لا تمعن جيهان الشرقاوي في التفكير حتى تعلن نفسها مغربية العقل والأحاسيس، أولا وقبل كل شيء، على الرغم من كون تكوينها الأساسي والأكاديمي يتأرجح بين فرنسا وكندا، ودون إيلاء اعتبار كبير للفترة الزمنية الطويلة لعيشها في منطقة أمريكا الشمالية. وحتى إن كانت الدارجة المغربية لا تسعفها في التعبير عند ارتداء قبعتها المهنية، فهي لا تزال تؤكد، إلى اليوم، بأن جذورها لم تقتلع بعد من الدار البيضاء.
لمعت المغربية ذاتها في تخصصها الطبي الجراحي المتصل بالعمليات التجميلية، وترى أن هذا المجال يتيح لها الجمع بين العلوم الحقة والإبداعات الفنية، بكيفية أو بأخرى. كما تحضر هذه المرأة الثلاثينية في المبادرات التطوعية للجالية، كان آخرها الإقبال على جمع مبالغ مالية للمساهمة في الجهود الأولى لإغاثة ضحايا “زلزال الحوز” بالوطن الأم.
ما قبل الباكالوريا
ارتبطت حياة جيهان الشرقاوي في المغرب بمدينة الدار البيضاء، وتحديدا منطقة عين الدياب، إذ نشأت وكبرت في هذا التجمع السكاني الكائن على الشريط الساحلي للبيضاء، واستطاعت الاحتفاظ بذكريات جميلة عن السنوات الـ17 الأولى التي قضتها في الوطن الأم قبل الانتقال للعيش خارج البلاد.
تقول جيهان تعليقا على مجريات الأمور في هذه الفترة: “المغرب بلد الطفولة والمراهقة، وعين الدياب حي أعشقه من أعماق القلب، وقد انطلقت دراستي فيه من مؤسسة جورج بيزي، ثم أخذت أنتقل من مستوى إلى آخر حتى شرعت في التعليم الثانوي التأهيلي بثانوية ليوطي، وهي مؤسسة تنتمي إلى وكالة التعليم الفرنسي بالخارج”.
لا تخفي جيهان أن من كانوا يقاسمونها مقاعد الدراسة كانوا يبتغون الالتحاق بفرنسا للالتحاق بالتعليم العالي عقب الحصول على شهادة الباكالوريا، وهو تطور متوقع في مسارات تلاميذ متخرجين من مؤسسة تابعة للبعثة الفرنسية في المغرب، قبل أن تضيف أن وضعها الأسري جعلها تنتقل إلى كندا، وقد تم ذلك قبل سنة من اجتياز الامتحانات الإشهادية.
بعد سنة 2002
كبرت جيهان في كنف أسرة يرعاها القبطان عبد العزيز الشرقاوي، الطيار المدني الذي ارتبط اسمه بشركة الخطوط الملكية المغربية، وقد عملت رحلاته بين الدار البيضاء ومونتريال على جعله يعشق الديار الكندية، ثم انتقلت هذه المشاعر الإيجابية إلى باقي أفراد أسرته، فقرر الجميع الانتقال للعيش في هذه البلاد سنة 2002.
“تقدمنا بطلب إلى السلطات الكندية المختصة من أجل الموافقة على استقرارنا بكندا، وتحديدا بمونتريال، وقد تلقينا خطابا رسميا يشعرنا بقبولنا كمقيمين دائمين، لذلك حزمنا حقائبنا وغادرنا الدار البيضاء قبل استكمالي الدراسة في ثانوية ليوطي، وصرت مطالبة بإنهاء الطور الثانوي في بلد الاستقبال”، تستحضر جيهان.
التحقت “ابنة عين الدياب” بمؤسسة تحمل اسم “ماري دو فرانس” قبل العبور نحو التعليم العالي، نافية أن تكون قد لاقت مصاعب في هذا الإطار، ومعترفة بأن الدراسة السابقة في البعثة الفرنسية بالمغرب كانت عاملا مساعدا للاندماج بسلاسة في كندا، إضافة إلى استفادتها وأسرتها من ترحيب كبير أبانه المحيطون بها في المجتمع الكبيكي.
التكوين في الطب والجراحة
حسمت جيهان خيارها المهني المستقبلي بالإقبال على التكوين من مجال الطب، وقد تحقق لها ذلك بالدخول إلى الكلية المناسبة بجامعة مونتريال، أولا، وخلال المرحلة الموالية اتجهت نحو التخصص في الجراحة العامة بالمؤسسة الجامعية ذاتها، وصقل المدارك النظرية مع الممارسات التطبيقية عن طريق اشتغالات ميدانية في فرنسا.
في هذا الإطار تورد الجراحة ذات الأصل المغربي: “عرفت مرحلة التكوين قضائي فترة زمنية كافية لتعميق المدارك بالعاصمة الفرنسية باريس، وقد مرت هذه المرحلة في مستشفى متخصص في التعامل مع أمراض الثدي، لذلك ركزت على كل ما يهم إعادة بناء الأنسجة عقب الإصابة بداء السرطان”.
حصلت جيهان على دبلوم مشترك بين الجامعات، مشتهر اختصارا بتسمية “D.I.U”، مسلّم من قبل جامعة باريس الجنوبية ضمن تخصصها الجراحي، بينما مسيرتها المهنية ارتبطت بسنوات طويلة، وصل مجموعها إلى 10 سنوات تقريبا، في ارتباط بغرف العمليات بالمركز الاستشفائي “لاصال” قبل المبادرة بتعديل الخيار.
الالتزام بتدخلات للتجميل
ارتأت الطبيبة الجراحة المنتمية إلى الجالية المغربية بكندا أن تستفيد من خصوصيات المسار التكويني الخاص بها، وأيضا من التجربة المهنية التي جمعتها كي تحاول تركيز التزاماتها المهنية على القيام بالتدخلات ذات الطبيعة التجميلية، وبذلك غدت اسما بارزا في هذا الميدان الجراحي حين ربطت الأداء بمستشفى “فيكتوريا بارك”.
تبوح جيهان قائلة: “أحب كثيرا التخصص في الجراحات التجميلية لأن العمل بهذه الكيفية يتيح مساعدة الناس على الإحساس بالارتياح بدنيا، وهذا الميدان يجذبني لأنه، إلى جانب ارتباطه بالعلوم، يرتقي إلى مستوى الأداء الفني في أحيان كثيرة، وهذا ما أراه منسجما تماما مع شخصيتي”.
“أحلم بالعودة إلى المغرب من أجل المشاركة في مهام إنسانية ونقل المعرفة في المستقبل، خاصة أنني تواجدت في نشاط يلبي شقا من هذا المراد قبل سنوات؛ إذ كنت في مشفى “سانت جوستين” للأطفال وعملت بالبيضاء، مع أطباء مغاربة، على تدارك تشوهات خلقية في القلب، وأتمنى أن تأتي مناسبات لتوسيع التعاون كميا ونوعيا”، تسترسل جيهان.
في أعقاب “زلزال الحوز”
مباشرة بعد الهزة الأرضية القوية التي ضربت مناطق بالمغرب يوم 8 شتنبر 2023 كانت جيهان بين المبادرين إلى إنشاء ائتلاف تضامني يجمع عددا من أفراد الجالية تحت يافطة “متحدون مع المغرب”، وقد حرص على تحفيز التبرعات وسط الأشخاص الاعتباريين، أولا، ثم الانفتاح على المساهمات المالية للأشخاص الذاتيين، في مرحلة موالية، بنيّة المشاركة في تلبية احتياجات ضحايا هذه الكارثة الطبيعية من خلال ضخ مبلغ أولي.
وتذكر الطبيبة الجراحة أن هذه المبادرة الإنسانية الصرفة تمت بتنسيق مع منظمة الصليب الأحمر، وتمكنت من جمع ما يعادل 70 ألف دولار كندي عن طريق التواصل مع الأفراد، إضافة إلى مليون دولار كندي، في المجموع، تم تحصيله عبر مساهمات من الشركات الكبرى، من جهة، ومؤسسات رسمية للدولة الكندية، من جهة ثانية.
“التحرك كان عفويا مباشرة بعد تلقي الخبر الحزين، وتم بالاعتماد على الوسائط الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد عرف انخراط عشرات المنتمين إلى الجالية المغربية المستقرة بكندا، خاصة ذوي المعارف بمسؤولين في شركات كبيرة لم تتردد في تقديم الدعم والمساندة”، تضيف جيهان.
تذكر الأصل واستدعاء الحافز
ترى مستجمعة 21 سنة من الحياة خارج المغرب أن المهاجرين مطالبون بالبقاء مرتبطين بأصولهم، وأن يواظبوا على العودة إلى بلدانهم من حين لآخر كي تتجدد الروابط، معتبرة أن الحضور الهوياتي، فكريا ومجتمعيا، يتيح لذوي الأصول الأجنبية البقاء واعين بالغرض الأساسي الذي جعلهم يبحثون عن فضاء عيش بديل.
وتفسر جيهان الفكرة بقولها إن “المهاجرين الوافدين، خاصة المغاربة الراغبين بالانتقال نحو الأراضي الكندية الشاسعة، يحتاجون الرفع من مستوى تحفيزهم لتحقيق الأهداف التي حددوها لأنفسهم، سواءفي الدراسي أو المجالات المهنية، والبقاء متيقظين حتى لا يتيهوا عند مصادفة الصعوبات أو ملاقاة المغريات”.
“لدي حوافزي ولا أنسى أصلي، كما أعود إلى المغرب كلما أتيحت لي الفرصة، ويمكنني أن اعتبر ذلك محركي في هذه الحياة؛ إذ يجب أن أبقى عارفة من أين أتيت حتى أتذكر هويتي والغرض من وجودي. لذلك ينبغي أن يتحقق الاندماج مع الناس دون الوصول إلى مرحلة الانصهار الكلي”، تختم جيهان الشرقاوي.
المصدر: وكالات