ظل بابُ غرفة العمليات الجراحية موصدا لأزيدَ من خمس ساعات بإحدى المصحات في مدينة المحمدية، خضعت خلالها كوثر حميص لعملية جراحية ثانية للولادة بعد خطأ في خياطة الجرح؛ ما تسبب لها في نزيفٍ حاد كادَ يصيبها بالشلل المفضي مباشرة إلى الموت.
قبل ست سنوات، دخلت كوثر إلى مصحة خاصة لإجراء عملية ولادةٍ طبيعية. باكفهرار مرسوم على وجهها، جلست الشابة على السرير، وشرعت الطبيبة في توليدها. دقائقُ معدودة كانت كافية لتضع الحامل مولودها، وتستعيدَ الاطمئنان المفقود أثناء المخاض.
إلى هنا، كل شيء يسير على ما يرام؛ لكن مقص الخياطة سيقلب حياة الشابة رأسا على عقب. الممرضة المساعدة أخطأت في خياطة جرح الولادة، فانهمرت الدماء من تلقائها، وبللت أيدي الطبيبة التي ما عادت تقوى على حمل إبرة الحقن. صرخت المريضة على الفور، ثم نُقلت على وجه السرعة إلى العناية المركزة بمصحة مُجاورة.
بعد دقائق، خرجت الممرضة وصارحَت الزوج الذي كان ينتظر خارجا: “حالتها حرجة، وقمنا بحملها إلى مصحة أخرى على وجه السرعة”. بعد ساعات من العملية، استيقظت الشابة على النبأ الصادم.. الطبيب استأصل رحمها بسبب مضاعفات النزيف الحاد.
كوثر حميص ليست سوى حالة واحدة من مئات الحالات التي دخلت المستشفى أو المصحة لإجراء عملية بسيطة؛ لكن خرجت بعاهة مستديمة أفقدتها بصيص الأمل في الأفق. على غرار كوثر، يوثق هذا التحقيق خلال أربعة أشهر إصابة ثلاث حالات بأضرار طبية جسيمة، ووفاة طفلتين، بعد أن خضعوا لعمليات جراحية في مستشفيات عمومية وخصوصية.
في هذا التحقيق الاستقصائي، واجهت هسبريس المتضررين والمُتسببين في الأخطاء الطبية، بل والمسؤولِين عنها، ويأتي على رأسهم وزير الصحة والحماية الاجتماعية، بما وصلنا إليه في حال الأطباء المتهمين بالتجاوزات القانونية والصحية.
غُرَفُ المَوت
منذ ليلة الرابع من نونبر 2022، توقفت حياة حسناء زعبول بعدما جاءها شقاءٌ صحي جعلها متروكة للموت. قرابة الساعة الثامنة مساء، توجهت حسناء إلى “مستشفى المنصور” بمدينة الدار البيضاء لوضع مولودتها، حيث أجرت عملية قيصرية دفعتها إلى المكوث بالمشفى لمدة خمسة أيام.
خلال هذه المدة، كانت الثلاثينية تحس بآلام شديدة في بطنها رغم المسكنات، ثم سرعان ما تفاقمت وضعيتها الصحية بعد الخروج من المستشفى. أمام هذه الوضعية، اضطر الزوج إلى نقلها بعجالة إلى ـ”مستشفى ابن رشد” الذي طلب منها إجراء عملية جراحية أخرى.
“تنفسْتُ الموت والقيء مِلءَ رئتَيَّ”، تحكي لنا حسناء عن محنتها الطبية، وهي تكشف عن عرْض بطنها الذي لا يزال فيه أثر جرح قديم مندمل مُخَيط بغُرز مَعقودة. تلبثُ صامتة، وتضيف بصوت مرتفع: “بعد إلحاح شديد من الأسرة، أجرت لي طبيبة مغايرة بالمستشفى نفسه عملية ثانية؛ لكن تعرضت من جديد للإهمال”.
بتاريخ الثلاثين من نونبر، خضعَت الشابة لعملية جراحية ثالثة بـ”مستشفى المنصور” في الدار البيضاء، أشرفت عليها طبيبة أخرى بسبب التعفن الذي أصاب المعدة والكبد والجهاز التناسلي. بدأنا التحقيق في قضية حسناء بمحاولة الحديث مع الممرضة التي كانت موجودة أثناء العملية القيصرية؛ لكنها رفضت.
في اليوم الموالي، قابلنا إطارا تقنيا يعمل بالمستشفى، وسألناه عن الملف الطبي لحسناء دون كشف هويتنا، فأجاب بأن “الملف سلمته الإدارة إلى المريضة”، ثم انصرف مبتعدا عنا. توجهنا بعدها إلى إدارة المستشفى، حيث التقينا بمسؤولة إدارية نفت وقوع الإهمال الطبي في ملف المرأة الحامل.
“كذب في كذب”؛ هكذا واجهتنا أم حسناء حينما أخبرناها بجواب إدارة المستشفى العمومي، حيث قالت لنا بلسان بيضاوي دارجٍ: “شْديتْ الضوسي بْززْ”. وسط الاتهامات المضادة بين عائلة المتضررة والمستشفى، حاولنا التواصل مع المدير؛ لكنه لم يرد على الاتصالات الهاتفية للجريدة. أمام تضارب التفسيرات، قررنا زيارة “مستشفى ابن رشد” الذي طلب حينئذ من المتضررة إجراء عملية جراحية على الفور.
تقرير الأطباء، الذي حصلت هسبريس على نسخة منه، خلص إلى أن كتلة غريبة توجد بجسم ضحية الإهمال الطبي. في لقائنا مع أحد الأطباء الذين عاينوا حسناء، تبين أن سبب رفض إجراء العملية هو الحالة الحرجة للمعنية؛ ذلك أن العملية تحتاج إلى أطباء متخصصين عديدين بسبب تعفن الأمعاء، ما دفع الطاقم إلى مطالبة الشابة بالعودة إلى المستشفى الأولي لكي يتحمل مسؤوليته القانونية، حسب قول الطبيب.
حاولنا مقابلة طبيبة التوليد التي أشرفت على العملية القيصرية، لكنها رفضت الحديث عن هذه القضية. عادت الضحية من جديد، بطلبٍ منا إلى المستشفى، من أجل لقاء الطبيبة النسائية التي أخبرتها بأن العملية كانت “عادية”، مشددة على أن الأمر يتعلق ببعض “المضاعفات الجانبية” فقط. خلال فترة إعداد التحقيق، اتصلت بنا المتضررة لإبلاغنا بأنها وضعت شكاية بشأن وقوع خطأ طبي لدى الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء (بتاريخ 14 مارس 2023).
تضَامنٌ سِلبي
حالة كوثر (40 سنة) وحسناء (32 سنة) عينة فقط لأخطاء طبية تحدث يوميا داخل غرف العمليات بمستشفيات حكومية وخصوصية؛ جزء منها يلجأ إلى الجهات المختصة لوضع شكاية رسمية في الموضوع، وجزء آخر يجهل حقوقه القانونية.
استبيان أجريناه، في هذا الجانب، مع 80 حالة خطأ طبي حاورناها بشكل مباشر (لقاءات ميدانية) وغير مباشر (الهاتف) كعينة عشوائية من 7 جهات بالمغرب، يكشف عن الكيفية التي يتعامل بها المتضررون من الممارسات الاستشفائية مع الشكايات.
حسب نتائج الاستبيان، فقد تقدم 75 في المائة من المتضررين بشكاية رسمية إلى الجهات القانونية؛ بينما لم يتقدم 25 في المائة بأية شكاية رسمية. في تعليقه على هذا المعطى، يقول عبد الهادي زحاف، رئيس المحكمة الابتدائية بالرباط، إن “قضايا المسؤولية الطبية عرفت زيادة مطردة في المحاكم خلال العشرية الأخيرة”، مرجعا ذلك إلى “تصاعد الوعي القانوني لدى المواطن الذي لم يعد يرضى بالنتائج الطبية كيفما كانت”.
طارق منتصر، عشريني، ليس سوى حالة من الحالات التي لم تتقدم بأية شكاية رسمية رغم محنته العصيبة. منذ سنة تقريبا، أصيب في حادثة سير بنواحي مدينة خريبكة، ليتم نقله إلى مصحة خاصة ببني ملال، حيث تفاجأ ببتر رجله اليسرى نتيجة خطأ أثناء العملية. “لم أتابع المصحة بسبب النفوذ الذي يمتلكه صاحبها”، يسرد لنا طارق المبرر الذي منعه من اتباع المساطر القانونية المعمول بها.
سألنا محمد حمضي، الرئيس المؤسس للجمعية المغربية لضحايا الأخطاء الطبية، عن دوافع تردد المتضررين في متابعة المستشفيات والمصحات، فأوضح لنا أن “انحياز الأطباء إلى بعضهم البعض خلال إجراء الخبرة الطبية التي تأمر بها المحاكم جعل كثيرين لا يؤمنون بعدالة المسارات القضائية والإدارية والوزارية بخصوص الشكايات”.
في هذا الصدد، راجعنا أغلب القضايا الرائجة في القضاء، حيث لفتت انتباهنا قضية هزت الرأي العام بمدينة الناظور، وتتعلق ببتر العضو التناسلي لطفل إثر عملية ختان خضع لها. المحكمة الابتدائية أدانت الطبيب بسنة حبسا موقوف التنفيذ، وحكمت بتعويض الضحية بمبلغ 10 ملايين درهم. مصدر مقرب من الملف أفاد الجريدة بأن تقرير الخبرة الطبية أثبتَ وجود الخطأ، وهو ما عبر عنه مراد زيبوح، محامي الضحية، بالقول إن “الخبرة أبانت عن عجز طبي”.
لكن البروفيسور رضوان السملالي، رئيس الجمعية المغربية للمصحات الخاصة، يعتبر أن “الخبرات الطبية التي يلجأ إليها القضاء أنصفت أغلب الأطباء، باستثناء حالات الإجرام الطبي المرتبطة على سبيل المثال بالإجهاض”؛ فيما يؤكد محمدين بوبكري، رئيس الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء، أن “الهيئة لا تدافع عن الأطباء، بل تعطي الحق للمواطن والطبيب معا للدفاع عن نفسيهما”، مشيرا إلى أن “50 في المائة من أحكام الهيئة كانت لصالح المواطنين”.
تباين وجهات النظر بين أرباب المصحات الخاصة والهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء التي تراقب أداء “ملائكة الرحمة” يتضح جليا في “عملية الختان” بالناظور، حيث علمت الجريدة أثناء التحقيق بأن فرع الهيئة بالمنطقة الشرقية قد أدان الطبيب بعقوبة الإنذار بعد إجراء خبرتين طبيتين خاصتين بالهيئة؛ بينما رفض أطباء القطاع الخاص منطوق الحكم، ما دفع نقابة الأطباء إلى التضامن مع المعني بالمحاكمة نظرا إلى تجربته المهنية الطويلة.
المِشْرَطُ القاتل
لم يَدُر في خَلَدِ سعيد الياسيني، وهو يحمل ابنته إلى مستشفى محمد السادس بمدينة المضيق لإجراء عملية لاستئصال اللوزتين، أن الطفلة ستفارق الحياة بسبب إصابتها بالشلل بعد العملية. يحكي لنا سعيد عن القضية، وهو يمسح الدموع التي تجري فوق خديه، بقوله: “في أواسط دجنبر 2022، أجرت ابنتي عملية بسيطة بمستشفى المضيق؛ لكنها أصيبت بعدها بالشلل، ليتم نقلها إلى مصلحة الإنعاش بمستشفى سانية الرمل في تطوان، قبل أن توافيها المنية بعد انقضاء 80 يوما”.
واجهنا الطاقم الطبي والتمريضي الذي أشرف على عملية سلمى الياسيني برواية الأب، حيث أكد ممرض رئيسي، في اتصال هاتفي مع الجريدة، أن “الطاقم أنعش قلب الطفلة بصعوبة بالغة بعد دخولها مصلحة الإنعاش”. يتوقف قليلا، ثم يواصل سردَ رواية المستشفى بإيراده أن “الطفلة عانت من مضاعفات جانبية عقب تضرر جزء من دماغها بفعل نقص الأوكسيجين، بشكل أدى إلى فقدانها السمع والحركة”.
في خضم ذلك، وجدنا أن الوزارة الوصية على قطاع الصحة شكلت لجنة تفتيش للتحقيق في الشكاية المقدمة من الأب، حيث تتكون اللجنة من مفتشَيْن (طبيب وصيدلاني) وأستاذ مبرز في التخدير والإنعاش. بالنسبة إلى محمد حمضي، فاعل مدني متتبع لقضايا الأخطاء الطبية، فإن “ملف الطفلة سلمى نموذج لمئات الملفات التي لا تزال في طور التحقيق، سواء من طرف المحاكم أو وزارة الصحة أو هيئة الأطباء”، مبرزا أن “العمليات الجراحية تهيمن على قضايا الأخطاء الطبية الشائعة”.
بالفعل، يُظهر الاستبيان الذي أجرته هسبريس مع 80 حالة خطأ طبي حاورناها بشكل مباشر وغير مباشر أن نسبة العمليات الجراحية تصل إلى 50 في المائة من مجموع الأخطاء الطبية، تليها عمليات التجميل بنسبة 20 في المائة، وتتبعها الولادة الطبيعية بنسبة 20 في المائة، فيما تتوزع 10 في المائة المتبقية على مجالات أخرى.
بعيدا عن تصريحات الأسرة والمستشفى، لجأنا إلى رأي محمد اعريوة، باعتباره الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للصحة، الذي أفاد بأن “غالبية الأخطاء الطبية مردها إلى عدم تحقق الطاقم من لائحة الأدوات المستعملة بعد نهاية العملية الجراحية، لكي لا يتم نسيان المستلزمات الطبية في جسم المريض”، لافتا إلى أن “وضعية المستشفيات والمصحات تسهم في ارتفاع أعداد الأخطاء الطبية بسبب نقص التجهيزات والموارد البشرية”.
ولأن حكاية الطفلة سلمى تهم الأطباء، قررنا التحدث إلى المنتظر العلوي، رئيس نقابة أطباء القطاع العام، الذي أورد أن “الأسر تتحمل جزءا من المسؤولية لأنها على علم مسبق بنسبة المضاعفات الجانبية قبل إجراء العملية”.
المعطى ذاته أكده لنا رضوان السملالي، عن أطباء القطاع الخاص، بقوله إن “أغلب الحالات لا تكون لديها شروحات كافية بخصوص الأعراض الجانبية”.
هل المسطرة الإجرائية القائمة بالمستشفيات والمصحات متكاملة؟. في مكتبه المحاذي لـ”مستشفى ابن سينا” بالرباط، يذكر لنا النقابي محمد اعريوة، الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للصحة، أن “الطبيب لا يخبر أحيانا المريض بنسبة نجاح العملية، ولا يتم توقيع محضر قانوني باسميهما لكي يتحمل المريض مسؤولية اختياره”، ليشدد على أهمية “رقمنة الملفات الطبية لكي يطلع عليها الطبيب والمريض، وبعدها القاضي في حال الاشتباه بوقوع خطأ طبي”.
من داخل مصحته الخاصة بالتجميل وسط مدينة الرباط، واجَهْنَا البروفيسور صلاح الدين السلاوي بهذا النقاش. بلغته العربية الممزوجة بكلمات فرنسية دقيقة، يكشف لنا السلاوي أن “الدخلاء على الطب شوهوا سمعة هذه المهنة النبيلة”، ثم يضيف بنبرة غاضبة: “أطباء سامحهم الله في القطاع العام يتعاطون لجراحة التجميل”. لذلك، يدعو البروفيسور المرضى إلى “التأكد من هوية الأطباء عبر مراجعة القائمة المتوفرة لدى الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء”.
واقعُ لا يقتصر على تخصص التجميل فقط، بل ينطبق على جميع التخصصات؛ ما يدفع الوزارة الوصية على قطاع الصحة إلى تشديد المراقبة على المستشفيات الحكومية والخصوصية. استطعنا التواصل مع الوزارة، حيث أفاد مصدر مسؤول بها بأن “وزارة الصحة تعين لجنة تفتيش خاصة للتحري وإعداد تقرير مفصل حول شبهة الخطأ الطبي، ويتم رفعه إلى الوزير الذي يتخذ المتعين وفقا للإجراءات والمساطر المعمول بها في هذا المجال”.
مَتاهة الشِكايات
ستة أشهر؛ تلك كانت المدة التي ظل خلالها مُحمد عَدي تائها بين مستشفيات الحسيمة من أجل علاج ابنته. جرثومة دمٍ أطالت أمدَ عذاب الطفلة، وأخضعتها لكل الفظاعات الجسدية. تلوح بخاطره ذكريات الابنة، فتسقط دمعة ثَكلى، لتغرق بين أنقاضِه.
عن ذلك، يقول محمد: “أجرى لها الأطباء ست عمليات على الرأس، ثم أصيبت بتشوهات، لتسقط طريحة الفراش”، ويضيف، بينما تتصاعد خفقات قلبه: “ألتمس تدخلا ملكيا لحل الملف”. قاطعناه لكي نستفسر عن الجهات التي يمكنُ أن يتقدم إليها بشكايته؛ غير أنه نفى علمه بالإجراءات المتخذة في هذه الملفات.
يتعدد مسار شكايات الأخطاء الطبية بالمغرب، وفق ما يكشفُه هذا التحقيق، حيث تُحقق كل جهة في الشكايات التي تَرِدُها بصورة منفصلة تبعا لقوانينها وقواعدها الداخلية، دون تنسيق مع باقي الجهات ذات الاختصاص، مما يُضعف منظومة المساءلة القانونية؛ وبالتالي، تضيع حقوق المرضى. بشكل عام، تتوزع شكايات الأخطاء الطبية بين جهات القضاء والحكومة والهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء.
في هذا الصدد، يمكنُ التمييز بين المسار الإداري الذي يقدم خلاله المتضرر شكاية إلى الهيئة الوطنية للأطباء والطبيبات التي تبتّ في الملف، وبين المسار المدني الذي يطالب عبره المتضرر بتعويض مدني عن الضرر الطبي الحاصل، وبين المسار الجنائي الذي يطالب من خلاله المتضرر بترتيب المسؤولية الجنائية على المدعى عليه إضافة إلى التعويض المدني، وبين المسار الحكومي الذي يقدم عبره المتضرر شكاية إلى وزارة الصحة للتحقيق في الإهمال الطبي.
لكن ما الذي يعد خطأ طبيا موجبا لمتابعة الطبيب وإنصاف المريض في القانون المغربي؟. سؤال يجيب عنه مراد العجوطي، رئيس نادي المحامين بالمغرب، بالتأكيد على أن “المسؤولية الطبية تقتضي عدم التزام المشرف على التدخل الطبي بالوسائل الواردة في مدونة السلوك الطبي؛ ومن ثم يجب توفر أركان الخطأ والضرر والعلاقة السببية في الواقعة”، ليردف بأن “المريض يعرض نفسه على طبيب مشهود له بالكفاءة للتيقن من صحة الخطأ، لأن المضاعفات الجانبية واردة في الميدان”.
مع ذلك، يفضل الأطباء استعمال مصطلح “المضاعفات الجانبية”، وهو ما شكل موضوع يوم دراسي نظمته كلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء في منتصف مارس الفائت. حضرنا اللقاء خصيصا من أجل جس نبض الأطباء حول الموضوع، حيث ذهبت جميع الأجوبة إلى اعتبار الخطأ “مرفقيا”؛ لأنه يقترن بالمرفق الاستشفائي، وليس بالطبيب فقط، باستثناء البروفيسور أحمد بلحوس، رئيس الجمعية المغربية للطب الشرعي، الذي ذكر بأن “الطبيب هو المسؤول عن الفريق التقني والتمريضي، وبالتالي، تقع مسؤولية الخطأ على الطبيب الاختصاصي لأنه أكثر علما”.
متاهة الشكايات تسائل أدوار المؤسسات الدستورية التي يتداخل نطاق اشتغالها مع المحاكم ووزارة الصحة والحماية الاجتماعية والهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء. تواصلنا، في هذا الجانب، مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص شكايات الأخطاء الطبية، حيث أوضح عضو في اللجنة الجهوية بالدار البيضاء-سطات أن المؤسسة توصلت بشكاية وحيدة خلال الولاية السابقة للمجلس، تهم حالة إهمال طبي بمستشفى عمومي بمدينة الدار البيضاء، ثم راسلَت المستشفى بشأن حيثيات الملف.
قضية الطفلة سلمى بالمضيق أعادت الجدل حول دور البرلمان في الترافع عن ضحايا الأخطاء الطبية، بعد توجيه فريق الاتحاد الاشتراكي بمجلس النواب سؤالا كتابيا إلى وزارة الصحة. استفسرنا أربعة برلمانيين يَنشطون في لجان تقصي الحقائق عن الموضوع، فكان الجواب بأنه لم يتم تشكيل أية مهمة استطلاعية للنظر في حيثيات هذه الأخطاء. عند تصفحنا لأرشيف البرلمان، لم نجد أيضا أي تقرير مؤسساتي في هذا الاتجاه، بل حتى الأسئلة الكتابية المتعلقة بهذا النقاش معدودة على رؤوس الأصابع (لا تتعدى 10 حالات فردية).
إحصائياتٌ في “سَلة المُهملات”
“أدركتُ أنه لم يعد لديّ أيّ خيار آخر سوى الاستعانة بعدالة القضاء”، تروي لنا كوثر حميص التي وقعت ضحية خطأ طبي أثناء الولادة عن ظروف وضع شكايتها لدى المحكمة الابتدائية بمدينة المحمدية. تضيف، وهي تخفف من حدة لهجتها: “استغرقت بعض الوقت لكي أدرك أن المحكمة هي المُنقذ الوحيد”.
بخلاف كوثر، اعتقدَ طارق منتصر الذي أصيب في حادثة سير بمدينة خريبكة أن مصير الشكايات هو “سلة المهملات”؛ ما دفعه إلى عدم وضع شكاية لدى الجهات المختصة.
بعدَ مضي قرابة شهر ونصف الشهر على محادثتنا مع طارق، عدنا إلى مدينة بني ملال للقاء أسرته. “قررتُ التقدم بشكاية لدى وزارة الصحة من أجل التحقيق في القضية”، تقول أخت طارق بصوت خفيض من تحت غطاء رأسها ذي اللون الأزرق الذي يحجب شعرها، وتستطرد شارحة: “نقلت أخي إلى مصحة أخرى بمراكش بعد بتر رجله، وأقنعني أحد الأطباء الذي تفاجأ بفداحة الخطأ الطبي بضرورة متابعة المتورط في القضية لكي يكون عبرة للآخرين”.
في اليوم الموالي، توجهنا إلى المحكمة الابتدائية بالرباط لمعرفة عدد قضايا الأخطاء الطبية المسجلة بها. الوثيقة، التي حصلت عليها هسبريس، تفيد بأن 12 قضية للمسؤولية الطبية راجت في ردهات المحكمة خلال 2020، ثم ارتفع العدد إلى 15 قضية خلال 2021 و2022. كما يوضح المستند عينه بأن المحكمة الابتدائية أصدرت 15 حكما قطعيا و10 أحكام تمهيدية في هذه الملفات.
في مقر الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء بالرباط، تتبعنا أيضا الأرقام المسجلة في ملفات الأخطاء الطبية. المعطيات التي حصلنا عليها تشير إلى أن الهيئة بتّت في 70 قضية قبل 2020، بينما تدرسُ حاليا 14 شكاية توصلت بها منذ تفشي فيروس “كورونا” بالمغرب.
بعدها، قصدْنا وزارة الصحة والحماية الاجتماعية التي سألناها عن الإحصائيات الرسمية، حيث علمنا بأنها توصلت بما مجموعه 34 شكاية ما بين 2021 و2022، موزعة بين 25 شكاية بوجود شبهة خطأ طبي على مستوى القطاع الخاص، و9 شكايات تهم القطاع العمومي. أمام غياب إحصاء دقيق عن الأخطاء الطبية بالمغرب، قمنا بدق أبواب جميع الجهات المعنية بالملفات لتجميع الأرقام المختلفة على شاكلة إحصاء عام.
تأسيسا على ذلك، حصلنا على معطيات غير رسمية من جهات حكومية وغير حكومية حول عدد الأخطاء الطبية في الفترة الممتدة من 2015 إلى 2023. أشهر من تقصي الحقائق قادتنا إلى معرفة عدد الملفات التي تترافع فيها الجمعيات الحقوقية (300 ملف حسم القضاء في 40 منها)، بينما يتجاوز عدد الملفات الرائجة في المحاكم الابتدائية الـ200 خلال الفترة الزمنية سالفة الذكر، في حين يفوق عدد الملفات المسجلة لدى وزارة الصحة الـ136، فيما يبلغ عدد الملفات الموضوعة رهن إشارة الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء 84 ملفا.
بالتالي، فإن العدد الإجمالي لقضايا الأخطاء الطبية، خلال الفترة الممتدة من 2015 إلى 2023، يُقدر بـ720 قضية، على أساس أن هذا الرقم يظل نسبيا؛ لأنه يتعلق فقط بالحالات التي تقدمت بشكايات بخصوص الأخطاء، فيما توجد عشرات الحالات التي تفضل الصمت على الاحتجاج.
بالمقارنة مع دول الجوار، لا يزال المغرب متأخرا في الترافع عن ضحايا الأخطاء الطبية. في هذا الإطار، سجلت وزارة الصحة المصرية لوحدها سنة 2016 أكثر من 2094 شكاية رسمية من لدن المتضررين، بينما وصل عدد الملفات إلى أزيد من 2002 لدى وزارة الصحة السعودية في السنة نفسها.
لذلك، فإن العدد الإجمالي لضحايا الأخطاء الطبية بالمغرب لن يخرجَ عن هذا النطاق، خاصة أن الحسين الوردي، وزير الصحة السابق، صرح للصحافة سنة 2016 داخل البرلمان بأن نسبة “الأعراض الجانبية” مرتفعة بالمغرب (14 في المائة من حالات التطبيب).
تقاريرُ مُتضَاربة
لم تحسِب حسناء زعبول يوما أن الحصول على الملف الطبي قد يكون له هذا القدر من الصعوبات، بعدما رفض مدير المؤسسة الاستشفائية التي تعالجت فيها بمدينة الدار البيضاء منحها التقرير الطبي. بشأن ذلك، تقول لنا إن “المدير اكتفى بفتح باب مكتبه، ورد على طلبي بالرفض”.
ضحية خطأ الولادة لم ترضخ للأمر الواقع، وأطلقت صرخاتها المؤلمة لوسائل الإعلام. “بعد أيام، اضطر المدير إلى منحي التقرير”، تؤكد المتضررة التي تكشِفُ لنا بأنها “تفاجأت بتضارب التقارير، بعد خضوعها لفحوصات جديدة على يد طبيب مغاير”.
ذلك ليس العائق الوحيد الذي يقف أمام ضحايا الأخطاء الطبية، حسب علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، الذي يفيد بأن “تقارير الخبرة الطبية المعتمدة بالمحاكم تكون أحيانا متباينة؛ ما يصعب مهمة القاضي، خاصة تلك المرتبطة بالعمليات الجراحية التي يكون عددها مرتفعا”.
نقلنا هذا المعطى إلى وزير الصحة والحماية الاجتماعية الذي نفى ما جاء على لسان الخبير الصحي، حيث أورد أن “التدخلات الجراحية التي ترتبت عنها أخطاء طبية لم تتعد نسبتها المئوية 0.01 من مجموع التدخلات الجراحية برسم سنة 2021”.
بالنظر إلى تعقيد ملفات الأخطاء الطبية، تحرص المحاكم على تعيين خبيرين إلى ثلاثة خبراء لتفادي تضارب التقارير؛ وهو ما يشير إليه عبد الهادي زحاف، رئيس المحكمة الابتدائية بالرباط، بالقول إن “القاضي يستعين بخبرة أولى، فخبرة مضادة، ثم أكثر من خبرتين، لكي يقف على وجه اليقين على مدى المسؤولية الطبية”.
لهذا، دعا المجلس الأعلى للسلطة القضائية، في مذكرة موقعة بتاريخ 21 دجنبر 2022، رؤساء المحاكم إلى التقيد بالقواعد الإجرائية والموضوعية المنظمة للخبرة القضائية، بما يشمل الخبرة الطبية القضائية.
تراكم الملفات يطرحُ تحديا على الأطباء الخبراء المعتمدين في المحاكم التي تعتمد على الأقدمية لتعيين الأطباء، حيث تشترط خبرة 10 سنوات للأطباء الاختصاصيين، و15 سنة للأطباء العامين؛ الأمر الذي دفع كليات الطب والصيدلة إلى تكوين المزيد من الأطباء المتخصصين في المسؤولية الطبية، حسَبَ إفادة البروفيسور أحمد بلحوس، طبيب شرعي، حيث أشار إلى تخرج 200 طبيب في المجال.
الخصاص لا ينحصر فقط في عدد الخبراء الطبيين، بل يشمل أيضا القضاة المختصين في مجال المسؤولية المدنية للطبيب، بخلاف دول أجنبية سارت على نهج تكوين قضاة ملمين بمجال الأخطاء الطبية خلال العشرية الأخيرة.
لذلك، توجهنا إلى وزارة العدل لنسألها عن التأخر التشريعي في الميدان. مصدر مسؤول بها ذكر للجريدة أن الوزارة صاغت المسودة الأولية لمشروع القانون المنظم للمسؤولية المدنية الطبية منذ سنة 2018؛ لكن النقاش توقف بخصوصها.
أثناء اطلاعنا على المسودة الخاصة بالمسؤولية المدنية الطبية، وجدنا أنها تتضمن مجموعة من النقاط الجديدة التي من شأنها إعادة تنظيم العلاقة بين الطبيب والمريض. على سبيل المثال، تطلُب المسودة تسليم المريض ملفه الطبي، وتؤكد ضرورة تحرير الطبيب وثيقة واضحة ومؤرخة وموقعة من طرفه، حيث يشير فيها إلى مراحل العملية وصعوباتها واحتمالات فشلها، على أساس أن تكون موقعة من طرف المريض.
كما تدعو الوثيقة الأطراف في كل قضية تتعلق بالمسؤولية الطبية إلى سلوك مسطرة الوساطة التصالحية قبل اللجوء إلى القضاء، حيث تتم هذه العملية بحضور الضحية أو وكيله القانوني، إلى جانب الطبيب المدعى ارتكابه خطأ طبيا ومدير المؤسسة الاستشفائية المدعى ارتكابها خطأ طبيا، أو من ينتدبه لهذا الغرض، فضلا عن ممثل المقاولة المؤمنة.
علاقة بذلك، يشير محمدين بوبكري، رئيس الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء، إلى أن “وزارة العدل وعدت المهنيين بعقد لقاء قريب لمناقشة التفاصيل النهائية للمسودة”. وحول نقاط الخلاف بين الطرفين، يقول بوبكري إن “الإشكال المتبقي في النقاش يتعلق بصندوق التعويضات، حيث تبحث الوزارة عن صيغة للتعويضات المالية التي ستُمنح للمتضررين”.
ويأتي ضحايا العمليات الجراحية في مقدمة المتضررين، خاصة بجهة الدار البيضاء-سطات التي تسجل 40 في المائة من الأخطاء الطبية الشائعة، حسب نتائج الاستبيان الذي أجرته هسبريس مع ثمانين حالة خطأ طبي حاورناها بشكل مباشر (لقاءات ميدانية) وغير مباشر (الهاتف) كعينة عشوائية من 7 جهات بالمغرب.
موتٌ للمرة الثانية
تَنقَلَتْ بين محاكم مدينة المحمدية طيلة ست سنوات من التقاضي، آملة أن تتكلل المُحاكمة بتعويض مالي يُنسيها المحنة الجسيمة التي مرت منها؛ لكنها نالت في نهاية المطاف تعويضا تصفه بـ”الزهيد”. هل التعويض منصف؟، سؤال وجهناه إلى الشابة كوثر حميص التي استأصلت مصحة خاصة رحمها. غاصت في تأملاتها لحظات قليلة، قبل أن تجيب بنبرة ملؤها الألم: “بتاتا.. 200 ألف درهم لن تعوض لي حتى مصاريف المحاكمة”، وزادت مستدركة: “التعويض يشمل أيضا أتعاب المحامي”.
علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، يرى أن حجم التعويضات المالية الممنوحة للمتضررين يظل غير كافٍ، ويمضي شارحا: “ضحايا الأخطاء الطبية يموتون مرتين بسبب التقاضي الطويل”. هذه النقطة خلص إليها أيضا الاستبيان الذي أجريناه مع ثمانين حالة خطأ طبي؛ ذلك أن زمن التقاضي في هذه الملفات يتراوح بين 3 و5 سنوات.
المعطى ذاته جاء على لسان محمد حمضي، فاعل مدني متتبع لملفات الضحايا، بتأكيده على أن “تنفيذ الأحكام يتأخر ضد شركات التأمين، لا سيما التي تكون ضد المصحات”؛ وهو المعطى الذي اعترف به عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، داخل البرلمان في أواسط العام المنصرم، ما دفعه إلى الإعلان عن تشكيل منصة مشتركة مع المحاكم وشركات التأمين لتتبع تنفيذ الأحكام.
بشأن الأحكام القضائية الصادرة ضد المستشفيات العمومية، يلفت الحسين الوردي، وزير الصحة السابق، إلى أن التعويضات المالية الممنوحة للمتضررين بلغت 28 مليون درهم خلال سنتيْ 2015 و2016؛ الأمر الذي يسائل مسؤولية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (مؤسسة عمومية). راسلنا إدارة المؤسسة حيال هذه الإشكالية، فأجابت بأن تدخلاتها غير معنية بالأخطاء الطبية، وزادت موضحة بأن “الأخطاء الطبية تقع على عاتق تأمين المسؤولية المدنية المهنية للطبيب”.
مجلس المنافسة اعترف، ضمن تقرير حديث حول الرعاية الطبية المقدمة من لدن المصحات الخاصة، بضعف قوانين التأمين المرتبطة بالمصحات في المغرب. في قراءته للتقرير، يقول يونس بوبكري، رئيس جمعية وسطاء ومستثمري التأمين، إن “المصحات الخاصة تؤدي التأمين؛ لكن لا تفعله في أغلب الأحيان، إلى جانب عدم اطلاع الأطباء على مسطرة التأمينات”، ويضيف: “التأمين لا يحدد التعويضات الجزافية عن الأخطاء الطبية على وجه التحديد”.
على الرغم من تأكيد رضوان السملالي، رئيس الجمعية المغربية للمصحات الخاصة، على أن التأمين الصحي معمم على جميع المصحات؛ فإن بعض الأطباء لا يتوفرون على تأمين المسؤولية الطبية. هنا، سألنا إحدى شركات التأمين عن معايير التعويضات الممنوحة للمتضررين، حيث يوضح مديرها أن المعايير في إسناد التعويضات “غير دقيقة”، مرجعا ذلك إلى “عدم تحديد مبالغ الضمان الدنيا التي ينبغي إبرام عقد التأمين في حدودها، عن كل حادثة وعن كل سنة، وذلك بالنسبة لكل فئة من الفئات الخاضعة لإجبارية التأمين”.
بخصوص التأمين على المسؤولية الطبية، تطالب المسودة التي تشتغل عليها وزارة العدل بأن تُشعر مقاولات التأمين المجالس الجهوية للطبيبات والأطباء، داخل أجل أقصاه ثلاثة أشهر، بكل فسخ لعقد التأمين الإجباري أو توقيف للضمان اتجاه إحدى الفئات الملزمة؛ وذلك حتى تراقب مدى توفر الجسم الطبي على التأمين.
خلال التحقيق، لاحظنا أن المصحات التي زُرناها لا تولي للتأمين الطبي أية عناية؛ ما مرده إلى غياب لجان وزارية دورية للتأكد من وجود سند التأمين عن المسؤولية الطبية بالنسبة للأشخاص الذاتيين والاعتباريين. أمام هذه “الفوضى التنظيمية”، تجد الأسر نفسها في موقف صعب، على الرغم من صدور الأحكام القضائية التي تظل “مُجمدة” طيلة سنوات.
أغلب الحالات التي عايناها اضطرت إلى التفاوض مع المؤسسات الاستشفائية، لا سيما الخاصة، من أجل الحصول على تعويض مالي فوري. تبعا لذلك، يشدد علي لطفي، خبير صحي، على أهمية “التسريع بإخراج مسودة المسؤولية المدنية الطبية إلى حيز الوجود، بغية إنهاء وضعية الغموض التي لا تزال تعتري قطاع التأمينات الطبية”.
“ملائكة” في قفص الاتهام
قبل سنتين، أدانَ القضاء المغربي مُمرضة مولدة (قَابِلَة) بسنة سجنا وغرامة مالية قدرها 50 ألف درهم. الواقعة سلطت الضوء على المسؤولية الجنائية للأطقم الصحية، خاصة أن بعض المحاكمات قضَت بسجن العديد من الأطباء؛ لعل أشهرها الحكم القضائي الذي أدان “طبيب الناظور” بسنة موقوفة التنفيذ في “عملية ختان خاطئة”. مصادر مهنية تشير، في هذا الإطار، إلى أن المحاكم بَتّتْ في 300 قضية متعلقة بالممرضين والأطباء والتقنيين خلال الفترة الممتدة من 2009 إلى 2018.
في ظل غياب مدونة خاصة بالمسؤولية الطبية، ترجع المحاكم إلى القانون الجنائي كلما أثيرت مسؤولية الطبيب، خاصة ما يتعلق بالمادتين 432 و433 اللتين تعاقبان كل تقصير بشري يتسبب في تداعيات ضارة للأشخاص. خلال اطلاعنا على تفاصيل القانون الجنائي الذي يؤطر المتابعات القانونية في هذا المجال، وجدنا أن هاتين المادتين ليستا مخصصتين صراحة للأخطاء الطبية؛ وبالتالي، فالغموض يلف حدود المسؤولية الطبية بالنسبة إلى المرضى والأطباء.
لكن مراد العجوطي، رئيس نادي المحامين بالمغرب، يعتبر بأن “المحاكم تميل إلى تطبيق المادتين 432 و433 من القانون الجنائي بمجرد تحديد المسؤوليات، من خلال الاستعانة بالخبرة الطبية”؛ وهو ما يرفضه البروفيسور صلاح الدين السلاوي، الذي يدافع عن تبرئة الأطباء من تهمة المسؤولية الجنائية في الخطأ الطبي، مؤكدا أن “الطبيب ينبغي أن يتحمل المسؤولية المدنية التي يترتب عنها التعويض المادي”.
اطلعنا على عشرات الأحكام القضائية الصادرة ضد الأطباء خلال العشرية الأخيرة، فوجدنا أن الاتجاه العام للاجتهادات القضائية يُحمل الأطباء المسؤولية المدنية فقط؛ لكن يتم تفعيل المسؤولية الجنائية التي تكون مقرونة بالعقوبات السالبة للحرية في الملفات المرتبطة بالنظام العام، لا سيما عدم مساعدة المريض في حالة خطر وإعطاء الشواهد الطبية المزورة والإجهاض.
مع ذلك، يشتكي الأطباء من كونهم الحلقة الأضعف في السياسات الصحية، نظرا إلى المحاكمات التي تضعهم في مرتبة “المجرمين” عند ارتكاب الأخطاء الجنائية. لهذا، يدعو الخبير الصحي محمد اعريوة إلى إصدار قانون خاص بالمسؤولية المدنية الطبية تُحدد من خلاله وزارة العدل، بمعية وزارة الصحة، لائحة الأخطاء التي تستوجب المتابعة القانونية.
لذلك، يتحمل أطباء القطاع الخاص المسؤولية المدنية الموجبة للتعويض في ملفات الأخطاء اليَسيرة، بينما تحل وزارة الصحة محل أطباء القطاع العام الذين يخضعون للمسؤولية الإدارية؛ لكن ذلك لا ينفي المسؤولية الشخصية في الملفات الجنائية. وفي حال تعلق الأمر بالأخطاء الجسيمَة، يخضعُ أطباء القطاعين للمتابعة الجنائية، لكن وزارة العدل تسعى إلى إقرار الوساطة التصالحية مع المتضررين في مسودة مشروع القانون الجديد قبل اللجوء إلى المحكمة.
بالموازاة مع ذلك، يخضع أطباء القطاعين العام والخاص للمسؤولية التأديبية نفسها في حال الإخلال بالواجب الأخلاقي للمهنة، وهي المهمة المَسنودة إلى الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء التي تباشر مسطرتها التأديبية والإجرائية؛ لكنها تتريث إلى حين صدور الأحكام القضائية النهائية. هنا، أيضا، تختلف مسطرة التأديب بين القطاعين، حيث تكون سريعة في القطاع الخاص (فورية)، وبطيئة في القطاع العام (تستغرق شهرا على الأقل).
بتعدد شكايات معطوبي حرب المشافِي، أصبحت “ملائكة الرحمة” في قفص الاتهام، ومعها المؤسسات الاستشفائية التي تُلازمها تهمة صناعة “غرف الموت”. بالنسبة إلى الضحايا، يظل الطبيب هو المسؤول الأول عن الأخطاء التي تفتِك بالمرضى؛ فيما يتمسك مهنيو الصحة بتبرئة الطبيب من المسؤولية الجنائية. كل الأطراف تتشبث بربط المسؤولية بالمحاسبة؛ لكن بينهما ثغرات قانونية تكون أحيانا هي سبب تعقيد المسؤولية الطبية.. فمتى تتحرك، إذن، الحكومة لإنهاء الفراغ التشريعي في المجال؟.
المصدر: وكالات