تبرز في هذا الوقت من كل سنة مظاهر الاضطراب المرتبط بالاكتئاب الموسمي؛ إذ يتزامن ظهوره مع نهاية فصل الخريف وبداية فصل الشتاء، حيث تتراجع مستويات المزاج والطاقة لدى عدد من الأفراد، وتتولد لديهم حالات من الفتور النفسي وانخفاض الدافعية في مواكبة متطلبات الحياة اليومية.
وبالنظر إلى انتشار هذا النوع من الاضطرابات النفسية الموسمية، تظهر الحاجة إلى فهم الأعراض وتحديد الأسباب وضبط سبل الوقاية وطرق العلاج بما يتيح التعامل مع هذه المرحلة من السنة بصورة أكثر توازنا، والابتعاد عن الصعوبات النفسية المرتبطة بالاكتئاب الموسمي.
أعراض الاكتئاب الموسمي
ندى الفضل، أخصائية نفسية معالجة إكلينيكية، قالت إن “الاكتئاب الموسمي يُعرَّف في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5 بصفته نمطًا فرعيًا من اضطراب الاكتئاب، حيث يظهر خلال فصل محدد من السنة (غالبًا الخريف أو الشتاء) ويتكرر على الأقل لمدة سنتين متتاليتين، مع غياب نوبات اكتئابية خارج هذه الفترة”، مشيرة إلى أن “هذا النمط يرتبط بالتغيرات البيولوجية الناتجة عن نقص التعرض للضوء الطبيعي وما يرافقه من اضطرابات في الساعة البيولوجية والناقلات العصبية”.
وأوضحت الفضل، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “نوبة الاكتئاب الموسمي تتميز بأعراض مشابهة للاكتئاب التقليدي، لكنها تأتي في توقيت موسمي محدد”، مضيفة أن “هذه الأعراض تشمل انخفاض المزاج بصفة مستمرة، وفقدان الاهتمام بالأنشطة الممتعة، والشعور بانعدام القيمة أو بالذنب، وضعف التركيز، والانسحاب الاجتماعي”.
وأكدت المتحدثة ذاتها أن “الفرد يعاني من بطء نفسي حركي وتراجع في الدافعية، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على الأداء المهني والاجتماعي”، منبّهة إلى أن “ما يميز هذا الاضطراب أيضا هو ميل الشخص للانعزال وتراجع الرغبة في التفاعل، مع شعور عام بالثقل الداخلي وصعوبة بدء المهام اليومية”.
ولفتت ندى الفضل إلى أن “الاكتئاب الموسمي يرتبط بملامح جسدية خاصة، أبرزها زيادة الحاجة للنوم، والشعور الدائم بالنعاس، وتراجع مستويات الطاقة، وزيادة الشهية للكربوهيدرات، وارتفاع الوزن بشكل ملحوظ، كما يلاحظ على المصاب تباطؤ الاستجابات وانخفاض النشاط البدني، إضافة إلى اختلال في إيقاع النوم، فيما تُعد هذه الخصائص الجسدية مميزة مقارنة بالاكتئاب غير الموسمي الذي يميل عادة إلى فقدان الشهية وقلة النوم”.
وأفادت الأخصائية النفسية بأن “الاكتئاب الموسمي ينشأ نتيجة تفاعل عوامل بيولوجية وبيئية، حيث يؤدي نقص التعرض لضوء الشمس في الخريف والشتاء إلى انخفاض السيروتونين، وهو الناقل العصبي المسؤول عن تنظيم المزاج، كما يتسبب في اضطراب إفراز الميلاتونين الذي يضبط الإيقاع اليومي للنوم والاستيقاظ، إضافة إلى أن الوراثة تلعب دورا مهما؛ إذ ترتفع احتمالية الإصابة لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ عائلي للاكتئاب أو اضطرابات المزاج، كما أنّ العيش في مناطق تقل فيها ساعات الإشعاع الشمسي يزيد من قابلية ظهور هذا الاضطراب”.
وعن طرق الوقاية والتدخل العلاجي، قالت ندى الفضل إن “الوقاية المبكرة تُعد خطوة أساسية، خصوصا إذا كانت الأعراض تتكرر سنويا”، مضيفة أن “العلاج الأكثر فعالية يتمثل في العلاج بالضوء (Light Therapy) باستخدام صندوق ضوئي بسطوع 10,000 لوكس لمدة 20 أو 30 دقيقة صباحا، وهو تدخل يُظهر تحسنا واضحا خلال أسبوعين”، مشيرة إلى أن “العلاج المعرفي السلوكي (CBT) يُعتبر خيارا أساسيا؛ إذ يساعد المريض على تعديل الأفكار السلبية المرتبطة بالخمول والمزاج المنخفض، وتعزيز السلوكيات النشطة وإعادة تنظيم الإيقاع اليومي”.
وبعدما أشارت الفضل إلى أن “الوقاية تشمل أيضا التعرض المنتظم للضوء الطبيعي، وممارسة الرياضة، والحفاظ على نمط نوم منتظم، وتقليل السكريات التي تزيد من خمول الجسم”، أوضحت أن “النمط الموسمي لا يقتصر على اضطراب الاكتئاب الحاد فقط؛ فقد يظهر أيضا في الاضطراب ثنائي القطب الذي تتركز فيه نوبات الاكتئاب أو – بدرجة أقل – نوبات الهوس في فترات محددة من السنة، واضطرابات المزاج الأخرى التي تتأثر بإيقاعات ضوء النهار، وإن كانت بدرجة أقل شيوعا”.
بين الوقاية والعلاج
من جانبه، صرّح محمد شفيق الوزاني، أخصائي نفسي إكلينيكي، بأن “الحديث عن الاكتئاب يقتضي التمييز بين أنواعه المتعددة؛ إذ إن كل نوع يمتلك خصائصه وأعراضه وطرق التدخل المناسبة له”، مضيفا أن “الاكتئاب قد يكون خفيفا أو متوسطا أو شديدا تبعا لطبيعة الاضطراب والأسباب المؤدية إليه”، مبرزا أن “الأنواع الأكثر شيوعا تشمل الاكتئاب الأساسي، واكتئاب ما بعد الولادة، والاكتئاب ثنائي القطب، والاكتئاب المصحوب بالقلق، إضافة إلى الاكتئاب الميلانكولي الذي يتميز بحدّة أعراضه وقد يرتبط بأفكار انتحارية”.
وأوضح الوزاني، في تصريح لهسبريس، أن “الاكتئاب الموسمي لا يقلّ أهمية عن باقي الأنواع، فهو الآخر قائم على أسباب محددة، أهمها تغيّر الفصول ونقص الإضاءة الطبيعية خلال فصلي الخريف والشتاء”، مبرزا أن “هذا النقص يؤثر مباشرة على الساعة البيولوجية للجسم، وما يرافق ذلك من اضطراب في إفراز هرمون الميلاتونين المرتبط بالنوم وهرمون السيروتونين المسؤول عن المزاج، ومع اختلال هذا التوازن الهرموني تظهر الأعراض الاكتئابية ذات الطبيعة الموسمية”.
وأشار الأخصائي إلى أن “أعراض الاكتئاب الموسمي تتجسد في مزاج منخفض خلال أغلب ساعات اليوم، والشعور بالذنب أو اليأس، وانخفاض الطاقة والخمول، والرغبة في العزلة والانسحاب الاجتماعي، إضافة إلى اضطرابات النوم التي تميل إلى النوم المفرط بخلاف الأنواع التي يظهر فيها الأرق”، مضيفا أن “هذا النوع يتميز كذلك بارتفاع الشهية وتناول الطعام بكميات أكبر، مما قد يؤدي إلى زيادة الوزن”.
وأكد محمد شفيق الوزاني أن “التعرض اليومي للضوء الطبيعي يظل عنصرا أساسيا لتنظيم الساعة البيولوجية وتحفيز إفراز السيروتونين، سواء عبر الخروج خلال الصباح أو السماح بدخول الضوء إلى المنزل”، مبرزا أيضا “أهمية التغذية السليمة، لا سيما استهلاك الخضر والفواكه والأطعمة الغنية بالأوميغا 3، والمحافظة على شرب الماء بانتظام، مع تجنب الإفراط في السكريات والدهون في الفترات التي يكثر فيها ظهور الاكتئاب الموسمي”.
وختم الأخصائي النفسي الإكلينيكي توضيحاته بالتأكيد على أن “الشخص الذي سبق أن عانى من نوبات اكتئابية ثم لاحظ عودة الأعراض الموسمية يستحسن أن يطلب استشارة نفسية، خاصة إذا كانت الأعراض شديدة، حرصا على الحصول على الدعم المختص والتدخل العلاجي المناسب”.
المصدر: وكالات
