قال الوزير الأسبق عبد الكريم ابنو عتيق إن عودة فلاديمير بوتين إلى الحكم عجّلت بطرح تساؤلات داخل أوساط الطبقات الحاكمة في الاتحاد الأوروبي، التي تعيش نوعا من الانقسام في التعاطي مع التحديات المطروحة، مشيرا إلى خلافات جوهرية عالقة؛ وهو ما سمح لروسيا باستغلالها لإضعاف بروكسيل، بهدف خلق انشقاقات داخل الجبهة الداخلية للاتحاد الأوروبي.
واستحضر ابنو عتيق، ضمن مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”أوروبا من التطور الاقتصادي إلى الدخول في مرحلة الاستعداد للحرب”، جملة من المؤشرات والمعطيات التي تبرز انكباب الخبراء وصناع القرارات الاستراتيجية وقادة الجيوش وأرباب الشركات المختصة في صناعات الأسلحة على التحضير لمرحلة الحرب.
نص المقال:
منذ اندلاع المواجهة العسكرية الروسية الأوكرانية والاتحاد الأوروبي يعيش نقاشات صعبة ومعقدة تتعلق في مجملها بمصير القارة العجوز التي عادت إلى أجواء الحرب، بعد قطيعة دامت أكثر من 80 سنة؛ وهو ما يهدد مستقبل أكثر من 746 مليون نسمة، منها 448 مليون نسمة تعيش داخل الاتحاد الأوروبي.
عودة بوتين إلى الحكم – بالرغم من أنه لم يغادر قصر الكرملين- من بوابة الانتخابات الرئاسية عجلت بطرح تساؤلات استراتيجية كبرى داخل أوساط الطبقات الحاكمة في الاتحاد الأوروبي، والتي تعيش نوعا من الانقسام في التعاطي مع التحديات المطروحة، بالرغم من سيادة حد أدنى من الوحدة في المواقف بين المكونات الأساسية، إلا أن خلافات جوهرية ما زالت عالقة من الصعب حسمها بشكل نهائي؛ وهو ما سمح لروسيا باستغلالها لإضعاف بروكسيل، بهدف خلق انشقاقات داخل الجبهة الداخلية للاتحاد الأوروبي.
في مقابل هذه الأجواء ذات الطابع السياسي، الخبراء وصناع القرارات الاستراتيجية وقادة الجيوش وأرباب الشركات المختصة في صناعات الأسلحة منكبون بشكل جدي على التحضير لمرحلة الحرب، حجتنا في ذلك هو بروز عدد من المعطيات تؤشر على ما ذكرناه سابقا أهمها:
1 ـ اقتناع جل القادة الميدانيين الأوروبيين بأن المنظومة العسكرية التي سادت في السنوات الأخيرة، والتي راهنت على تدبير الأزمات وليس التحضير والاستعداد للحرب العالية الكثافة « « Une Guerre de Haute Intensité، قد انتهت بمجرد دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا، بل هناك من يجزم أن البدايات الأولى قد انطلقت منذ 2014 عندما قررت موسكو ضم منطقة شبه جزيرة القُرم بالقوة.
2 ـ 18 دولة من أصل 27 بالاتحاد الأوروبي خصصت 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام للإنفاق العسكري، سابقة لم تكن واردة في الميزانيات المبرمجة في السنوات الأخيرة، ما دام أن الاستعداد للحرب لم يكن أولوية. هذا الارتفاع سينتج عنه، حسب الخبراء، توفير سيولة مالية تصل إلى 143 مليار أورو سنويا، تنضاف إلى الـ240 مليار أورو المخصصة أصلا للإنفاق العسكري.
3 ـ قيام Thierry Bretonتيري بروتون، المندوب السامي الأوروبي المكلف بالسوق الداخلية، بزيارة لمجموعة من الشركات الأوروبية المتخصصة في الصناعات العسكرية يحمل دلالات الاستعداد للحرب، هذه الجولة نتج عنها اختيار 25 مشروعا أوروبيا لدعم وتسريع إنتاج المواد الأولية والضرورية لتوفير الذخيرة الحية بتمويل كامل من بروكسيل، مع تأكيد المندوب السامي الأوروبي على أن المعامل الموجودة بالاتحاد الأوروبي مجتمعة لا تُنتج إلا مليون قذيفة سنويا، الهدف هو الوصول إلى مليونيْ قذيفة في أفق 2025، مع الإلحاح والضغط على حكومات دول الاتحاد الأوروبي للتوقيع على عقود شراء بشكل قبلي مع الشركات المنتجة للذخيرة، ضمانا وتشجيعا لها للاستمرار في الاستثمار في هذا المجال.
4 ـ الإسراع بهذه المبادرة الميدانية من طرف المندوب السامي الأوروبي ينطلق من تقارير القادة العسكريين، الذين يحتجون بصمت عن ما وقع خلال السنة الماضية؛ وذلك عندما وعد وزراء الدفاع في الاتحاد الأوروبي أوكرانيا بتزويدها بالذخيرة الحية، وأساسا القذائف من عيار 155 ملم، مع العلم أن “كييف” في حاجة إلى 200 ألف قذيفة شهريا، رقم مهول ومفاجئ ومكلف يتجاوز الطاقة الإنتاجية الأوروبية، حاليا دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة تزود أوكرانيا وبصعوبة بـ80 ألف قذيفة من هذا النوع شهريا، مع العلم أن دولة كفرنسا مثلا إنتاجها من قذائف 155 ملم لا يتعدى 2500 قذيفة شهريا، أي أقل بكثير مما تتطلبه الحرب الأوكرانية الروسية التي تستهلك يوميا أكثر من 5000 قذيفة.
5 ـ التفكير في إدماج الخيار النووي التكتيكي ضمن الخيارات العسكرية الميدانية كجواب على روسيا التي لوحت بهذه الورقة منذ اندلاع حربها مع أوكرانيا، الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تكلفت بها فرنسا التي تعتبر القوة النووية الأولى أوروبيا؛ وذلك من خلال الاتفاق الذي تم توقيعه مؤخرا في 18 مارس 2024 بين وزارة الدفاع الفرنسية وشركة الكهرباء الفرنسية، « EDF » ، والقاضي باستغلال المحطة النووية “دو سيفو” « de Civaux » الموجودة بجهة “نوفيل أكتين” بمدينة “فيان « vienne » الفرنسية قصد إنتاج مادة “ترتيوم” « Tritium» الأساسية للقنابل النووية.
6 ـ التخطيط للعودة إلى أشكال التعبئة المجتمعية الشاملة وعدم ترك النقاش الاستراتيجي حبيس النخب السياسية داخل المؤسسات، من هنا ارتفعت أصوات تطالب بإعادة الخدمة العسكرية مع تكييفها لتساير التطورات الحاصلة في المجتمعات الأوروبية؛ وذلك بالاستفادة من بعض التجارب الناجحة في هذا المجال مثل تجربة المغرب التي تتابعها بعض الأوساط الأوروبية عن قرب، والتي استطاعت الجمع بين التكوين العسكري والاندماج المهني؛ مما ساعد على خلق جاذبية لدى أوساط الشباب. الخلفيات الاستراتيجية لمثل هذه القرارات هي وضع خطط لتكوين وحدات ميدانية قادرة على الانتشار بسرعة للحفاظ على الاستقرار وتأمين المؤسسات الحساسة في حالة نشوب مواجهات عسكرية، ولما لا دعم الجبهات الميدانية.
7 ـ الشروع في التفاوض والتنسيق في مجال التسلح والفعالية الميدانية بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا التي عرفت ميزانيتها العسكرية ارتفاعا وصل في هذه السنة إلى 50 مليار جنيه إسترليني، أي 2,1 في المائة من الناتج الداخلي الخام، مع إعادة النظر في القوانين الأوروبية التي تعيق تطور الصناعات العسكرية، نظير منع استعمال الدرونات في المجال الأوروبي في التجارب الضرورية لصناعتها كتلك المتعلقة بالدرونات الانتحارية، « les drones kamikazes » ، مما يحتم على العديد من الشركات البحث عن أماكن بديلة في إفريقيا أو أعالي البحار قصد القيام بتجاربها، بعيدا عن الاحتكاك بالجيوش الميدانية التي هي في حاجة ماسة إلى اكتساب خبرات في هذا المجال الذي أصبح حيويا وأساسيا في الحروب الحديثة.
8 ـ الضغط وباستعجال على الشراكة الألمانية الفرنسية والمكونة من شركة « KM » الألمانية و« Nexter » الفرنسية قصد الإسراع في إنجاز دبابة المستقبل لتعويض “ليوبارد2″ « léopard2 » الألمانية و”لوكلير” « Leclerc » الفرنسية، مع إقناع الفاعل الإيطالي ” ليناردو” « Leonardo » للالتحاق بالمشروع، مع التذكير أن ألمانيا تعيش خصاصا كبيرا في قطاع المدرعات بعد تزويد أوكرانيا بعدد كبير من دبابات ” ليوبارد 2″. أما فرنسا فوتيرة تحديث أسطولها في هذا القطاع يخيف القادة العسكريين الفرنسيين؛ فمن خلال قانون البرمجة العسكرية الذي تعتمده المديرية العامة للأسلحة لفرنسا « DGA » ، والذي يمتد من 2024 إلى 2030، فإن الجيش الفرنسي لن يستطيع التوصل إلا بـ160 دبابة “لوكلير” من أصل 200 تعرضت للإصلاح والترميم والتجهيز بمعدات حديثة تساير تطور الدبابات الروسية والأمريكية. كل هذا يأتي في سياق عودة كونية للتسلح بوتيرة سريعة، فالإنفاق العسكري على المستوى العالمي وصل إلى 2200 مليار دولار سنة 2023، بارتفاع تعدى 9 في المائة بالمقارنة مع سنة 2022؛ وهو ما أدى إلى ازدهار قطاع الصناعات الحربية على حساب مجالات إنتاجية مدنية. هذا القطاع يوفر مداخيل مهمة لمجموعة من الدول؛ مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي وصلت مبيعاتها إلى 153 مليار أورو، متبوعة بفرنسا التي استطاعت الوصول إلى أكثر من 29 مليار أورو بفضل صفقتها التاريخية مع الإمارات العربية المتحدة المتمثلة في بيع 80 طائرة رافال، ثم كوريا الجنوبية التي صدرت أكثر من 17 مليار أورو، وإسرائيل التي تموقعت هذه السنة ضمن لائحة المصدرين في المرتبة الرابعة بـ12.5 مليارات أورو ثم بريطانيا بـ11 مليار أورو، وروسيا بـ10,8 مليارات أورو ثم ألمانيا بـ 9,9 مليارات أورو.
9 ـ تخوف الاتحاد الأوروبي من وصول ترامب إلى الحكم من خلال الانتخابات الأمريكية المقبلة مواقفه معروفة من الحلف الأطلسي، يعتبر هذه المظلة مكلفة للولايات المتحدة الأمريكية، جزء كبير من القادة الأوروبيين مقتنعون بأنه لن يُفَعّل البند الخامس من ميثاق الحلف الأطلسي في حالة تعرض بلد عضو لهجوم عسكري، بل هناك من يتعدى ذلك إلى اعتبار ترامب قادر على فتح مفاوضات مع بوتين في أفق هندسة كونية جديدة، هذا التخوف دفع بأكثر من 18 دولة عضو في حلف الناتو إلى تبني قرار تخصيص 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام للإنفاق العسكري، وهي من بين الشروط التي ألح عليها البيت الأبيض إبان حكم ترامب.
10 ـ اجتماع أعضاء الاتحاد الأوروبي على أعلى مستوى يوم الخميس 21 مارس 2024 ببروكسيل اعتبره البعض بمثابة مجلس حرب، حصلت خلال الاجتماع قناعة شبه مشتركة لدى رؤساء دول الاتحاد الأوروبي، مفادها أن روسيا لن تتوقف عند أوكرانيا بل ستتعداها إلى دول أوروبية أخرى؛ وهو ما عجل بطرح فكرة قرض جماعي لتمويل تكاليف التحضير للحرب مع روسيا وتوفير الدعم العسكري “لكييف”، مع العلم أن روسيا قد دخلت فعليا وعمليا في مرحلة اقتصاد الحرب، فهي تخصص حاليا 15 مليار أورو في الشهر لمواجهة متطلبات الحرب، بحيث تعدت نسبة ميزانية الدفاع 6 في المائة من الناتج الداخلي الخام .
المصدر: وكالات