لا يعتبر هذا التحليل إحاطة شاملة لمجمل القضايا التي تخص الخطاب الروائي بالمغرب من حيث النشأة والتكوّن والتطوّر، بل إنه وصف جزئي. إننا في مثل هذه التحاليل التي تتوخى تقييم الحصيلة واستشراف آفاق المستقبل، مطالبون بوضع احتراس نظري يهمَ، في المجمل، تصور الأديب وتحقق الأنواع الأدبية وتعبيراتها النصية المتنوعة والمتعددة.
لا شك أن هناك مرجعية سوسيو-ثقافية وتاريخية يصدر عنها فهم الأدب والحاجة إلى النوع الأدبي، وكذا أشكال التعبير التي تستدعيها أبنية ودلالات النصوص وما يحفز على كتابتها. وعلى هذا الأساس، لا يمكن حصر هذه التوصيفات العامة انطلاقا من نصوص منعزلة أو مفردة، مثلما لا يمكن اختزالها في مجرد تقنيات توضح وتبرز أنماط صياغة الحكاية وأساليبها المختلفة.
أفترض أن أي حديث عن تصور ما للأدب أو وصف لمبررات الحاجة إلى النوع الأدبي، ينفتح على مساءلة الاعتبارات المرافقة لكتابة تاريخ الأدب: متى نؤرخ لنوع أدبي، وبحسب أية مقاصد نهتمّ بوضعية التلقي الأدبي ووسائطه؟
يبدو اليوم أن النظرية الأدبية لم تحسم الأمر بعد. ولذلك، فهي تطور وعيها باستمرار كلما ظهرت الحاجة إلى تجديد علاقة النصوص الأدبية باللغة الواصفة التي تقاربها؛ وكلما أضحى الحديث ممكنا عن تعميق البحث حول وظيفة الكتابة وقدرتها على إنتاج متخيل اجتماعي يتعدى نطاق جعل الأدب صورة من الواقع.
إن الفكرة التي أود إثارتها تطرح للاختبار تلك الحاجة الثقافية والاجتماعية التي تسمح لكتابة ما أن تتخذ مظهرا نصيا معينا يجلّي وظيفة أدبية، تعني أن وعيا ثقافيا وفكريا هو بصدد التّبلور والبروز في آثار ترقى من مستوى النص المفرد، إلى مستوى أعم توفره نصوص متعددة يسهل تصنيف أنواعها بما يوافق الذوق الأدبي ومقتضيات المؤسسة الأدبية. وهذا، في نظري، ما يجعل أي حديث عن النشأة محفوفا بالعديد من الصعوبات النظرية والمنهجية أحصرها هنا ضمن إمكانات بحث:
– المبررات الكامنة وراء تطلع المجتمع لقبول شكل أدبي يناسب تطوّر حركة التاريخ الأدبي.
– اقتران هذا التناسب مع تلازم يخص الكتابة والتصور الذي يمنحه إياها هذا المؤلف أو ذاك، وهو تصور أفترض أنه يخلصها -في جميع الأحوال- من فرق الأنواع الأدبية.
لماذا اختار الأديب المغربي كتابة الرواية، وما السبيل إلى معرفة الدوافع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي رافقت الوعي بجدوى التخييل السردي بمختلف أنواعه وألوانه؟
يبدو من الصعب الإجابة على هذا السؤال، لأن كل بحث في تصورات الكتابة بإمكانه أن يستوحي صلاتها الممكنة بالشرط الاجتماعي والضرورة الثقافية المماثلة له، مثلما بإمكانه أن يعيد تأمل كيفية تعلق الواقع بالخيال. ومع ذلك، سيبقى تصور الكتابة جزئيا ما لم يكشف عن الأشكال الفنية والتعبيرية باعتبارها سمات مميزة للنصوص ولوظيفة الأدب على نحو شامل. وهذا إجراء يهم تاريخ وسوسيولوجيا الأدب ونظرية التلقي الأدبي.
التاريخ الأدبي هو تاريخ الكتابة والقراءة. من هنا فإن فعل القراءة ليس مجرد تلق للنص الأدبي أو الفني، بقدر ما هو فعل يندرج ضمن نسق فكري عام. تستدعي القراءة حرية القارئ في تحقيق الإدراك والتأويل، ولذلك فهي مشروطة بوضع اجتماعي / وتاريخي له دوره في إنتاج القيم الثقافية التي تتداولها الأعمال الأدبية والفنية. وهذا ما يجعل من تاريخ الأدب تاريخا للتلقي الأدبي، أي أن تاريخ الأدب سيكون تاريخا للقراءة. ولكي يحصل التلقي لا بد من مسافة زمنية وتاريخية. لا يحصل التلقي إلا حين يدخل النص إلى التاريخ.
من أجل توضيح ما سلف، أقترح تأمل هذه اللحظات:
لحظة شبه روائية
تَعتبرُ العديد من الدراسات والببليوغرافيات أن نص “الزاوية” للتهامي الوزاني (1942) الانطلاقة الأولى لكتابة سرد أدبي روائي بالمغرب. سرد أدبي يتميز بجملة من الخصائص النصية الحاملة لرؤية خاصة للذات والعالم الذي تحيا فيه: طفولة، مجتمع، معتقد. معنى هذا، أن أهم ما سيقدمه نص “الزاوية” هو تصور للكتابة متصل بوظيفة ذاتية واجتماعية مبثوثة في ثنايا الكتاب تجعل قراءته مقترنة ومفسرة لتلك الحاجة إلى سرد أدبي غير خاضع لمعايير النوع، في الوقت الذي تمتلك فيه القدرة على الانتقاد أو النزوع نحو الترميز وابتكار العجيب.
في اقتران بما سلف، يصبح نص “الزاوية” للتهامي الوزاني منتميا لمرحلة “ما قبل-روائية” أو “شبه-روائية” تستدعي التأريخ للذات أو للأنا وإعلان مسارات حياتية خاصة كالتربية والتعليم والعائلة، وكذا التعريف بعالم الزاوية الحراقية ومراتب الشرفاء والمريدين وأنواع الكرامات وعماد وسلوك الصوفية. هكذا، استطاع التهامي الوزاني أن يضع تأريخه للذات في ملتقى كتابة سردية منفتحة على أخبار المجتمع والتاريخ ومرويات الأدباء والأولياء واستثمار التخييل في تشخيص بعض وقائع الحياة. وإذا كان الوزاني في زاويته يتخذ مما سبق حافزا لكتابة سرد ذاتي، فإنه في نص آخر “سليل الثقلين” (1949) سيفتح السرد على عوالم الخرافة والخارق حين سيبتكر حكاية بطلها “بهزاد” والعفريت “صفريت”. ولذلك، يحتضن المنطق العام لهذه الخرافة أجواء الجن والإنس وما تستدعيه من أبعاد رمزية ذات غايات تعيد تمثل المتخيل السردي العربي كما تجليه “ألف ليلة وليلة” على نحو خاص.
وتلفت نظر الباحث، في هذا الإطار، كتابات سردية مغربية راهن أصحابها على تدوين تواريخهم الشخصية أو الغيرية في الحياة والمجتمع اتخذت شكل الفهارس والمذكرات، وشكل التراجم والمقامات والرسائل والرحلات أحيانا أخرى. بعضها كان يضمن سرده فسحا من التخييل ظلت محافظة -في الغالب الأعم وبحكم ثقافة أصحابها- على المنظور الديني والموروث الحكائي الشفوي، مما حرر هذا النمط من الكتابة النثرية من رتابة الأساليب العتيقة وقيود الصنعة والصياغة الموروثة. وأحيل هنا على كتابي الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية وأصحاب السفينة لمحمد بن عبد الله المؤقت المراكشي.
يميل الفقيه المتأدب عبد الله المراكشي في كتابته النثرية إلى استثمار الرحلة المتخيلة ورمزية الأحلام في ابتكاره لأسلوب ييسر له انتقاد القيم الفاسدة في المجتمع المغربي آنئذ، واعتماد خطاب إصلاحي ذي امتدادات دينية وحكائية شعبية تحفل بالعجائبي والغرائبي، وكلها صيغ نثرية وسردية أتاحت للمراكشي إعادة تخيل الواقع بغاية محاربة الأخلاق الفاسدة وإشاعة النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة البدع.
لحظة تاريخية سيرية
عادة ما يقيم النص الأدبي علاقة مع العالم المرجعي سواء تعلق الأمر بتمثل سيرة الذات أو وصف مظاهر الحياة اليومية وعادات وسلوك الأفراد. هذه مسلمة يمكن تعميمها على بعض الكتابات السردية لسنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي؛ ويظهر بوضوح تعلق تلك الكتابة بشكلين سرديين متمايزين: السرد التاريخي والسرد السير ذاتي. نمثل للنوع الأول بالروايات التاريخية القصيرة التي كتبها عبد العزيز بن عبد الله وجمعها تحت عنوان: “شقراء الريف (1973) ومنها: “الجاسوسة السمراء” و”غادة أصيلا” و”الجاسوسة المقنعة”.
وإذا كانت هذه النصوص تنظم مسارات الحكاية عبر استلهام قصة غرامية وأخرى تاريخية على غرار روايات جورجي زيدان، فإن تصورها للكتابة يفتح التخييل كما هو الحال -مثلا- في قصة “غادة أصيلا” التي تستحضر أجواء معركة وادي المخازن، على تصور يتخذ من أمجاد الماضي سبيلا لتعميق الحس الوطني، وإن كان الوعي بالكتابة داخل دائرة نوع معين لم يكن واضحا أو محددا، فقد كان عبد العزيز بن عبد الله يسمي كتاباته قصصا وروايات وقالبا قصصيا في الآن ذاته. لقد كتبت هذه الروايات في فترة انتقلت فيها الحركة الوطنية من مرحلة الإصلاحات والمطالبة بالاستقلال خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
لحظة سيرية روائية
يمكن القول، إن مسار الرواية المغربية سيتخذ من السيرة الذاتية شكلا مهيمنا للتعبير عن علاقة الفرد بالمجتمع ومحاولة الإمساك بتجارب الأنا في الزمان والمكان. ستصبح هوية الأنا موضوعا لسرد ذاتي يستعيد عوالم الطفولة، واليومي، والمألوف، والعابر. ويقدم لنا نص “في الطفولة” لعبد المجيد بن جلون مثالا واضحا على تطابق الذات الساردة مع ذات المؤلف الواقعي والفعلي، وتقديم مادة سردية تعبر عن مصير الأنا بموازاة مصير المجتمع ذاته. وهذا ما يدفع إلى التساؤل: ما هي الدواعي التي اختار بموجبها بن جلون كتابة طفولته آنئذ؟ وكيف السبيل إلى معرفة المرجعية الثقافية والأدبية التي أقنعت المؤلف بكتابة سيرته الذاتية؟
لا أقصد من وراء هذا السؤال عرض حوافز الكتابة. فهذه مسألة شخصية فطن إليها بن جلون حين أكد في نهاية سيرته: “أبادر إلى القول بأن الموضوع الشخصي ليس هو الذي يجب أن ينظر إليه القارئ على أنه مهم في هذه الفصول”؛ وكأني به يدفع القارئ إلى اعتبار سرده الذاتي دعوة للتفكير في قيم اجتماعية وثقافية ممتدة في الذاكرة والوجدان المشترك، أي أنه سرد متولد عن إحساس ورغبة في إيجاد توازن مطلوب بين الذات والعالم. إن نص “في الطفولة” لا يستعيد حياة عادية، بل إنه يعيد بناء هوية فردية من قلب هوية وطنية ساهم في تعميقها إقامة بن جلون في البلاد الإنجليزية منذ طفولته المبكرة. هكذا كان الوعي بصورة الأنا والآخر لدى بن جلون مرادفا لجدوى كتابة سيرة ذاتية تقرن الكينونة بالهوية، والخصوصي بالكوني.
ومن هذه اللحظة وصعدا سيحظى هذا الميثاق الأوتوبيوغرافي بالأهمية في صياغة المتخيل السردي، بل إنه ميثاق يعقد الصلة بالميثاق الروائي، وكأن السيرة الذاتية طريق تؤدي إلى عالم الرواية أو إلى عالم السيرة الروائية. وبهذا المعنى، تعتبر بعض الدراسات نص “دفنا الماضي” لعبد الكريم غلاب، تأليفا روائيا يدشّن لوعي أدبي على صعيد الكتابة واختيار الشكل الفني الملائم للتعبير عن حالات اجتماعية وتجارب إنسانية معينة.
قبل “دفنا الماضي” احتفظ لنا التاريخ الأدبي بنصوص متفاوتة من ناحية الجودة الفنية، ولأن موقعها ذا صلة بفرضية قراءة تعاقبية ممكنة فإنها نصوص ساهمت -رغم ذلك- في تعميق الوعي بقيمة كتابة سردية أضحت لازمة لمواكبة حاجات المجتمع والأفراد. ونذكر منها هذه النصوص: “إنها الحياة” لإسماعيل البوعناني (1963)، “أمطار الرحمة” (1965) لعبد الرحمان المريني، “بوتقة الحياة” (1966) لأحمد البكري السباعي.
يستمد نص “دفنا الماضي” أهميته من توجيه أفق التخييل نحو بناء حكاية لا تظهر فقط صراع الفرد مع تقاليد مجتمعه، ولكنها حكاية تتخذ من عائلة الحاج محمد التهامي الموسرة والمؤمنة بضرورة الحفاظ على تقاليدها المتوارثة كما هي متداولة بحي المخفية بمدينة فاس العتيقة. وتعطي الحكاية لأبناء التهامي عائشة وعبد العزيز وعبد الرحمان ومحمود دورا أساسيا في تأثيث صورة دالة لصراع آخر بين الأجيال يغذيه، من جهة، إيمان راسخ بضرورة مواصلة الكفاح الوطني ضد الاستعمار، ومن جهة ثانية، إصرار هادف على تجاوز تقاليد الماضي وذهنياته الجامدة.
بالإمكان حصر أهم الاستنتاجات في ما يلي:
لحظة شبه روائية: تهتم برصد تاريخ الأنا وتحقيب التجربة الفردية عبر إلحاقها بالتجربة الجماعية؛ أو توليد حكاية خرافية مستمدة من الموروث الحكائي الشفوي. إنها لحظة تميل نحو تحرير الكتابة النثرية من قيود البلاغة العتيقة والصياغة الأسلوبية الموروثة.
لحظة تاريخية سيرية: وتميزت بفتح التخييل على مادة تاريخية ماضية بغاية فهم الحاضر ومواجهة هزائمه. والتاريخ هنا يخص: تاريخ الأمة وتاريخ الأنا. إنها لحظة تعتني بالفكرة وتعيد في الغالب توظيف صيغ سردية جاهزة.
لحظة سيرية روائية: يهدف تركيز الكتابة على الذات، في هذه اللحظة، إلى بناء هوية فردية متعلقة بهوية وطنية راسخة في الذاكرة والوجدان، وبهدف تركيز الروائي “le romanesque” على توليد أفق تخييلي يتطلع لتجاوز تقاليد الماضي البائدة.
شكلت الرواية بالمغرب -ومنذ بداية العقد الأربعيني- انبثاقا لتيار أدبي تجديدي كان موازيا لحركة يقظة وطنية؛ وهذا ما كان يُجلّي حاجة المجتمع المغربي إلى قيم إبداعية جديدة مختلفة عن سابقاتها، الأمر الذي أكسب تلك النصوص التأسيسية قيمة أدبية وثقافية تعكس انشغال الكاتب – كما أسلفت – بالبحث عن تصور للأدب:
– يحاور الأشكال السردية التراثية حينا كالخبر، والرسالة، والمقامة، والخرافة.
– ويستدعي حينا آخر شكل ومضمون الرواية التاريخية التي تمجد أحداث الماضي وتضمنها قصة غرامية مشوّقة.
– ويثير الاهتمام بانشداد هذا الأدب الروائي إلى أوجه من التعبير الذاتي/ الأوتوبيوغرافي.
منبع الكتابة الروائية بالمغرب اجتماعي يتخذ من الحدث التاريخي سبيلا لتشخيص أسئلة الهوية أدبيا، ومنبعها أيضا ذاتي تعتني فيه الحكاية بإظهار التجارب الذاتية للمؤلفين وتفريد السرد “individualisation”؛ ومنبعها أخيرا أدبي ساهمت فيه الرواية بتطوير أشكال النصوص وصيغ الأداء من المقالة في الأسلوب التقليدي، إلى القصة في النثر الحديث. وللأدبي، هنا، صلة وثيقة بتحديث اللغة الأدبية وتنويع الحساسية الفنية وسجلات التعبير.
المصدر: وكالات