إن ظاهرة “الرْوَايْسْ” من بين الظواهر الفنية والثقافية التي تمتاز بفرادة وخصوصيات كثيرة؛ فبالرغم من شهرة فنون الروايس في الجنوب المغربي وسفوح الأطلس الكبير والصغير، انطلاقا من مدينة مراكش، في الفضاء الذي تنتشر فيه تاشلحيت وتاسوسيت من حوز مراكش إلى الصحراء وتخوم دْرَا، فإن هذا الفن الأمازيغي الجماعي الراقي والممتع يعاني من قلة الدراسات التاريخية والأدبية والأنثروبولوجية ولا يزال يحتاج إلى المزيد من البحث والتحليل والتأويل لفك الكثير من الرموز والإشكالات العالقة والغامضة التي تنتظر من يزيل عنها حجاب الصمت عن طريق البحث والتقصي والتفسير والتأويل.
لقد حاول بعض الأجانب، منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، التقرب من ظاهرة “الرْوَايْسْ”، بفعل وصول الضباط والإثنوغرافيين الفرنسيين إلى سفوح “أدرار ن درن” وسوس الذين كانوا يهتمون بتدوين جميع تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة في البوادي والمدن. ونخص بالذكر، هنا، الباحث Alexis Chottin الذي تمكن من اللقاء بالرايسْ الحَاجْ بْلْعِيدْ في مراكش، والطبيب بول شانيير Paul Chainière في كتابه “الأطلس الكبير المغربي” الصادر سنة 1912، وذكر فيه وصفا دقيقا لما شاهده داخل قصبات القياد/ القواد؛ منها قصبة الگلاوي في “تلوات”، وقصبة القايد “الوريكي” بأوريكا. وتحدث في كتابه عن سهرات الروايس التي كان القياد ينظمونها داخل قصباتهم، والآلات الموسيقية المستعملة والزي وغيرها.
لذلك، فظاهرة الرْوَايسْ مرتبطة ارتباطا وثيقا بنظيمة سياسية واجتماعية عرفتها منطقة سفوح “أدرار ن درن” ومراكش وحوز “إمي نتانوت” إلى “إيحاحان”؛ وهي ظاهرة القياد والباشوات الكبار أو “أسياد الأطلس”، كما سماهم أوجين أوبان في كتابه “مغرب اليوم” الذي أصدره سنة 1904.
إن هذا النظام السياسي المحلي الذي يتميز به الفضاء الأمازيغي المنتمي إلى مراكش والأطلس وسوس، والذي له علاقة بالوجود المخزني في هذه المناطق، حيث بفضله تم الانتقال من نظام إمغارن الذي يتم عن طريق الانتخاب الذي تنتجه الكونفدراليات الأمازيغية؛ وهو ما سماه روبير مونتاني بالديمقراطية الأمازيغية في ظل “جمهوريات” محلية، والانتقال إلى نظام القياد الذين يعيّنهم المخزن لتمثيله محليا وجهويا. لعب هذا النظام “القايدي” دورا كبيرا ومحوريا في ظهور الروايس وانتشارهم، وتطور هذا النمط الفني خلال القرنين الماضيين، بفعل سياقات كثيرة ومتداخلة منها الحماية الفرنسية وغيرها.
ووصل فن الروايس قمة أوجه في النصف الثاني من القرن العشرين وتقريبا بعد الحرب العالمية الأولى، بسبب دخول تقنيات التسجيل إلى المغرب. ومع تطور هذه التقنيات، أصبح الروايس هم أسياد الفرجة والمتعة الموسيقية في سوس والصحراء والواحات والمدن الأخرى التي هاجر إليها الأمازيغ، ووصل صيتهم إلى ما وراء البحار؛ غير أن تاريخ ظهور الرْوَايْسْ والأنماط الفنية والفرجوية الجماعية في المناطق الأمازيغية قديم جدا، سابق على مرحلة ظهور القياد الكبار وعلى الحماية الفرنسية وله جذور ثقافية عميقة مرتبطة بحياة المجتمع منذ الأزل، إذ إن الرقص والغناء والإنشاد في المجتمعات الأمازيغية لها وجود ممتد في التاريخ منذ غابر الأزمان.
إن الأمازيغ يمارسون جميع أنشطتهم اليومية المنزلية والزراعية والرعوية بالغناء والإنشاد. وحتى الآلات الموسيقية التي يستعملها “الروايس” مثل الكنبري والرباب ولوثار وغيرها فهي قديمة، نجدها عند التوارگ في الصحراء منذ فترات بعيدة، وإذا كانت تختلف في التسميات والأشكال فإن لها النغمات والإيقاعات الموسيقية نفسها؛ مثل “تينيدي” و”أمزاد”. إن “الروايس” هم امتداد طبيعي وإفراز موضوعي لظاهرة “إنضامن” و”إمديازن” الذين يعتبرون عماد وأسس فنون أحواش، وهو رقص جماعي نجده لدى جميع المجتمعات الأمازيغية.
ويعتبر الرايس محمد ألبنسير المعروف بالدمسيري حلقة ذهبية مشعة ومدرسة فنية رائدة وناجحة بكل المقاييس، ضمن سلسلة طويلة ومسترسلة من المدارس، في الشعر والغناء واللحن وغيرها؛ منذ مدرسة سيدي حمو الطالب، مرورا بمدرسة الحاج بلعيد ومدرسة مولاي علي بمراكش ومدرسة ساسبو بالدار البيضاء، ومدرسة ألبنسير الذي يمكن اعتباره سلطان الروايس وسيد الشعراء خلال القرن العشرين، لاعتبارات ومعايير ومميزات عديدة اجتمعت في ألبنسير وتفرقت في غيره.
يظهر أن الشاعر والرايس محمدا ألبنسير يتميز بحسٍّ ثقافي وفني فريد، يميّزه عن باقي الفنانين الأمازيغ الذين عاصروه وحتى الذين جاؤوا من بعده. وبالرغم من تشبثه بنمط موسيقي تقليدي أي ظاهرة الروايس، من خلال الألحان والأوزان والإيقاعات والآلات التي اشتغل بها ويوظفها في أغانيه، فإن أشعاره خرجت عن الإطار المرسوم الذي كان الروايس ينظمون فيه أشعارهم، وتجاوز المألوف في الدلالات والمواضيع والقضايا التي يعالجها ويتناولها، وتميز أيضا بطريقة المعالجة والأداء، فاختار أن يكون جريئا في الطرح وقاسيا في النقد وسخيا في الغزل وعميقا في التصوف ودقيقا في الوصف، ومناضلا شجاعا عن القضايا الاجتماعية الحارقة؛ غير أن أهم ما يميز ألبنسير هو تملكه للوعي الأمازيغي، ذلك الوعي الثقافي الذي جعله يتجرأ ويكسر عقدة الخوف التي هيمنت على الأمازيغ، مبدعين وشعراء وكتابا وسياسيين، ويتحدث عن “الميز العنصري” الذي عانى منه الأمازيغ واللغة والثقافة الأمازيغيتان قبيل الاستقلال وبعده.
وسنحاول التركيز في هذه الورقة على موضوع “الاحتجاج الهوياتي” والتمرد الثقافي في الشعر الدمسيري، من خلال هذه المحاور:
1ـ حياة ومسار ألبنسير
2ـ قوة تأثير ألبنسير في الجمهور، الشهرة والامتداد
3ـ الوعي بالذات الثقافية والهوية الأمازيغية.. الأمازيغية مجال لإثبات الهوية
4ـ الاحتجاج الهوياتي والتمرد الثقافي
1ـ حياة ومسار ألبنسير
ولد ألبنسير سنة 1937 بدوار تامسولت سنة 1937 بجماعة تيمزگديوين دائرة إمي نتانوت إقليم شيشاوة، ينتمي إلى قبيلة إلبنسيرن، والتي تستقر على سفوح الأطلس الكبير الشمالي. وكجميع أقرانه الأطفال، ولج مسجد الدوار للتعلم وحفظ القرآن؛ لكنه لم يتمكن من إتمام مسيرته القرآنية، حيث استهواه الفن وبدأ منذ نعومة أظافره في تعلم ضرب الإيقاعات من الناي والرباب الذي كان يصنعه من مواد بسيطة ومن المتلاشيات التي تتخلص منها ساكنة الدوار.
في البداية، واجه مشاكل كثيرة مع والده؛ لكنه ولج، في نهاية المطاف، عالم الفن في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين حين وصل الرايس حماد امنتاك إلى دواره تامسولت في ترحاله وتجواله الفني من أطلس تارودانت إلى مراكش، ورافقه في تلك المسيرة الموسيقية التي كان أمنتاگ ينظمها كل سنة، وكان ذلك في أواخر الخمسينيات.
واتجه الشاب ألبنسير برفقة مجموعة أمنتاگ من دواره في اتجاه الحوز ثم مراكش. وفي سنة 1961، دخل الرايس ألبنسير عالم الهجرة من بابه الواسع بسفره إلى ألمانيا، ومن ثم إلى سويسرا، وعاد سنة 1964 وأسس مجموعته الفنية والموسيقية، وواصل مساره الفني الزاخر والحافل بالعطاء والإبداع، إلى أن توفي يوم 11 نونبر سنة 1989 بسبب المرض بمصحة بمدينة الدار البيضاء (توخينا الاختصار الشديد في مسار الفنان).
2ـ شهرة ألبنسير.. الامتداد، القوة، التأثير
وصل ألبنسير شهرة فائقة لم يستطع أيّ فنان الوصول إليها من قبله وبعده؛ أولا لأن الأمازيغ لهم علاقة بالشعر والفنون وخاصة أحوايش، فهم ينتجون هذه الفنون ويرتبطون بها ارتباطا وجدانيا إلى درجة القداسة، بشكل أنطولوجي لا يمكن فهمه من دون إدراكه أولا ومن دون تذوقه والعيش وسط كنفه، وسط المجتمع الأمازيغي الذي تطغى عليه نظيمة الشفهي، لأن الأمازيغ يتأثرون بالشفهي أكثر من المكتوب.
واستطاع ألبنسير أن يدخل قلوب الأمازيغ لأسباب عديدة؛ أهمها:
ـ المهارة في العزف؛ تعلم أصول العزف لدى الرايس أموراك. وحسب العديد من الشهادات التي استقيناها من أصدقاء ألبنسير، فإن ربابه الشخصي الذي يعزف عليه هو رباب الرايس أستاذه أموراك، الذي ألحق به ألبنسير بعض التعديلات الطفيفة. لذلك، حين نستمع لعزف ألبنسير فإننا ننصت لقسمات ونغمات في غاية المتعة؛ لأن طريقة عزفه راقية ومبهرة. عَزف لفنانين عديدين وأسهم في شهرتهم، على رأسهم بيزماون والمهدي بنمبارك وحماد أوتمراغت؛
ـ الشعر والنظم وقوة الكلمة، فهو شاعر جيد غزير النظم، بديع الأسلوب، حكيم البلاغة، وقوي في الرمزية، وغزارة الإنتاج؛
ـ الألحان، يختار ألحانا ممتعة وراقية تمارس نوعا من سلطة المتعة على المستمع، على حسب ما يقول رولان بارت؛
ـ الجرأة والثقافة الواسعة بقضايا المجتمع وأسراره الخفية بحكم جولاته وأسفاره وعلاقاته المتشعبة مع مختلف فئات المجتمع، كما أنه يمتاز بالجرأة والتحدي؛
ـ الوعي السياسي والثقافي، تقرب من أوساط جمعوية وثقافية وسياسية، وقربه من جمعية البحث والتبادل الثقافي وحزب الاتحاد الاشتراكي زمن المعارضة.
3ـ ألبنسير والوعي الثقافي.. الفن كأداة إثبات الهوية
شخصية ألبنسير وتجربته الفنية والإبداعية هي بحد ذاتها عنوان الهوية، إن لم نقل هو الهوية الأمازيغية بنفسه؛ لأن الغناء بالأمازيغية والإنتاج بها هو في آخر المطاف “التزام”، على اعتبار أن تسجيل الأغاني والأشعار والألحان الأمازيغية بالطريقة والوتيرة اللتين استمر بهما ألبنسير وغيره من المبدعين من جيله في الإنتاج لما يربو عن ثلاثة عقود يسهم بشكل لا جدال فيه وبشكل كبير في الحفاظ على الثقافة الأمازيغية واللغة الأمازيغيتين.. فهو منتج للفن والثقافة؛ ولكن في الوقت نفسه يضمن استمرار الهوية التي تعيش في فضاء يهيمن عليه الصراع. والأمازيغية، كما هو معروف، تخسر الرهان دائما بسبب الاختلال البين في موازين القوى الذي ليس في صالحها، ولا نعتقد أنه سيكون عكس ذلك في الزمن القريب.
وبما أن المواضيع والقضايا المثارة في قصائد ألبنسير كثيرة، فإننا سنركز ها هنا على الوعي بالقضية الأمازيغية، التي يتحدث عنها بطرق كثيرة؛ إما باستعمال لغة الرموز التي يتقن ألبنسير توظيفها بشكل كثيف، وإما عن طريق الخطاب المباشر.. وهذه هي ميزته الأساسية التي تميز بها عن الذين عاصروه والذين سبقوه والذين جاؤوا من بعده…
القصائد كثيرة؛ لكننا سنختار بعض الأمثلة:
قصيدة لعيز إ تشلحيت
ربي زايدات لعيز نك إتشلحيت
نتات أس ليغ أتيگ إنا غكا موسغ
الله أكبار أتادليت نوسيكم
إماقار واضو د تاگوت لبحر ماغن
سوق إندر سميدن كولشي تلفن
توسيمت أترگاكيت إشراين
أولا يان كيم ازنزان ايستن فاغن
هان أوشن أرئصاض إكيس تاگانت
أماس نْ تگما أغد إطاي تيغاطْن….
في هذه القصيدة التي بدأها ألبنسير بخطاب مباشر بالدعاء لله للزيادة في العزة لتاشلحيت، أي الأمازيغية. وهنا، يجب الانتباه إلى أن المرحلة التي ينظم فيها ألبنسير كانت قاسية جدا، نتيجة الحصار المضروب على الأمازيغية كلغة وثقافة ولغة وغيرها؛ فحتى الجمعيات الأمازيغية التي تأسست آنذاك، كانت تسمي نفسها التبادل الثقافي والفنون الجديدة، ثم تستعمل الفولكلور وتتحاشى الخطاب المباشر مخافة من الاعتقال والمتابعات، حتى البحث الذي سجله عمر أمرير في الجامعة منتصف السبعينيات مع عباس الجراري كان عنوانه في البداية هو “المقاومة في الشعر الشلحي”. ويظهر لنا أن استعمال كلمة “تاشلحيت” عوض تامزيغت كان هو السقف المسموح به آنذاك حتى داخل أوساط النخبة المثقفة والجمعوية والمناضلة.
فهنا، يطالب ألبنسير بزيادة العزة والكرامة للأمازيغية بعدما شاهدها تعاني من الحگرة والإقصاء والتهميش… والقصيدة كلها يستعمل فيها كلمات وأمثلة رمزية دالة على الممارسات المشينة على الأمازيغية والأمازيغ…
وفي قصيدة أخرى، نجد ألبنسير يخاطب الجميع بلغة مباشرة تنم عن وجود اقتناع كبير لدى الشاعر بالقضية الأمازيغية التي يحمل وعيها الثقافي والسياسي؛ وهي قصيدة مشهورة بأگورن، وهي طويلة أصدرها سنة 1981، وهي السنة التي اعتقل فيها المؤرخ صدقي علي أزايكو ومنعت الجامعة الصيفية بمدينة أگادير، وهو سياق صعب جدا على الأمازيغ في المغرب بعد اندلاع انتفاضة الربيع الأمازيغي في الجزائر بمنطقة تيزي وزو عاصمة القبايل في يوم 20 أبريل 1980.
ويقول الشاعر ألبنسير في هذه القصيدة:
إيگاد الغدر تايوگا
ربي زايد إوگوك إيشلحين
أكولو سون إگيگيلن أمان
أدور أفن إمحسادن كرا نان
أسمقارد إموريگ نتشلحيت
أراسن سكران ضيد أور إلين
أيان إحسادن ماداك تيويت
هنا، أيضا، يستعمل الرايس ألبنسير الحمولة نفسها التي تحملها الكلمات التي تنتمي إلى حقل العزة والكرامة/ الشرف التي يتمناها للأمازيغ؛ فهذه المرة يخاطب الأمازيغ عكس ما أشرنا إليه أعلاه، فهو يتمنى ويدعو الله أن يزيد العزة والمهابة للأمازيغية، يطلب السماء بعد أن عاين ما تتعرض له الأمازيغية من ظلم وجور فوق الأرض. لذلك، اعتبر الأمازيغ “إگيگيلن” اليتامى الذين فقدوا آباءهم وأسلافهم، وهو ما يقصده محمد خير الدين في الحديث عن نفسه بكونه سليل سلالة منسية قديمة، فما يريد أن يشير إليه ألبنسير في تشبيه الأمازيغ بـ إگيگيلن أنهم لا يملكون من يدافع عنهم داخل دواليب الدولة. وهذا ما يسمى عند الخطيب ورولان بارت وآخرين بـ”الوجود اليتيم”؛ فنحن موجودون، ولكننا أيتام ما دام أن لغتنا منسية وثقافتنا مهمشة. واليُتم هنا سياسي بالدرجة الأولى، لأن ألبنسير يعرف جيدا الامتدادات والمعاني العميقة لكلمة إگيگيلن؛ وهو ما يعبر عنه محمد خير الدين في كثير من الإيحاءات الرمزية بـ”الوجود المنفي”.
“الوجود اليتيم” يشرحه ألبنسير بوجود إمحسادن، الذين يبحثون عن التهكم على الأمازيغ، في “وجودهم المنفي” والخفي؛ فهم “شلوح” يتحدثون بلغة غير مفهومة، هامشية لا تصلح لشيء، هؤلاء “إمحسادن” ماذا يريدون وماذا يعملون؟
أسمقارد إموريگ نتشلحيت
أراسن سكارن الضيد أور إلين
إنهم يعادون وجود الفن الأمازيغي والموسيقى الأمازيغية والثقافة الأمازيغية، فهو اعتراف واضح لألبنسير بوجود إمحسادن وهم الخصوم الإيديولوجيون الذين يعيشون مع إيمازيغن؛ ولكن يحاربون أمارگ نتشلحيت… فمن يكون هؤلاء؟ ألبنسير يجيب بلغة ماكرة ويحول المعنى إلى حيث شاء صاعدا إلى السماء، مع العلم أن عنوان القصيدة هو عنوان ملغوم يحمل معان ودلالات كثيرة، “إيكَا ييد الغْدر تَايوگا”، ويمضي في الرد عن إمحسادن قائلا:
أيان إحسادن ماداك تيويت
ربي گيختن د أومازال ف لعين
نتان أرا ييد أفك أمان …
وهنا، يعود ألبنسير ليكشف عن الوجود الخفي لأگيگيل الذي يبحث عن الماء في الأبيات السابقة، “أكولو سون إگيگيلن أمان”؛ فإكيكيل هو نفسه ألبنسير الذي ينتمي إلى “إيشلحين”، ويطلب الله الذي سيسقيه الماء، نتان أراييد إفك أمان. هنا ينتظر الشاعر ألبنسير بصيص أمل في المستقبل من أجل تحقيق العدل والمساواة للأمازيغية، مستعملا لغة رمزية عميقة متجذرة في الخطاب الصوفي الأمازيغي، وهي “الغيث”، ويرمز به هنا بضرورة الخلاص من الظلم والحگرة.
التحدي
ألبنسير، بعد أفصح عن هويته بكونه هو المقصود بأگيكيل أي الأمازيغ، رفض أن يعلن انهزامه وأن يرفع التحدي، معلنا عدم جبنه وخوفه من الدولة والقمع والسجون وغيرها… فزاد يرفع التحدي لإبراز الشخصية الأمازيغية القوية الصامدة، قائلا:
الله أرد ن تلعاب أشكو فرحغ
أراغ اتزاياد ربي غتيفاوت
أيليس ريغ أتن گاغ نلكمت
أهان أوريگي تاگوضي إبغ موتغ
أياك نفلد العز إيشلحين
أينازريغ نضمغ فلاسن
أوراك نكصوض كرا أداغ سول إينغ
أنوفاد نيت أنوض نكشم سرس
أتاكات د أوزال أكيسن إيلان
أولايني الدل إگوت فلاغ
أضوفاغ نيت الباضل س تيط إينو
مامنك رادسكرغ أتن لساغ
هنا، يعود ألبنسير إلى التذكير مرة أخرى بعزة الشلوح إيمازيغن؛ لكنه أعلن التحدي وعدم الخوف من الموت، وحتى إن مات فسيكون ضميره مرتاحا، لأنه لم يترك الذل والمهانة للأمازيغ.
ويصرح بأنه وجد السياق السياسي صعبا للغاية أنوض، وأن المعركة ليست في صالحه؛ ولكنه دخلها بالتحدي والشجاعة والمغامرة، لأن الذل كثر وزادت وطأته على الأمازيغ. وهنا يدخل الرايس فيما يمكن تسميته بـ”الاحتجاج الهوياتي” من أجل استعادة الحقوق الثقافية المهضومة، وضد التمييز العنصري والفني تجاه الأمازيغية.
4ـ الاحتجاج الهوياتي
انتقل ألبنسير إلى مستويات أخرى في وعيه الشقي بالقضية الأمازيغية والهوية الثقافية، بإعلان احتجاجه الهوياتي وتمرده الفني عن طريق الشعر والغناء والموسيقى.
ودخل هذا الفنان في جدال سياسي صريح مع الفنانين المشارقة الذين بسطوا هيمنتهم على الإذاعة والتلفزة آنذاك، وهو يخاطب الرأي العام المغربي وتعلقه بالثقافة الشرقية العربية.
إن الثقافة، كما هو معلوم، هي المرآة المعاكسة للسياسة؛ فتقديس المغاربة للفنون الشرقية هو ناتج عن تشبثهم بالإيديولوجية القومية العربية. وبالتالي، ذلك ما جعل ألبنسير يعقد مقارنات صريحة بين الحاج بلعيد وبين عبد الحليم وأم كلثوم والفنانين الأمازيغ.
يتحدث بسخرية لا مثيل لها، وبشجاعة كبيرة في بوح احتجاجي طافح وكاسح للسياج الهوياتي الدوغمائي المفروض آنذاك في زمن ما بعد الاستقلال على المغاربة بسبب “القومية العربية” وتقديس “العروبة”.
خطاب مباشر ولاذع يوجهه الفنان ألبنسير إلى الدولة والمجتمع والقائمين على الشأن الثقافي والإعلامي؛ وذلك في قصيدة رزمغد إولي إينو سلوظا غوجديگ.
ينتقل ألبنسير من المهادنة إلى المجابهة، بلغة صريحة مباشرة، ليس فيها رموز ولا معان خفية؛ لأنه يريد أن يمارس تمرده عن طريق الإنشاد والغناء، ويريد أن يحتج على وضع لم يعد يطاق، وضعٌ يكرس “التمييز العنصري” والثقافي والفني ضد الأمازيغية، لأن الدولة لا تعترف بثقافة ولغة ألبنسير التي يسميها هو إموريگ، ويقول نادما:
غار أيسكا نصبر ليغ ياد نگا غيكاد
لقيما نتشلحيت إضر غيموريگ
لقيما ولي دار تلا غيموريگ
فَريد دْ كلتوم نتاد عبدالوهاب
ياك عبد الحميد مسكين حرا يفوض
اكولشي لخبار نس ايسگان الغرب
أكا يْگات الگنس أرت أدْران إوياض
أراديو ونتا كاسا سول اتخطاب
مرا ايس نومت نكني مارا نسيود
أزوند اموش إغ اتوافا غومدوز
الحاج بلعيد إيگا الشاف كولو نيموريگ
مرا أوكان إسول أفلان أر أزمزاد
أوالله أرد إيگومي غار ماسا ايساغ تيد
أك إفسي ربي غ أوسكرف أيموريگ
إما تگيت إگيگيل گاغ نكي وياض..
هذه القصيدة عبارة عن مرافعة طويلة للشاعر محمد ألبنسير، يدافع فيها بكل قوة وجرأة عن اللغة الأمازيغية وما تعانيه من إقصاء وتمييز؛ فقد وصفها باليتيم المكبل بالأصفاد، داعيا إلى التحرر والانعتاق. وهذا ما يجعل من تجربة الفنان ألبنسير تختلف اختلافا بينا وواضحا مع التجارب الموسيقية للروايس الذين سبقوه وجايلوه؛ فقد انفرد بالوعي السياسي والثقافي الأمازيغي، وإن وصفه الباحث الحسين وعزي في أطروحته حول نشأة الحركة الثقافية الأمازيغية بـ”الوعي التقليدي” مقارنة بما سماه بالوعي العصري الذي كان منحصرا داخل أوساط النخبة الجامعية والجمعوية في عقود ما بعد الاستقلال.
إن تحليل قصائد الشاعر ألبنسير يؤكد لنا بوضوح أنه كان يعبر عن وعي ثقافي عميق وراسخ يجسد حقيقة ما كان يمتلكه الفنان من وعي سياسي وثقافي كبيرين، بالرغم من عدم ولوجه إلى المدرسة في حياته؛ وهو الذي اكتفى بحفظ بعض سور القرآن في مسجد الدوار والذي غادره مبكرا، متجها نحو الفن والشعر والغناء وتعلم الآلة…
إن ما حققته القضية الأمازيغية من مكتسبات كثيرة، من اعتراف رسمي لها في الدستور وإدماجها في المدرسة والإعلام وإن بشكل محتشم، والإقرار الرسمي بالاحتفال بيوم رأس السنة الأمازيغية كيوم عطلة، جاء بتضحيات كثيرة وبنضالات مريرة وبمعارك سياسية وفكرية وفنية وإعلامية وابداعية كثيرة، متنوعة ومتعددة؛ فالاحتفال بأول رأس السنة الأمازيغية كيوم عطلة هو تقدير واعتراف لكل من أسهم في هذه المعركة الحقوقية الطويلة.. إنها ثورة ثقافية سلمية مدنية عميقة، تقودها الأمازيغية بصبر وتأنٍ وترقب…
المصدر: وكالات