قال الوزير السابق عبد الكريم ابنو عتيق إن ما يجتازه العالم العربي اليوم، بعد توالي الأزمات منذ 1948، يجب أن يتحول إلى إرادة جماعية للتغيير الذي لن يتم بالشعارات أو بسلخ الذات، ولا بالتطرف الخطابي، لكن بصياغة مشروع جماعي جديد مغاير لما هو موجود.
وتساءل ابنو عتيق، في مقال له، عن مدى إمكانية الإصلاح في العالم العربي، مسلطا الضوء على عدد من الجوانب السلبية والأخرى الإيجابية التي يتميز بها العالم العربي، قبل أن يستعرض المؤشرات الدالة على أن الظروف متوفرة لفتح نقاش حول الشروع في التفكير لخلق نواة أولية، من مهامها التحضير والتخطيط والإشراف على نقاش استراتيجي هادئ لصياغة وثيقة تحدد الملامح الأولى لدفاع مشترك.
هذا نص المقال:
يجتاز العالم العربي من جديد محنة أخرى صعبة ومعقدة، تنضاف إلى الأزمات التي مر منها وهي كثيرة، بدءاً من نكسة 1948، ثم هزيمة 1967، فالانتصار النسبي سنة 1973، مرورا بكل الانتفاضات وما تخللها من إبادات ومآسي مازالت تلقي بظلالها على القضية الفلسطينية ومن خلالها كل أطراف الوطن العربي.
وكما هو متداول في المقاربات الاستراتيجية التي تتعاطى مع الأزمات من أجل فهمها وتفكيك كل الخيوط المضمرة وغير الواضحة فيها، ومن ثم اقتراح قراءة قادرة على خلق شروط التجاوز برؤية مستقبلية، ذلك أن كل أزمة إلا وتحمل في طياتها بذور التجاوز، يكفي التوفر عل ذكاء التفكير الاستباقي المهيأ لاستيعاب الصدمات وتحويلها إلى مشروع قابل للتنزيل.
هذه التوطئة الغرض منها القول إن ما نجتازه اليوم يجب أن يتحول إلى إرادة جماعية للتغيير، الذي لن يتم في اعتقادنا المتواضع بالشعارات أو بسلخ الذات، ولا بالتطرف الخطابي، لكن بصياغة مشروع جماعي جديد مغاير لما هو موجود.
معطيات أولية من أجل التذكير فقط
العالم العربي يتوفر على مساحة جغرافية مهمة وأساسية في أي مبادرة للتنمية المشتركة، ذلك أن الامتداد الجغرافي يصل إلى أكثر من 13 مليون كلم مربع، بالمقارنة مع تكتلات وقوى أخرى، نجد أن الاتحاد الأوروبي تصل مساحته إلى 10,53 مليون كلم مربع، والولايات المتحدة الأمريكية تصل مساحتها إلى 9,843 مليون كلم مربع، والصين تمتد مساحتها على 9 ملايين كلم مربع، أما روسيا فلها مساحة شاسعة تصل إلى 17 مليون كلم مربع.
أما على المستوى الديمغرافي الذي يعتبره أهل الاختصاص ركيزة أساسية من ركائز التفوق الاقتصادي، فالوطن العربي يصل عدد سكانه تقريبا إلى 429 مليون نسمة، والاتحاد الأوروبي 446 مليون نسمة، بخلاف روسيا التي بالرغم من الشساعة الجغرافية، إلا أن عدد السكان لا يتعدى 145 مليون نسمة.
نحن العرب لدينا أقدم منظمة إقليمية، فالجامعة العربية تأسست في مارس 1945، في حين إن الوحدة الأوروبية لم تنطلق، وفي مرحلتين، إلا سنة 1951 بمبادرة الفحم والفولاذ، وفي المرحلة الثانية سنة 1957 بميثاق روما، الذي هيأ الآليات الأولى للمجموعة الاقتصادية الأوروبية، بل إن منظمة الحلف الأطلسي لم تخرج إلى الوجود إلا سنة 1949، بمبادرة أمريكية مرفقة بكندا وعشرة دول أوروبية، أما البرلمان الأوروبي الذي يساهم حاليا في صناعة التشريع وقوانين الاتحاد الأوروبي، لم يظهر كفكرة إلا سنة 1958، وانطلق بشكله الحالي سنة 1962.
في مقابل ذلك، العالم العربي يعرف أكبر نسبة للأمية، تتجاوز 70 مليون فرد، معظمهم من النساء والأطفال، كما أن اقتصادنا منكمش بالمقارنة مع التكتلات الأخرى، فالدول العربية مجتمعة لا تصدر إلا 200 مليار دولار سنويا، بما فيها براميل البترول، للمقارنة فصادرات الدانمارك تتعدى 174 مليار دولار، وكوريا الجنوبية تصل صادراتها إلى 320 مليار دولار، وتركيا وحدها تتجاوز 254 مليار دولار، حتى التبادل التجاري ضعيف بين الدول العربية بحيث لا يتعدى 11%، في حين إن الرواج التجاري بين أعضاء الاتحاد الأوروبي يصل إلى 47%.
أضف إلى هذا أن منطقتنا العربية مهددة في أمنها الغذائي، فالواردات في هذا المجال تصل في بعض الأحيان إلى 60%، ذلك أن استيراد الحبوب يثقل كاهل ميزانيات الدول العربية بحيث يصل إلى 20,8 مليار دولار سنويا، فدولة مصر مثلا تشتري سنويا 10 ملايين طن من الحبوب، أي إنها المستورد رقم واحد في العالم، بعكس دول أخرى حسمت بشكل كبير في إشكالية الأمن الغذائي، فالصين تنتج 130 مليون طن من الحبوب، والهند 80 مليون طن، وروسيا 58 مليون طن، والولايات المتحدة الأمريكية 60 مليون طن، وأوكرانيا 30 مليون طن قبل الحرب، حاليا الإنتاج يصل إلى 20 مليون طن، بل إن أستراليا لوحدها تنتج ما تنتجه مجموع الدول الإفريقية، أي 37 مليون طن.
هذه الوضعية جعلت الدول العربية على رأس قائمة الدول المدعمة للمواد الأساسية بنسبة تصل في بعض الأحيان إلى 5.8% من الناتج الداخلي الخام، هو خيار معروف في الاستراتيجيات الاقتصادية، يخدم من يتحكم في الأسواق ويسمح له بتحقيق الربح السريع على حساب تقوية الإنتاج الوطني، جل هؤلاء تحولوا إلى وسطاء أساسيين في سياسة الاستيراد التي تنهجها كل الدول العربية، بل منهم من هو مساهم مباشر في صناعة القرارات القانونية التي توفر الغطاء السياسي لكل اللوبيات المختصة في احتكار بعض المواد الأساسية.
تضاف إلى هذه الجوانب السلبية، مؤشرات أخرى خطيرة، تتعلق بعدم بالاستقرار الذي ينخر جسم بعض الدول العربية مثل ليبيا وسوريا واليمن والسودان، وأخرى تعرف ضعفا في هياكلها مثل العراق، ثم فشل الربيع العربي في تحقيق حلم الشارع في التأسيس لمشروع ديمقراطي يسمح ولو بالتدرج باقتسام السلطة والتداول على صناعة القرار السياسي، بل أصبحنا مهددين بالبلقنة، وتحول العالم العربي في كل الأزمات، على خلاف فضاءات أخرى، إلى مساحات للحضور المصالحي الوازن للكبار مثل روسيا والصين، وهدفا سهلا لتوغل القوى الفاعلة إقليميا في الأحداث الجيو-استراتيجية مثل إيران وتركيا.
هل الإصلاح ممكن؟
في اعتقادنا، الإصلاح ممكن للاعتبارات التالية:
بروز أجيال عربية قادرة على التعامل مع الماضي ومع الأزمات بدون عقد.
السياق الكوني الحالي يتميز بالهشاشة والخوف من القادم، هو في صالح العالم العربي إذا أحسنا التعامل مع التعقيدات.
بروز صراع استراتيجي بين الكبار يسمح بالتموقع شريطة صياغة حد أدنى جماعي للتفاوض مع الآخر.
تقوية هذا المنحى يقتضي تهيئة الظروف للانتقال نحو الديمقراطية التمثيلية كما هو متعارف عليها كونيا، في احترام تام للإرادة المعبر عنها بواسطة صناديق الاقتراع، وحدها القادرة على تأطير الحقل السياسي وعلى تحصين عملية التداول السلمي على السلطة، عندما تكون هذه الإرادة متوفرة، تبقى الخصوصيات مجرد آلية قادرة على التكيف مع المرجعية الأم بشكل تدريجي، يأخذ بعين الاعتبار الصعوبات ويتعامل معها من منطق التحكم الجماعي في تدبير الزمن السياسي.
شرط الانتقال السلس نحو تبني الديمقراطية التشاركية الخاصة بكل بلد عربي، يجب أن يكون مقرونا على المستوى القومي بإصلاح مؤسساتي من داخل المنظومة الموجودة حاليا، أي الجامعة العربية، باعتماد ميثاق جديد يؤسس لاتحاد دول عربية يقوم مقام الهيئة المذكورة سلفا، يتكون من مجلس أعلى يضم رؤساء وملوك الدول، يجتمع بشكل دوري في اجتماعات عادية، وأخرى استثنائية، حسب الظروف مع إلزامية حضور الرؤساء والملوك لا من يمثلهم، كما هو معمول به في كل الإطارات الوحدوية الجدية، تتم مناقشة جدول اجتماع محضَّر سلفا، كل النقاشات تكون مغلقة، لا تسريب لمضامينها إلا بواسطة بيان ختامي يتم الاتفاق عليه بالإجماع، بموازاة ذلك ضروري الإنهاء بشكل قطعي مع ظاهرة المؤتمرات العربية، تكوين لجنة بالتساوي للمتابعة بين الدول أعضاء الاتحاد مكلفة بمهمة التنفيذ، مع تعين منسق مكلف بالعلاقات الدولية لسنتين، لا دخل له في المجالات السيادية، دوره التعبير والدفاع عن المواقف والقضايا الوحدوية المشتركة، وانتخاب بالاقتراع المباشر برلمان عربي، يمثل الشعوب العربية لمدة خمس سنوات، ثم إطلاق بنك عربي للاستثمار برأسمال ثابت، يشكل الذراع المالية للاتحاد العربي ترأسه شخصية مالية لمدة أربع سنوات منفتح على الرساميل العربية الخاصة، له ثلاثة أهداف:
تمويل فلاحة عصرية هدفها تحقيق الاكتفاء الذاتي للخروج من أزمة الأمن الغذائي، المدخل الوحيد لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي.
تمويل الصناعات ذات القيمة المضافة.
تمويل البحث العلمي.
تأسيس المحكمة العربية العليا، لا تمس بالسيادة القضائية للدول، ينحصر عملها في البداية في خلق ثقافة الوساطة والتحكيم في النزاعات العربية-العربية.
بعد ذلك، ضرورة الانتقال نحو اكتساب وعي جماعي، يتمثل في أن الحضور في قلب القضايا الدولية الحساسة لن يتحقق إلا بالتفكير في تبني عقيدة للدفاع المشترك، حتى لا نكرر أخطاء الاتحاد الأوروبي الذي يحتاج دائما إلى المظلة الأمريكية، هذا التحدي ليس حلما غير قابل للتحقيق، حجتنا في ذلك استنطاق الأرقام التي نتوفر عليها، فعدد القوات العربية العاملة، وليس الاحتياطية، يصل إلى 2 مليون و400 ألف فرد، وهي أعلى قوة عسكرية في العالم، متبوعة بالقوات الصينية التي يصل عددها إلى 2 مليون جندي، ثم القوات الأمريكية التي تصل إلى مليون و380 ألف، والقوات الهندية بمليون و45 ألف جندي، ثم روسيا بمليون و15 ألف جندي. الدول العربية حاضرة كذلك بقوة في ميزانيات التسليح، فالسعودية هي خامس دولة في العالم من حيث الانفاق العسكري بـ75 مليار دولار، قبلها الولايات المتحدة الأمريكية بـ 870 مليار دولار، والصين بـ 292 مليار دولار، وروسيا بـ 86 مليار دولار ثم الهند بـ80 مليار دولار، بل إن 13 دولة عربية من أصل 22 تصل ميزانيتها مجتمعة إلى 137 مليار دولار سنويا.
هذه المعطيات المتوفرة لدى المؤسسات الدولية المختصة، تظهر أن الظروف متوفرة لفتح نقاش حول الشروع في التفكير لخلق نواة أولية من مهامها التحضير والتخطيط والإشراف على نقاش استراتيجي هادئ لصياغة وثيقة تحدد الملامح الأولى لدفاع مشترك، هذه الأرضية يجب أن تكون منفتحة قصد الاستفادة من التجارب الصاعدة في مجال الصناعات العسكرية، كحالة تركيا وكوريا الجنوبية، مع التركيز للوصول على مدى خمس سنوات المقبلة إلى الاتفاق على أرضية ميدانية لانطلاق قوة عسكرية مشتركة على مراحل، تبدأ بـ20 ألف جندي، لكي تصل مع مرور الوقت إلى 50 ألفا، تشتغل تحت قيادة يختارها اتحاد الدول العربية من بين رجال ونساء القوات العسكرية العربية المشهود لهم بالكفاءة والقدرة على التأطير الميداني.
ما ذكرناه في هذا المقال يمكن أن يعتبر شكلا متواضعا لخريطة طريق قابلة للتنفيذ، فالوحدة الأوروبية كتجربة هي الأقرب لنا كعالم عربي، فضاء عرف كيف يجعل من مأساة الماضي سلاحا لمواجهة التحديات المطروحة، عندما رفض الرئيس الفرنسي الجينرال دوغول انخراط بريطانيا في المشروع الوحدوي الأوروبي، لم يتوقف العمل الوحدوي، بالرغم من ثقل الإنجليز في القارة الأوروبية آنذاك، ترك القادة المسألة لعامل الزمن، لم يحسم الإشكال إلا بعد وفاة دوغول، فتم قبول لندن سنة 1973 إبان حكم الرئيس بومبودو، الذي تخلى عن الفيتو الفرنسي، عندما طُرح النقاش حول فكرة إدماج الديمقراطيات الأوروبية الفتية والصاعدة آنذاك مثل اسبانيا والبرتغال في الاتحاد الأوروبي، كانت هناك معارضة شديدة لكن بنقاشات داخلية تم الحسم في الخلاف باعتماد عنصرين أساسيين، استحضار مأساة الماضي القريب للقارة الأوروبية الذي تحول إلى مرجعية جعلت من صناعة المستقبل إرادة جماعية، ثم نهج بيداغوجية الحوار لا الاصطدام والقطيعة.
المصدر: وكالات