اتفقت إيران والمملكة العربية السعودية على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، في صفقة توسطت فيها الصين، منهية بذلك سبع سنوات من القطيعة، مغيّرة الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. ويمثّل الاتفاق انتصارا دبلوماسيا لبكين في منطقة كانت تهيمن فيها واشنطن منذ مدة على المشهد السياسي.
يشير الاتفاق إلى تنامي نفوذ الصين في منطقة لطالما كانت الولايات المتحدة وسيطًا بارز الحضور فيها، ويمكن أن يعقّد الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وإسرائيل لتعزيز تحالف إقليمي لمواجهة طهران في الوقت الذي تُطور فيه برنامجها النووي. ويتزامن ذلك أيضا مع التوسط الأمريكي في اتفاق سلام محتمل بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وهو جهد يكتنفه الآن عدم اليقين.
وأقامت الصين في السنوات الأخيرة علاقات اقتصادية وثيقة مع إيران والسعودية، وكلاهما موّرد مهم للنفط لثاني أكبر اقتصاد في العالم. لكن هاته الجهود لبناء جسور دبلوماسية هي الأولى من نوعها حيث تتدخل بكين بشكل مباشر في المشهد السياسي في الشرق الأوسط. ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه العلاقات بين الحليفين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية توترا نتيجة تقليص الضمانات الأمنية الأمريكية وإقرار الرياض خفض إنتاج النفط للحفاظ على أسعار النفط الخام مرتفعة خلال الحرب الروسية في أوكرانيا.
وتم التوصل إلى الاتفاق بين إيران والمملكة العربية السعودية خلف أبواب مغلقة في بكين بين كبار المسؤولين في البلدين، وفقا لـبيان مشترك. وأثار الرّئيس الصيني، شي جين بينغ، فكرة المحادثات في الآونة الأخيرة خلال زيارة دولة قام بها إلى الرياض في ديسمبر الماضي، وفقًا لمصادر مطلعة. وكجزء من الصفقة، تعهدت إيران بوقف الهجمات ضد المملكة العربية السعودية، بما في ذلك هجمات المتمردين الحوثيين الذين تدعمهم في الحرب الأهلية اليمنية، وفقا لمسؤولين سعوديين وإيرانيين وأمريكيين. وستعيد إيران والسعودية فتح سفارتيهما وتبادل البعثات الدبلوماسية في غضون شهرين، واتفقتا على أن يعقد وزيرا الخارجية قمة في القريب العاجل لصياغة المزيد من التفاصيل.
بالنسبة لطهران، يخفّف الاتفاق من العزلة الدولية التي تواجهها منذ الاحتجاجات المناهضة للحكومة الإيرانية في الخريف الماضي وفشل المحادثات التي تهدف إلى استعادة الاتفاق النووي الدولي المبرم عام 2015، الذي بدّد آمالها في تخفيف العقوبات الاقتصادية.
أما بالنسبة للرياض، فإنه يمنح المملكة المزيد من النفوذ في الوقت الذي تسعى فيه للحصول على ضمانات أمنية أمريكية جديدة من إدارة بايدن.
يقول راي تاكيه، الخبير الإيراني في مجلس العلاقات الخارجية والمسؤول السابق في وزارة الخارجية والدبلوماسي الأميركي السابق، “بالنسبة لإيران، لا يعدو كونه خروجا من العزلة الدبلوماسية. أما بالنسبة للصين، تعزّز انخراطها في المنطقة وتفنّد كونها مجرّد مستهلك للطاقة. وبالنسبة للسعوديين يتعلق الأمر بالأمريكيين”. ولكن محللين قالوا إن إعادة فتح العلاقات الدبلوماسية من غير المرجح أن تقلّل حاليا من التوترات الأمنية والطائفية طويلة الأمد التي قسّمت الرياض وطهران لعقود وأثارت منافستهما على الهيمنة الإقليمية.
وانقطعت العلاقات بين البلدين في عام 2016 بعد اجتياح السفارة السعودية في طهران وسط احتجاجات على إعدام رجل دين شيعي بارز من قبل الحكومة السعودية. ومنذ ذلك الحين، مثّل الصّدع الإيراني السعودي الانقسام العنيف في كثير من الأحيان بين الشيعة والسّنة الذي هيمن على الشرق الأوسط لعقود. ويدعم السعوديون والإيرانيون أطرافا متعارضة في صراعات تمتد من سوريا إلى اليمن منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
في عام 2019، كان الطرفان على شفا حرب عندما اتهمت إيران بالوقوف وراء هجمات الصواريخ والطائرات بدون طيار على حقل نفط سعودي.
وصمدت هدنة تدعمها الأمم المتحدة بين الجانبين المدعومين من السعودية وإيران في الحرب اليمنية لمدة عام تقريبًا. ولقد كسبت حكومة الرئيس بشار الأسد إلى حد بعيد الحرب الأهلية في سوريا، بمساعدة من إيران وروسيا. وأعادت الإمارات العربية المتحدة، وهي منافس آخر لإيران في الخليج الفارسي، فتح سفارتها في إيران العام الماضي وتواصل المبادلات التجارية وفتح خطوط الاتصال المفتوحة مع طهران.
ولم يتناول الاتفاق البرنامج النووي الإيراني الذي ظل مصدر خلاف بين طهران ومعظم دول العالم، بما في ذلك الصين، على مدى عقدين. وتركت العقوبات الأمريكية على إيران اقتصادها في حالة خراب، بالإضافة إلى أزمة عملات تعصف بالبلاد في الأسابيع الأخيرة. وقال مسؤولون إن الحكومة السعودية أبقت المسؤولين الأمريكيين على علم بمحادثاتها مع إيران لإعادة استئناف العلاقات الدبلوماسية التي تعود إلى محادثات عقدت في السنوات الأخيرة في بغداد وسلطنة عمان، ودعمت الجهود على أمل أن تحلّ بعض التوترات المتزايدة في الخليج. وقال مسؤولون إن الولايات المتحدة لم تشارك مباشرة في هذه المحادثات.
وفي نهاية المطاف، قال مسؤولون أمريكيون إن الهدف هو منع أي هجمات أخرى ضد المملكة العربية السعودية، بما في ذلك هجمات الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. ويعتقد المسؤولون أن إيران كان لها حافز للانضمام إلى المحادثات لأنها تريد تخفيف الضغط السياسي والاقتصادي المتزايد في الداخل، ويأملون أن أي اختراقات دبلوماسية مع جيرانها المباشرين قد تساعد.
وقال مسؤولون أمريكيون إن الشهرين المقبلين، إلى حين إعادة فتح السفارتين رسميا، سيكونان حاسمين في قياس مدى جدية طهران في احترام الاتفاق. “هذا ليس نظامًا يوفي بوعوده، لذلك نأمل أن يفعل ذلك”، يقول المنسق الاستراتيجي لمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، للصحافيين يوم الجمعة الماضي. “نود أن نرى نهاية للحرب في اليمن وأن هذا الاتفاق قد يساعد في الوصول إلى هذه النتيجة”. وأضاف كيربي: “الأمر لا يتعلق بالصين. ونحن نؤيد أي جهد لتهدئة التوترات في المنطقة. نعتقد أن هذا في مصلحتنا، وهو أمر عملنا عليه بواسطة مزيج فعال من الردع والدبلوماسية”.
ويمثل دور الصين في المحادثات لحظة بداية لطموحات بكين في المنطقة، وهي المنطقة التي شنّت فيها الولايات المتحدة حربا وأنفقت مئات المليارات من الدولارات لتوفير الأمن للحلفاء. إلى جانب تدخل روسيا في الحرب الأهلية السورية، تعد دبلوماسية الصين علامة أخرى على تراجع نفوذ الولايات المتحدة. وعززت الصين علاقاتها بالمملكة العربية السعودية وإيران في السنوات الأخيرة بعدما أصبحت المستورد الرئيسي لنفط الشرق الأوسط، ولكن بدت طموحاتها تجارية منذ أمد طويل ولم تبد اهتماما يذكر بالتورط في نزاعات المنطقة.
ووفرت بكين شريان حياة لإيران التي فرضت عليها العقوبات، لتصبح المشتري الرئيسي المتبقي للنفط الخام منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في عام 2018. لكنها سعت أيضا إلى توثيق العلاقات بالمملكة العربية السعودية، المنافس الإقليمي لإيران، التي تعد أكبر شريك تجاري لها وأكبر مشتر للنفط. كما بدأت الرياض في استيراد تقنية منظومة الصواريخ الحساسة من الجيش الصيني.
وتشعر طهران بقلق متزايد من أن تؤدي علاقات بكين المتنامية مع السعودية إلى مزيد من العزلة. وأثارت زيارة شي جين بينغ إلى الملكة العربية السعودية في ديسمبر رد فعل عنيفا في إيران، بعد أن انضمت بكين إلى بيان عربي يدعو طهران إلى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن برنامجها النووي.
وكانت القمة الخليجية الصينية التي انعقدت في الرياض في ديسمبر عاملا رئيسيا في زيادة اهتمام بكين بتهدئة التوترات بين الرياض وطهران، حسبما قال أيهم كامل، رئيس منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة أوراسيا الاستشارية للمخاطر السياسية، ووصف ذلك بأنه “فوز سريع يظهر إطارًا جديدًا” للتعاون بين الصين والشرق الأوسط.
وأضاف أن قدرة الصين على التوسط في اتفاق بين دولتين كبيرتين في الشرق الأوسط “تفتح المجال لظهور بكين كقوة دبلوماسية رئيسية في المنطقة”. وقال آرون ديفيد ميلر، المفاوض الأمريكي المخضرم في الشرق الأوسط، إن الصفقة تظهر تنامي القُوَى الصغرى التي تعيد التكيف مع عدم أولوية واشنطن في المنطقة. “يرى السعوديون مستقبلاً متعدد الأقطاب مع الصين وروسيا كشركاء مهمين، أصدقاء مستبدّين لا يتساءلون عن حقوق الإنسان”، يقول ميلر، وهو الآن باحث بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدّولي. “لكنها أيضًا صفعة حقيقية في وجه بايدن. في الوقت الذي تزداد فيه العلاقات الأمريكية الصينية برودة، أصبح محمد بن سلمان أكثر راحة مع بكين”.
وقد ظهر التقارب المتزايد بين إيران التي يقودها الشيعة والدول السنية الرائدة في المنطقة رغم الجهود الأمريكية لعزل طهران اقتصاديا ودبلوماسيا. وفي ظل إدارة ترامب، انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015 الذي توصل إليه الرئيس السابق باراك أوباما، واستعادت العقوبات وعادت إلى الجهود الرامية إلى خنق صادرات النفط الإيرانية وخنق اقتصادها.
وقال مسؤولون سعوديون لمسؤولين أمريكيين، بعد مدّة وجيزة من تولي إدارة بايدن السلطة في عام 2021، إنهم يعتزمون مواصلة تحسين العلاقات مع طهران، ولم تبد الولايات المتحدة أي اعتراض مع أنّها لا ترى احتمالا يذكر للتقارب، حسبما قال مسؤولون أمريكيون. أبقى البيت الأبيض على معظم العقوبات وشرع في جهوده الخاصة لاستعادة الاتفاق النووي. ولكن بعد حملة القمع القاسية التي شنتها إيران على المتظاهرين المناهضين للحكومة في الخريف الماضي، تم تعليق المحادثات.
بالنسبة لطهران، فإن التقارب مع المملكة العربية السعودية يكسر رسمياً تحالف الضغط الأقصى المناهض لإيران، مما يوفر لها عزلة أقل مع إمكانية المشاركة الاقتصادية. بالنسبة للرياض، فإنه يُظهر تحولًا نحو الإدارة المباشرة لتوتّراتها على مستوى ثنائي بدلاً من الاستعانة بمصادر خارجية”، يقول سنام وكيل، نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تشاتام هاوس، وهو مركز بحوث مقره لندن.
تستعيد إيران والمملكة العربية السعودية العلاقات في وقت تحاول فيه الولايات المتحدة التوسط في اتفاق سلام بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، ما من شأنه أن يضيف قيمة إلى العلاقات المتنامية بين إسرائيل والعالم العربي. إيران منافس لإسرائيل، وتعارض صفقات التطبيع وتشن حربا سرية ضد البلاد. وقد تبنّت بعض الدول العربية علاقات تطبيع مع إسرائيل جزئيا لتبادل المعلومات الاستخباراتية حول إيران، وكانت هناك آمال منذ مدة في واشنطن لما يسمى بحلف شمال الأطلسي العربي الذي من شأنه مواجهة إيران. وفي إسرائيل، قبل الإعلان باستياء أن “الصفقة السعودية الإيرانية هي فشل كامل للسياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية”، قال يائير لبيد، زعيم المعارضة، “إنه انهيار جدار دفاعي إقليمي بدأنا في بنائه ضد إيران”.
المصدر: وكالات