قال محمد الأشعري، الروائي والأكاديمي ووزير الثقافة الأسبق، إن الدولة الثقافية تقدم “مفهوماً مغريا”، مسجلا أن “الحاجيات الثّقافية اليوم أكبر بكثير من أن تجيب عليها المبادرات الخاصة فقط، لكون السوق الثقافية في بلادنا وفي المجتمعات العربية بصفة عامة لا تحقق مداخيل وأرباحا هامة يمكن أن تُضخّ في استثمارات جديدة في القطاع”.
وتطلّب الأمر من الأشعري، وهو يتحدث ضمن ندوة قضايا راهنة حول “الدولة الثقافية.. من إشكالية التصور إلى إكراهات البناء”، المنعقدة ضمن فعاليات الدورة الـ29 للمعرض الدّولي للنشر والكتاب، أن يستشهد بالمجتمع الأميركي، الذي يحقّق مداخيل وأرباحاً خيالية من خلال الغناء والموسيقى والصناعة السينمائية، التي تسمح بتوظيف المليارات في الإنتاج السينمائي وفي إنتاج الأغنية والموسيقى.
ثم عاد الأديب ذاته للقول بنبرة فيها كثير من الأسف: “أما نحن فهذه السوق لدينا كسيحة، ولا تستطيع أن توفر استثمارات هامة”، وزاد: “الدولة الثقافية بهذا المعنى مهمة، لأن هناك تأخرا تاريخيا في المغرب لابد أن نتداركه؛ وهذه العملية لا يمكن أن تقوم بها المبادرات الفردية أو الخاصة فقط، بل لابد أن تعي الدولة أن تدارك هذا التأخر التاريخي يستدعي استثمارا عموميا هاما في المجال”.
وأوضح المتحدث ذاته: “نحن من الدول الأخيرة التي دخلت إليها المطبعة والإنتاج السينمائي والمسرح، وحتى الكتابة الأدبية التي تعتبر قديمة جدا في الثّقافة العربية؛ ففي المغرب يعود صدور أول ديوان شعري إلى ثلاثينيات القرن الماضي، والروايات كذلك صدرت متأخرة”، مشدداً في السياق ذاته على دور السّياسات الثقافية في تدارك هذا التأخر بمزيد من الاستثمار، “لنحارب ضعف الإنتاج المعرفي بصفة عامة، وضعف المقاولة الثقافية، التي لم يعد ضعفها خافيا”، وفق تعبيره.
ولفت الوزير الأسبق، في النشاط المنظم بتنسيق مع الجمعية المغربية للعلوم السياسية، إلى “ضعف الاستهلاك الثقافي” أيضا، موردا: “إذا احتسبنا معدل هذا الاستهلاك لكل فرد فسنكون في آخر القائمة على مستوى العالم”، وأضاف: “التنافسية الثقافية تستدعي أن تتدخل الدولة بقوة لحماية وتشجيع المنتج الوطني؛ فنحن نعرف أن منتجنا لا يستطيع أن يصمد تنافسيا أمام آخر أمريكي أو أوروبي بصفة عامة”.
واستند الروائي والشاعر إلى “الدراسات والتقارير الدولية والمحلية والوطنية التي أثبتت أن الثّقافة بعدٌ أساسي في التنمية وفي التقدم وفي بناء المجتمع الديمقراطي”، واسترسل: “نحن نعرف أن موجة المحافظة والظلامية استطاعت أن تستشري بقوة في المجتمعات العربية، نتيجةً النكوص الثقافي الذي عرفته هذه المجتمعات، وعجز الثقافة فيها عن القيام بدور تنويري يشيع قيم العقلانية والحداثة”.
وأضاف الأشعري أن “الظرفية تستدعي التركيز على دور الدولة الثقافية في بناء هذا الصرح”، مذكراً بـ”إثبات دراسات كثيرة أن الاستثمار الاجتماعي، والتعليم، والصحة ومحاربة الفقر والفوارق الاجتماعية، ليست اختيارات إحسانية، ولكنها استثمار يؤهل المجتمع لتحقيق تقدم يسير في منحى ترسيخ الديمقراطية”.
وفي هذا الصدد حذر الأكاديمي ذاته من “إجراء تواز شكلي بين المفهومين يتجاهل خصوصية الحقل الثقافي وحساسيته البالغة تجاه تدخلات الدولة”، مستحضرا “الاستثناء الثقافي”، الذي ابتكرته الدول الأوروبية، بالإضافة إلى “مفهوم الدعم المباشر للمنتج الثقافي واستثنائه من حرية التجارة العالمية، نظرا لكونه ليس منتجا عاديا، وإنما قيمة رمزية واستثنائية”.
وإلى جانب سؤال المردودية شدد الأشعري على سؤال الحرية، “التي يتعين أن تحافظ على مسافة ما بين الدولة والثقافة، لحماية حرية الإبداع واستقلاليته عن إرادة وتوجيه السلطة”، مؤكدا أن “تحكم الأخيرة في المجال، ولو كان من باب تلبية الحاجيات، له مخاطر لا يمكن الاستهانة بها”، وزاد: “نعم، هناك ضرورة قصوى للاستثمار العمومي في مجالات أساسية مثل بناء المؤسسات الثقافية، والتكوين في المهن الثقافية، ودعم الإنتاج الوطني”.
وختم المتحدث مداخلته بنقطة “عالية الأهمية” بالنسبة إليه، وهي “ضرورة اعتبار الأدب والفنون لبنة أساسية في منظومة التربية والتكوين، لأنه طالما أن هذا الأمر لا يعتبر كذلك فإن الحديث عن التوسع في الاستهلاك الثقافي ليس له أي معنى”، خالصا إلى أن “كل تداخل بين استثمار الدولة في الحقل الثقافي وتحكمها فيه هو تخريب مسبق لهذا المجال الذي لا ينتعش إلا في مناخ الحرية”.
المصدر: وكالات