف، يفيض بكنوز حقب السلالات التي تعاقبت على حكم المغرب، إنها “مدينة النور” كما يصفها الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في فتوحاته المكية. إنها “مدينة من مدن الروح” كما وصفتها الكاتبة الأمريكية أناييسنين. مدينة شاهدة على ثنايا عصرها، نهضتها وصعودها وانهيارها، سيادتها العلمية والسياسية والاقتصادية؛ لها حلل جواهر تتوارى خلف الأبواب والأسوار، مثل قمقم خفي، تدثره الأسرار وتزمله الألغاز، لا يهتدي إلى فك مبهمه إلا من ازداد في أحشائها.. لها جواهر مستترة وأخرى مفتوحة، للعابرين والسالكين نهج البحث والغوص في لجج البحث عن الخلود، فجواهرها الخفية لا حصر لها، والمفتوحة تشهد لها شواهد منها مدارسها العلمية العتيقة الاثنتي عشرة، التي كأن عددها ينافس عمر المدينة البالغ اثني عشر قرنا، حتى وإن لم تبق منها اليوم غير عشر قائمة وشاهدة على عصور تحولات المدينة.
يحدثنا الحسن الوزان في كتابه وصف إفريقيا عن إحدى عشرة مدرسة في المدينة فيقول: “في فاس إحدى عشرة مدرسة للطلاب جيدة البناء كثيرة الزخرفة بالزليج والخشب المنقوش، بعضها مبلط بالرخام وبعضها بالخزف المايورقيز، وتحتوي كل مدرسة على عدة حجر، في هذه مائة حجرة أو أكثر، وفي تلك أقل من هذا العدد؛ وكلها من تأسيس مختلف ملوك بني مرين”. فحتى وإن كانت فاس استأثرت بأكثر عدد من هذه المدارس العلمية، فهذا لم يمنع سلالة عبد الحق المريني (1244ـ1465)، الذين امتد سلطانهم من الأندلس إلى تونس، من إنشاء مدارس في غير فاس، مثل سبتة، مكناس، مراكش، أزمور، آسفي، أنفا، أغمات، القصر الكبير، سلا، تازة وتلمسان. هذه المدارس التي ذكر بعضا منها ابن مرزوق في كتابه “المسند الصحيح والحسن في محاسن مولانا أبي الحسن”.
لقد عرفت فاس وغيرها من المدن المغربية مدارس دول أخرى غير المرينية، مرابطية وموحدية، وسعدية وعلوية، لكن كما عودنا التاريخ كانت بعض الدول تقوم بهدم أو إتلاف منجزات ما كان قبلها، حتى لا تبقى غير منجزاتها شاهدة على عصرها. لقد كان نجم جامعة القرويين وإشعاعه منذ نشأتها الأولى عام 859 م، وجامع الأندلس في السنة نفسها، هما الدافع الأول نظرا لحاجتهما إلى إقامات الطلاب، الذين كانوا يفدون عليهما من كل حدب وصوب. كما عمل المرينيون على خلق مدارس من أجل إضعاف سلطة الفقهاء التي كانت تتمركز في سلطة القرويين السياسية والدينية. وقد اشتملت هذه المدارس علاوة على مئات الغرف سكنا للطلاب على قاعات للتدريس والمطالعة والعبادة. ومع ذلك لم تكن فكرة إنشاء المدارس مغربية، وإن كان المغاربة قد أبدعوا فيها كل الإبداع؛ فتاريخ إنشاء المدارس العلمية الإسلامية بدأ مع المساجد والكتاتيب القرآنية، إلا أن ما تناقله المؤرخون هو أن أول مدرسة تم إنشاؤها بمفهوم المدرسة الواسع كانت في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، على يد الوزير السلجوقي نظام الملك في بغداد، المدرسة النظامية التي فتحت أبوابها سنة 1110م، ودرّس فيها أئمة كبار مثل الشيرازي، والغزالي، والجويني وغيرهم. غير أن هناك من المؤرخين مثل الباحث في التاريخ والأدب المستشرق الألماني فرديناند وستنفلد (1808ـ1899) من يميل إلى القول إنه كانت هناك مدارس سابقة لعهد المدرسة النظامية، مثل مدرسة النيسابوري سنة 349 هـ أو الإمام الحاتمي عام 362هـ، أو مدرسة أبي علي الحسيني سنة 393 هـ التي كانت متخصصة في علم الحديث ويرتادها ألف طالب من بقاع العالم. ومدارس أخرى غير هذه.
ولا شك أن مبعوث الأمير المرابطي يوسف ابن تاشفين عبد الله المعافري وابنه أبو بكر بن العربي (1075ـ1148) إلى بغداد سنة 1092 م ولقاءهما بالغزالي والطوسي والشاشي، من أجل فتوى إنهاء ملوك الطوائف في الأندلس، لم يفوتا زيارة المدرسة النظامية بغداد، كما تلقى الابن أبو بكر ابن العربي دروسا فيها. وحين عاد هذا الأخير معجبا بطريقة ونظام المدرسة النظامية قدم عنها وعن الحركة العلمية في بغداد تقريرا للأمير يوسف ابن تاشفين. والمغرب لم يكن آنذاك يعرف النظام المدرسي، إلا الدروس في الجوامع والمساجد القرآنية؛ فأمر يوسف ابن تاشفين بتأسيس مدرسة الصابرين كأول مدرسة عرفتها البلاد التي كانت تحت إمارته، ثم تلتها مدارس أخرى على عهد المرابطين (1056-1147)، والموحدين (1121ت 1269). وعندما يتحدث المؤرخون عن العلوم التي كانت تُدرس في جامعة القرويين، من فلك وهندسة وطب تشريح، فإن هذه العلوم لم تكن تمارس داخل الجامع نفسه، ولكن في ملحقاته من المدارس. وكذا لم يكن الطلبة المسيحيون مثل أشهرهم الفرنسي جربير فون دورياكن الذي سيصبح لاحقا بابا الكنيسة الكاثوليكية ويلقب سلفيستر الثاني (946ـ1003)، أو اليهود مثل العالم اليهودي الكبير موسى ابن ميمون، يدرسون أو يدرسون داخل جامع القرويين، ولكن في المدارس التابعة له. فمع كل التسامح الذي توصف به تلك الفترة لم يكن من المنطقي ولا من المعقول ولا من أخلاق العلم أنه إذا نودي للصلاة أن يغادر الطالب المسيحي أو اليهودي، أو المدرس منهما، حلقة الدرس إلى خارج الجامع أو يبقى جالسا أثناء الصلاة.
ومدرسة الصفارين مازالت شاهدا على عصر المدارس التي أسست قبل دول المرينيين؛ فمن خلال هندستها، التي تتميز بالبساطة وخلاء جدرانها من كل أشكال الزخرفة، عكس هندسة المدارس المرينية، التي تتميز ببذخ فني وثراء معماري، لتعبير عن هذه الحقبة التاريخية، كعلامة على هذا الأسلوب المعماري الذي تميزت به الفترة المرابطية في بداية حكمها، وخاصة صومعتها القصيرة، التي تحمل رسومات فن العمارة الصحراوي؛ فهي تشتمل على قاعة للدروس والعبادة، يعتبر محرابها أقوم محاريب مساجد فاس.
ومدرسة الصفارين أو الحلفاويين أو مدرسة الصابرين كانت أول مدرسة أسست في فاس والمغرب عامة، وذلك في القرن الحادي عشر الميلادي، وتم ترميمها كليا سنة 1320 على يد يوسف يعقوب المريني، ثم أطلق عليها اسم المدرسة اليعقوبية؛ وكانت لها خزانة كتب ومخطوطات خاصة.. ولاحقا وبعد قرون طغى عليها اسم الصفارين نظرا لوجود مدخلها الرئيسي في ساحة حرفة الصفارين وقبالة خزانة القرويين.
لقد سكن هذه المدرسة عدد من الأسماء البارزة في تاريخ المغرب أثناء دراستهم في القرويين، مثل مولاي علي الشريف جد العلويين، ومولاي عبد الله الشريف جد الشرفاء الوزانيين، والإمام محمد بن سليمان الجزولي، والمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، والشاعر محمد مكوار؛ وقد كانت تضم نخبة الطلاب النجباء. ومن طرائف هذه المدرسة ما حفظته لنا الكاتبة الأمريكية أناييس نين في كتابها
“In Favor of sensitive Man and other Essays”
“أجمل الأحاسيس حول الرجل ومقالات أخرى”
عند زيارتها فاس سنة 1966، شجرة تين كانت قبالة مدخل المدرسة، تقول وهي تتذكر ساحة الصفارين، التي تغيرت معالمها عن زيارتها الأولى إلى فاس عام 1936:
“رثيتُ شجرة التين المجتثة من الساحة قبالة الخزانة، حيث كان الطلبة ذات يوم يجتمعون عندها، للمحاورة، لإلقاء أشعارهم ثم تعليقها على الشجرة، حتى يتسنى للمارة تقييمها”.
لقد أسست هذه المدرسة لتكون مستقلة بذاتها، وغير تابعة للقرويين، إذ إن لها مسجدها وصومعتها للأذان الخاصة ومؤذنيها وأئمتها للصلاة وأساتذتها.
بعد 44 سنة من تأسيس المدينة البيضاء عام 1276 على يد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني، كمدينة مخزنية إدارية وعسكرية مستقلة بكل احتياجاتها، والتي ستحمل لاحقا اسم فاس الجديد، تمييزا لها عن مدينة الأدارسة فاس البالي، أمر السلطان المريني أبو سعيد عثمان بن يعقوب (1310ـ1331)، عام 1320 م، ببناء مدرسة بفاس الجديد، عرفت بمدرسة فاس الجديد أو مدرسة دار المخزن المشتملة على مسجد. وتعد هذه المدرسة هي أول المدارس التي بناها المرينيون، بعد ترميم مدرسة الحلفويين (الصفارين) في العام نفسه. لقد كان الغرض من هذه المدرسة إنشاء مركز علمي خاص بالمدينة المنشأة حديثا ومستقلا عن القرويين. غير أن هذه المدرسة لم تعرف تطورا مشهودا، مكنها من أن تصبح مركزا علميا هاما مقارنة مع المدارس التي أنشئت لاحقا في فاس البالي.
في فترة حكم السلطان العلوي مولاي الحسن الأول (حكم 1873-1894) قام بتوسيع مساحة مشور قصر فاس، ونتج عن هذه التوسعة عزل المدرسة عن المسجد، ثم أصبحت من مكونات المشور الداخلي. لقد تم ترميم وإصلاح هذه المدرسة وبناء صومعة بها، بعد أن بقيت مهجورة دون وظيفة لفترة من الزمن، ثم خضعت لتجديد آخر سنة 1924. كما يقول المستشرق الفرنسي وعالم الآثار الإسلامية هنري تيراس ((1895 –1971 Henri Terrasse.
لقد عمل المرينيون على كسب الطبقة العلمية، من الفقهاء والعلماء والطلبة، التي كانت تمثل الناطق الرسمي باسم الجماهير، وخاصة في العاصمة، من خلال إنشاء إقامات عدد كبير من المراكز العلمية، التي كان أغلبها حول المساجد الكبرى للمدينة أو قريبة جدا منها، وفاقت في بنائها وزخرفتها كل مباني المؤسسات الدينية والعلمية الأخرى.
سنة لاحقة بعد بناء مدرسة فاس الجديد كلف أبو سعيد عثمان بن يعقوب ولي عهده أبا الحسن ابن عثمان (1331ـ 1348) سنة 1321 بالإشراف على بناء إحدى التحف المعمارية النادرة بفاس، مدرسة الصهريج، المشتملة على مزيج معماري مغربي أندلسي تزينه أنواع من الخطوط والرسومات الفنية على الجبس والخشب والزليج ويتوسطها صهريج انفردت به عن سائر المدارس العتيقة في فاس، ومن هنا اكتسبت اسمها “مدرسة الصهريج”؛ وكان الانتهاء من بنائها سنة 1328، وهي أولى المدارس الثلاث التي توجد كلها قرب الجامع الكبير الرئيسي لعدوة فاس الأندلسية..أيضا تحمل اسم المدرسة الكبيرة تمييزا لها عن ملحقتها مدرسة السبعيين. ومدرسة السبعيين هذه مدرسة جد بسيطة العمارة صغيرة الحجم، لكن صيتها كبير، فقد تخصصت في حفظ ودراسة قراءات القرآن على روايات للائمة السبعة، نافع، عاصم، حمزة، ابن كثير، ابن عامر الشامي، أبو عمر البصري والكسائي؛ وقد اختلف في أسمائها، تسمى مدرسة الأساتيذ وكذا الصغرى تميزا لها عن المدرسة الأم الصهريج الكبرى، وأيضا مدرسة التجويد كما هو مسجل في السجلات القديمة.. والسبعيين نسبة إلى الفيلسوف الأندلسي والصوفي عبد الحق بن سبعين (1217ـ 1269)، الذي أمضى المرحلة المنتجة من حياته الروحية في المغرب، حيث ألف في هذه الفترة معظم رسائله؛ وقد قيل إنه سكنها دارا قبل تحويلها إلى مدرسة على يد أبي الحسن المريني عام 1321م.
لقد اشتهر هذا الفيلسوف ابن مدينة مرسية الأندلسية برسالته “المسائل الصقلية” التي هي أجوبة موجهة إلى الإمبراطور الألماني الأصل ملك صقلية فريدريك الثاني، ردا على أسئلته التي وجهها إلى الدولة الموحدية. لقد وجد فكر ابن سبعين وفلسفته صدى وانتشارا في أوروبا آنذاك، حتى إن بابا عصره ألكسندر الرابع قال عنه: “ليس للمسلمين اليوم أعلم من ابن سبعين بالله”. وكان الفيلسوف عبد الحق ابن سبعين، يطلق على نفسه اسم ابن دارة، والدارة في علم الحساب تعادل حرف العين والعين يعادل عدد 70.
المدرسة الثالثة المجاورة للمدرستين سابقتي الذكر هي مدرسة الوادي، التي تم بناؤها أيضا على يد أبي الحسن بأمر من أبيه عثمان بن يعقوب سنة 1323. بقيت هذه المدرسة ولقرون طويلة تحمل اسم مدرسة الواد، لأن واديا يمر عبر صحنها. ينقل الدكتور عبد الهادي التازي في الجزء الثاني من كتابه جامعة القرويين، عن أبي علي اليوسي (1631ـ 169) قوله: “وكانت مدرسة الوادي بفاس، وهي اليوم خربة، تحتوي على نحو سبع مائة أستاذ”، وزاد: “ولا يعطى البيت فيها إلا لمن يحفظ جميع المختصر الحاجبي”. إن مدرسة الوادي لم تحظ إلا بالقليل من اهتمام المصادر التاريخية، ونظرا لاختفاء معالمها المدرسية، فكثيرا ما يخلط بينها وبين مدرسة الصهريج. ويقول التازي: “وينسب إلى السلطان مولاي سليمان إصلاحها وتغييرها إلى ما هي عليه الآن. وورد في فواصل الجمان (لمحمد بن محمد المفضل غرنيط) أن مسجد الوادي كان مدرسة في القديم إلى أن خربت وعثر فيها على قتيل، فأزعج ذلك السكان، فهدمت البيوت والأركان، ثم جعلت مسجدا جامعا. وهذا كان على عهد الباشا الأرشد، الحاج عبد الله بن احمد أيام السلطان مولاي الحسن الأول”.
من عدوة الأندلس إلى عدوة القرويين، حيث وضع مؤسس المدارس السابقة أبو سعيد عثمان حجر الأساس في صحبة جماعة من الفقهاء وأهل الخير سنة 1323 م لمعلمة عمرانية اعتبرت في زمنها أعجوبة فاس، وهي بجوار جامعة القرويين وتنفتح بوابتها الوحيدة، المنمقة بزخرفات دقيقة على النحاس، على سوق العطارين مباشرة، ومن هنا استمدت اسمها “مدرسة العطارين”. لقد تطلب بناء هذه المدرسة سنتين، لتنتج عنه إحدى الشواهد الباذخة على الأعمال المعمارية التي شيدها المرينيون، وتشكل في حد ذاتها متحفا قائما بذاته، بما تحويه من تنوع في فن العمارة البديعة، من زخرفات ونقوش آيات القرآنية تعرضها جمالية الخط العربي، سواء على الخشب والجبس أو الزليج؛ هذه الزخارف التي ملأت فضاءها متوسط الحجم.. لقد حبس عليها مؤسسها العديد من الأملاك، وعين لها إماما ومؤذنين، وأشار ابن البناء المراكشي إلى أنها تخصصت في دراسة الفقه والنحو، ولا يقطنها إلا الطلبة المتفوقون في هاتين المادتين.
على بعد عشرات الأمتار من مدرسة العطارين، وبالذات قبالة باب القرويين الشمالي، الذي يعرف بباب الخصة، يوجد إبداع آخر من الإبداعات التي شيدها المرينيون: “المدرسة المصباحية”.. هذه المدرسة التي حملت اسم أول أساتذتها، أبي الضياء مصباح عبد الله اليالصوتي الغماري؛ وتسمى أيضا مدرسة الخصة، لأن في فنائها حوض من الرخام الأبيض. عن هذا الحوض، يذكر الدكتور عبد الهادي التازي في كتابه القرويين في فصل الحديث عن المدارس: “وتسميها حجج الوقف، مدرسة الخصة. لأن بيلة (حوض) من المرمر الأبيض تحتل وسط فنائها. وكان أبو الحسن قد جلبها من المرية بالأندلس، عن طريق البحر حتى العرائش إلى قصر عبد الكريم، حيث حملت على مركب إلى أن وصلت ضواحي فاس، من ثم حملت على عجلات من خشب تجرها القبائل والرؤساء إلى أن وصلت أولا إلى مدرسة الصهريج، ثم حولت منها إلى المدرسة المصباحية حيث لا تزال إلى الآن.. طولها 3 أمتار وعشرون سنتمترا وعرضها متر وخمسة سنتمترات”.. أسسها أبو الحسن على ابن عثمان المريني(1297ـ1351) سنة 1346 وجعل لها أوقافا عديدة، نقشت على لوحة من الرخام وثبتت على جدار إحدى قاعاتها. غير أن ابن مرزوق ينسب بناء هذه المدرسة إلى والده أبي سعيد عثمان المريني. يقول عنها المؤرخ الفرنسي أوسلو: “المصباحية جوهرة الفن الإسلامي”؛ وهي فعلا تحفة نادرة بين تحف المدارس، حيث تتكون من طابقين يشتملان على غرف لإيواء الطلبة، وبها دار للوضوء ومسجد صغير له محراب. وكان هذا المسجد في زمن ما مركز قاضي قضاة فاس، ولها إضافة إلى المسجد قبة الدروس والصلاة تقابل مدخلها الرئيسي لكنها بدون محراب؛ كما أن فناءها تحفه بيوت أخرى للطلاب. وبذلك يكون مجموع الغرف حسب ما أورده عبد الهادي التازي مائة وسبعة عشر بيتا.
وكان الفقه والنحو يدرسان في هذه المدرسة، وقد عرفت جملة من الأساتذة والطلبة الذين ارتادوها، مثل الإمام سيدي عبد القادر الفاسي، مولاي عبد الله الشريف الوزاني؛ وكان للونشريسي كرسي لشرح المدونة وخلفه فيه ابنه، والسلطان مولاي رشيد. وكان طلبة هذه المدرسة منذ إحداث احتفالات سلطان الطلبة بفاس وحتى إلغاء الاحتفال به في السبعينيات من القرن الماضي يحرصون على أن يكون سلطان الطلبة منهم، وينافسهم في المزاد العلني عليه طلبة مدرسة العطارين.
وفي وقت تمركزت إنجازات أبي سعيد وابنه أبي الحسن على فاس الجديد ثم عدوة الأندلس وحول جامعة القرويين، اختار السلطان الثاني عشر في الدولة المرينية غرب عدوة القرويين لإنشاء أجمل مدرسة شيدتها الدولة المرينية على الإطلاق؛ إنها متحف فريد في الفن المعماري المغربي الأندلسي. تحمل هذه المدرسة اسم مشيدها أبي عنان (1348ـ1358) سنة 1350م، المدرسة البوعنانية، وتسمى أيضا المدرسة المتوكلية؛ وهي المدرسة الوحيدة التي لا توجد قرب مسجد كبير، بل هي بعيدة جدا سواء عن القرويين أو عن جامع الأندلس، إنها توجد في قمة سوق القصر، المعروف بالطالعة الكبرى، أو زقاق الحجر كما في نصوص تاريخية قديمة.
يصف هذه المدرسة الحسن الوزاني بقوله: “وتمتاز إحدى هذه المدارس (البوعنانية) بروعة فائقة وسعة وجمال، وهي من بناء السلطان أبي عنان (المريني)، يرى الناظر فيها بركة فاخرة من رخام، سعة خصتها بطتان من الماء (نحو 1850 لترا). ويخترق هذه المدرسة جدول ماء يسيل في قناة صغيرة مغطاة أرضها وحواشيها بالرخام والزليج…. الأقواس الواقعة بين الأعمدة مكسوة بالزليج والذهب الرفيع واللازورد”.
إنها المدرسة الوحيدة في فاس التي هي مدرسة ومسجد للعموم في الوقت نفسه، وتقام فيها صلاة الجمعة، ولها صومعة رائعة البناء تطل على فاس القديم والجديد، وثاني مدرسة ذات صومعة بعد مدرسة الصفارين؛ لقد أسسها أبو عنان كمعهد علمي قائم ومستقل بذاته قريبة من المدينة البيضاء (فاس الجديد)، وكانت تابعة لأوقاف فاس الجديد، وبعيدة عن القرويين، حتى تبقى في عداد القصور الملكية، وعين لها مؤسسها جملة من الأساتذة والمدرسين للطلبة، حيث كان هؤلاء يدرسون ويقيمون فيها في الوقت نفسه؛ كما ألحق بها دارا للوضوء ذات قبة رائعة أيضا (دار المكانة)، أي ساعة مائية بثلاثة عشر من الأجراس، وحيدة زمانها، أمر بإنشائها أبو عنان المريني سنة 1357م وكانت تعتبر أكبر ساعة مائية عرفها العالم الإسلامي آنذاك، وتوجد قبالة المدرسة البوعنانية مباشرة.
ويروي ليون الإفريقي أن السلطان أبا عنان حين عرضت عليه دفاتر تكلفة بناء المدرسة الباهظة مزق الدفاتر وألقى بها في الوادي الذي يجتازها وأنشد:
ليس لما قرت به العين ثمن *** لا بأس بالغالي إذا قيل حسن
بعد المرينيين حاول الوطاسيون أن يسهموا بدورهم بعمل ما على منوال سلفهم بني مرين، فأنشؤوا سنة (1437 م) فترة حكم أبي محمد عبد الحق ابن أبي سعيد مدرسة ملحقة بجامع الباب الشمالي لمدينة فاس، باب الجيسة، معروفة بمدرسة باب الجيسة.. هذه المدرسة التي ينسب تأسيسها التباسا إلى السلطان العلوي محمد الثالث ابن عبد الله.
وظروف إنشاء هذه المدرسة جد غامضة، فطراز عمارتها البسيط والعادي جدا، والخالي من كل فنون الزخرفة المعمارية، التي عرفناها في جل المدارس المرينية، يظهر أنها بنيت في عجالة لحاجة ماسة من أجل إيواء الطلبة. ويميل الدكتور عبد الهادي التازي إلى الرأي القائل: إن جامع باب الجيسة كما هو ثابت عمل مريني، ولا بد أن المدرسة بنيت في تلك الفترة. وقد يكون أيضا تأسيسها متزامنا مع بناء الجامع. وقد ورد ذكرها قرنين قبل زمن سيدي محمد بن عبد الله، الذي تنسب المدرسة إليه. وقد ذكر بعض المؤرخين أن محمد ابن عبد الله إنما قام بإصلاحها وتجديدها ضمن إصلاحات قام بها في العديد من جهات المملكة.
لقد ساهم سلاطين الدولة العلوية هم الآخرون في المجال العلمي والديني بإنشاء مدارس على شاكلة الدول التي سبقهم في حكم المغرب؛ فبدأ السلطان مولاي رشيد بإنشاء مدرسة في سوق الشراطين، غير بعيد عن جامعة القرويين، في مكان كان منجرة تابعة لأحباس القرويين. باب مدخل هذه المدرسة الرئيسي في سوق الشراطين والآخر يقابله وينفتح عبر درب صفايرة مباشرة على باب القرويين (باب الخلفاء). هذه المدرسة التي أتم بناءها مولاي إسماعيل سنة 1671 م كانت تسمى المدرسة الجديدة، وعرفت لاحقا باسم مدرسة الشراطين. مدرسة ذات مساحة فسيحة، بثلاثة طوابق وبمجموع 232 حجرة؛ إنها من التحف الجميلة التي تضافرت فيها جهود الحرفيين والصناع في مجال الجبس والخشب والزليج.. ذات فناء جميل تتوسطه “خصة” رائعة، وتحتوي على قاعة للصلاة بالمحراب، بنيت باستشارة العلماء والموقتين، ولها دار وضوء. وتفيد الحوالات الإسماعيلية بأن للمدرسة جملة من الأحباس من حوانيت وأراض ومعامل.
السلطان العلوي عبد الله الخطيب سلك طريق أبيه إسماعيل فامر سنة 1733 بإنشاء مدرسة حملت اسمه العبدلاوية بالمدينة البيضاء فاس الجديد، وتوجد في حي مولاي عبد الله الواقع مباشرة في الجهة الشرقية للقصر الملكي، وهي مدرسة صغيرة لا تحتوي إلا على اثنتي عشرة حجرة. وحتى وإن كان اهتمام المؤرخين بهذه المدرسة شحيحا جدا فقد كانت لها أهمية خاصة، حيث كان الهدف من إنشائها تكوين الفنيين في عدد من المجالات والاختصاصات. وقد اختلف المؤرخون الذين اهتموا بهذه المدرسة، فنسبها بعضهم إلى محمد الحاج الدلائي، الذي تزعم الزاوية الدلائية سنة 1376 م، وامتدت سلطته إلى فاس ومكناس، بينما يؤكد آخرون أنها من إنشاء السلطان محمد بن عبد الله؛ أما النقيب ابن زيدان فيقول إن بانيها هو محمد الرابع بن عبد الرحمان.
آخر المدارس العتيقة التي بنيت في فاس كانت سنة 1940م، وهي تابعة للتعليم في القرويين، توجد متصلة من الجهة الشرقية بمدرسة الحلفويين، ولها نوافذ تطل مباشرة على واد بين المدن وقريبة من قنطرة الخراشفيين؛ وتحمل اسم مشيدها محمد الخامس ابن يوسف: المدرسة المحمدية. لقد بنيت هذه المدرسة الجميلة، وهي ذات طراز عمراني يختلف عن النمط العمراني المريني، في ظروف صعبة، أيام الحماية الفرنسية، التي كانت تنظر إلى التعليم بالقرويين وإلى طلابه وأساتذته بعين الريبة والاحتراس. ومع كل هذه الظروف فقد تمكن محمد الخامس من إصدار أوامره بأن تنقش على خشب مدخلها العُلوي عبارة: “النصر والتمكين المبين لمولانا السلطان سيدي محمد أمير المؤمنين 1359”.
لقد كان السكن في هذه المدرسة محل تنافس بين وجهاء الطلبة وأذكيائهم؛ فعلاوة على أروقتها المشتملة على غرف لسكن الطلبة لها منفذ إلى مدرسة الحلفاويين.
وهناك مدرسة أخرى كانت في فاس تحدث عنها المؤرخون، وهي مدرسة اللبادين، التي يشير بعض المؤرخين إلى أنها تعود إلى العهد المريني، لكن لم يحفظ تاريخ تأسيسها وكانت غير بعيدة عن القرويين؛ وقد هدمها السلطان العلوي رشيد لسوء سلوكيات طلابها وحياتهم الماجنة. يقول عبد الهادي التازي: من المحتمل أنها كانت في حي القطانين حيث فندق اللبادين الآن.
وفحتى وإن كنا هنا لم نتناول الحديث إلا عن مدارس فاس العتيقة، فإننا لا نريد إغفال الإشارة ولو على عجالة إلى مدارس أخرى للمرينيين، كالمدارس المرينية في مكناس، ومنها المدرسة البوعنانية التي أسسها أبو عنان سنة 1345 أو مدرسة أبي الحسن، ومدرسة الطالعة في سلا التي تم بناؤها سنة1341، أو مدرسة بن يوسف في مراكش التي بناها أبو الحسن المريني سنة 1346 أو مدرسة لوقاش بمدينة تطوان التي أسسها السلطان محمد بن عبد الله سنة 1758 وهي الآن متحف للتراث الديني الإسلامي. وكل هذه المدارس أنشئت للتعليم وإيواء الطلبة، وخصص لها مدرسون وأوقاف.
وفي الأخير يقول الفقيه المحدث المجاهد علي بن ميمون (1450ـ1511) عن خصوصيات التعليم بفاس بعد أن قضى في معاهدها أربع عشرة سنة وارتحل منها إلى الشام والحجاز وتركيا: “ومنذ خرجت من فاس لم أجد مثل هذه العناية بحفظ النصوص لا في تلمسان ولا في بجاية بتونس ولا بإقليم الشام بأسره ولا بلاد الحجاز، فإني رأيت ذلك بالمشاهدة”.
المصدر: وكالات