يكشف توالي أيام العدوان الصهيوني الوحشي، على غزة، أن المقاومة الفلسطينية، لا تخوض حرب دفاع شرسة ومشرفة، مع الجيش الاسرائيلي المقهور، وإنما تخوض كذلك معارك لا تنقص شرفا، على واجهات أخرى لا تقل أهمية استراتيحية.
ذلك أن مشاهد الالتحام البطولي والاسطوري، لمقاتلي فصائل المقاومة بغزة، وهم يجهزون على جنود الاحتلال وآلياته، من مسافة صفر، بقدر ما تحشد همم الشعب الفلسطيني ومعه كل أحرار العالم، وتشير إلى تفوق عسكري واعلامي وقيمي، بقدر ما هي في أبعادها وتداعياتها، مشاهد التحام تجري كذلك من مسافة صفر، وتحت الأضواء الكاشفة، مع مفاهيم ومسلمات وسرديات، وشعارات ظل تحليلها وتمحيصها يتمان بالانطباعات والمؤشرات وآليات أخرى.
إن المقاومة الفلسطينية، وهي تعمم مشاهد المعارك التي تخوضها في الميدان، وتوثق انتصاراتها ودحرها لجنود الجيش الاسرائيلي، تحت القصف الجوي والصاروخي والمدفعي، فإنما تشرك في الالتحام من مسافة صفر، كل من يتابع ويشاهد جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية المرتكبة في غزة، سواء كان من المعنيين مباشرة من العرب والمسلمين، الذين تجمعهم مع سكان غزة قرابة الدم والدين، أو عموم من ماتزال ضمائرهم حية من باقي العرقيات والحضارات، لكن في أبعاد أخرى ليست عسكرية.
لقد جعلت المقاومة الفلسطينية بصمودها وبإدارتها لمعركة طوفان الأقصى، العالم يلتحم من مسافة صفر، مع حقيقة اسرائيل، عسكرييها وسياسييها ومستوطنيها، وكشفت أنها دولة نازية متعطشة للدماء والدمار، ونزعت عنها كل مساحيق الدولة الحديثة المتباهية بالديمقراطية وحقوق الإنسان وأخلاقيات الحرب والنزاعات المسلحة، وأظهرتها في صفتها الأصلية كعصابة من المحتلين التوسعيين الرافضين عقيدة للآخر، مهما كان جنسه أو سنه، فضلا عن دينه وعرقه، وهو ما تنقله وسائل الإعلام عقب كل قصف همجي يطال المستشفيات والمدارس التي تأوي النازحين والمخابز ودور العبادة ومساكن المدنين.
لقد جعلت المقاومة الفلسطينية الباسلة، العالم يلتحم من مسافة صفر، مع أرباب دولة اسرائيل وشركائها الأصليين ومموليها المعتمدين، ويرى الناس أجمعين رأي العين، ما كان حبيس التحليل السياسي والتناول الإعلامي، للصراع الاسرائيلي الفلسطيني، ويلمسوا أن اسرائيل ماكانت لتكون لولا رغبة وإرادة منظري النموذج الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، القائم في الأصل على القتل والتهجير وعلى فكرة السمو والتعالي عن باقي خلق الله، وهذه الحقائق فضحت نفسها بتداعي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وايطاليا، إلى قصعة غزة، بعد أن تكلفت اسرائيل بنهش ما فوقها ومن عليها نهش الوحوش الضارية.
لقد جعلت معركة طوفان الأقصى، شعوب العالم، تلتحم من مسافة صفر، مع ادعاءات حقوق الإنسان، وحقيقة تبني اسرائيل هذه الحقوق، وبينت إلى أي حد يتبنى الغرب حقوق الإنسان بمختلف أنواعها ومجالاتها وأجيالها.
فأي جيل وأي مجال وأي نوع، تراعيه اسرائيل في عدوانها على غزة، أو يدافع عنه الغرب، مهد الحديث والنقاش حول حقوق الإنسان، والجميع يتابع الضغوط تلو الضغوط لادانة المقاومة الفلسطينية المدافعة عن أرض شعبها المحتلة، في محاولة سلبها حقا الذي تكفله كل الشرائع وكل المواثيق.
وعن أي حقوق فردية أو جماعية، مدنية أو سياسية، اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، يمكن أن يصدق أي متابع للعدوان الاسرائيلي على غزة، أنها موجودة، وأن الغرب يتمثلها ويدافع عنها، ويجعل لها مؤسسات أممية، ظهر هي الأخرى من مسافة صفر أنها حديقة خلفية للولايات المتحدة الأمريكية راعية اسرائيل بلا حياء.
ومن مسافة صفر كذلك، التحم الشعب الفلسطيني، وخاصة سكان غزة، ومعهم باقي الشعوب، مع معاني خذلان الأقارب والجيران، فلم تنفع صور التقتيل والتهجير، والحصار والمنع من أبسط متطلبات الحياة، في دفع الأنظمة العربية والاسلامية، لاتخاذ قرار واحد جريء يعكس النصرة الحقيقية لشعب يباد على الهواء مباشرة، وظلت الانظمة توزع البيانات والبلاغات المحدودة الأثر والتأثير، التي صاغتها بأسلوبين، أسلوب الضعف والجبن والهوان أمام من يرعى اسرائيل، وأسلوب يراقب تحركات شعوبها، ويدعي التماهي مع مواقفها الرافضة للعدوان وللخذلان وللهوان.
أما من يتقاسمون مع المقاومة الفلسطينية، العقيدة والمرجعية الدينية، وكل من يريد التعرف على هذا الدين، فإن معركة طوفان الأقصى وفرت لهم فرصة الالتحام من مسافة صفر، مع المعاني العظيمة للإسلام وللقرآن، معاني الجهاد في سبيل الله، ومعاني النضال من أجل القضايا المشروعة، والتضحية بالدم والأهل من أجلها، وقبل ذلك جانبا من التمثل السليم لقيم الاسلام في الملبس والمأكل والتفكير والأهداف والغايات، وكل ذلك يمكن تلمسه في تصريحات سكان غزة المكلومين والمظلومين، وفي تصريحات الناطقين باسم فصائل المقاومة وقياداتها السياسية.
إن هذه الالتحامات من مسافة صفر، التي وفرتها المقاومة الفلسطينية بقتالها وادارتها للمعركة، وبصمود شعبها، هي من حركت الشعوب في كل أرجاء العالم، وقدمت لها صورة مكتملة الأجزاء، واضحة الأبعاد، فخرجت وماتزال في مسيرات وفعاليات تدين العدوان الاسرائيلي، الذي يهدد كل الشعوب، بما أبان عنه من قيم التوحش التي لا تعترف بالإنسان، ولا بحقوقه ولا بضرورة التعارف والتعايش من أجل تحقيق الأمن المشترك.
طوفان الأقصى معركة من مسافة صفر، مع مفاهيم لم يعد هناك مجال للبس فيها، وباتت عارية أمام الجميع، بل إنها التحام من مسافة صفر مع نموذج مفلس ثقافيا وسياسيا، لم يكن أهلا لقيادة البشرية، ومن الحماقة مواصلة الاحالة عليه كنموذج مرجعي، والأكثر حمقا إذا لم يتقدم من يتقاسمون مع المقاومة الفلسطينية المرجعية الدينية نفسها، بصياغة نموذج بديل قادر على قيادة العالم، أو طرحه في سوق النماذج الحضارية على الأقل، بعد هذا الفاصل الاشهاري الذي صرف عليه سكان غزة والمقاومة الغالي والنفيس، وسيكون ذلك أدنى مستويات الوفاء للشهداء الأبرار الذين ارتقوا في هذه الحرب ذات الأبعاد الحضارية.
المصدر: وكالات