يرى الوزير السابق عبد الكريم ابنو عتيق، أن جل الخبراء الدوليين يعتبرون أن السلاح النووي كان عنصرا أساسيا في تجنب العالم لحروب كونية كبرى مدمرة، تحول إلى ورقة تفاوض، بل ساعد على خلق نوع من التفاهم بين الكبار، نظرا لثقله السياسي والاستراتيجي، لا سيما عندما يحتدم الصراع بين المكونات الأساسية المتحكمة في الهندسة الكونية.
وتناول ابنو عتيق، عضو مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية، في مقال له، بعنوان “امتلاك السلاح النووي، شرط أساسي لإحلال السلم الدائم بالقارة الأوروبية”، النقاش المصحوب بالقلق حول خطورة التلويح باستعمال السلاح النووي، الذي يعتبره جزء كبير من الخبراء، مؤشرا على نهاية الفترة الانتقالية التي جاءت بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، بل هو تهديد حقيقي قد يعصف بكل المجهودات التي بذلتها الأمم المتحدة في هذا المجال، سعيا منها لتوفير شروط استقرار العالم وحماية البشرية من حروب مدمرة.
وشدد الكاتب المغربي، على أن الحرب الروسية الأوكرانية أعادت إلى واجهة النقاش مسألة الضغط النووي، ليس فقط داخل القارة العجوز، بل امتد حتى إلى القارة الآسيوية، لافتا إلى أن “واشنطن منزعجة من القوة النووية للصين التي تهدد مصالحها وتواجدها في المنطقة، وهو ما دفع بدول وازنة في آسيا إلى طرح النقاش حول قدرة المظلة الأمريكية على توفير الحماية الضرورية في حالة نشوب مواجهة عسكرية مع بيكين، لمجموعة من الدول تعتبر نفسها ضمن المعسكر المتحالف مع واشنطن، من بينها اليابان وكوريا الجنوبية، اللتان تتوفران على كل الإمكانيات العلمية والمادية لتطوير قدراتهما النووية”.
نص المقال:
عودة النقاش المصحوب بالقلق حول خطورة التلويح باستعمال السلاح النووي، اعتبره جزء كبير من الخبراء، مؤشرا على نهاية الفترة الانتقالية التي جاءت بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، بل هو تهديد حقيقي قد يعصف بكل المجهودات التي بذلتها الأمم المتحدة في هذا المجال، سعيا منها لتوفير شروط استقرار العالم وحماية البشرية من حروب مدمرة.
دون الدخول في تفاصيل كل المبادرات الأممية الرامية إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية، والتي تشكل في هذا المجال المرجعية الأساسية على مستوى القانون الدولي، يهمنا هنا الوقوف عند لحظة مفصلية أممية لم تتعامل معها آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية بإدراك مستقبلي عميق، معتبرة نهاية الاتحاد السوفياتي فرصة ذهبية للسيطرة على العالم بشكل أحادي، هذا الحدث أو هذه اللحظة، تتمثل في الاتفاقية الأممية للحد بشكل نهائي من التجارب النووية «traite d’interdiction complète des essais nucléaires» (TICEN) ، والذي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 سبتمبر 1996، لكن الاتجاه المتشدد في واشنطن آنذاك أقنع الكونغرس بعدم الموافقة على هذه الاتفاقية، وهو ما وقع في أكتوبر 1999، مباشرة بعد هذا القرار، ستقع تحولات كبرى على المستوى الكوني، أبرزها سياسيا وصول بوتين إلى الحكم في روسيا سنة 2000، وبعدها أي سنة 2001، دخول جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض محاطا برموز الاتجاه المحافظ داخل الولايات المتحدة الأمريكية، الرئيس الروسي الجديد بوتين لم يكن يسعى إلى خلق شروط التفاهم حول القضايا الحساسة والاستراتيجية، بقدر ما كانت له رغبة لإعادة روسيا لموقعها السابق كقوة أساسية في المعادلات الإقليمية والكونية، لن يتم هذا في نظر بوتين، إلا بتطوير الاقتصاد وإعادة هيكلة الجيش، والحفاظ على الصناعات العسكرية مع تحصين المكتسبات النووية كورقة رئيسية للتفاوض مع الغرب.
جواب الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الابن جاء سنة 2002 ، عندما أكد أن التفوق الأمريكي الاستراتيجي يجب أن يكون شاملا وكاملا يهم كل القطاعات المدنية والعسكرية، ما وقع من تحولات منذ سنة 2000 إلى يومنا هذا، أثبت صحة القناعات والأطروحات التي لم تكن متفائلة لمرحله ما بعد الحرب الباردة، لا سيما تلك التي كانت مقتنعة بأن السلاح النووي لدى الكبار أصبح جزءا من المنظومة العسكرية لهذه الدول، المساس به هو إخلال بالتوازنات الكبرى، بدليل أن الترسانة النووية لم تتغير، فحسب إحصائيات سنة 2023 ، روسيا مازالت تتوفر على 5899 من الرؤوس النووية، متبوعة بالولايات المتحدة الأمريكية بـ 5244 رأسا نوويا، ثم الصين ب 410 رؤوس نووية، ففرنسا بـ 290 رأسا نوويا، ثم بريطانيا ب 225 رأسا نوويا، فباكستان بـ 170 رأسا نوويا، ثم الهند بـ 164 رأسا نوويا، فإسرائيل بـ 90 رأسا نوويا، وبعدها كوريا الشمالية بـ 30 رأسا نوويا.
عندما يطرح النقاش من طرف الغرب حول مسؤولية روسيا وتملصها من الالتزامات الدولية كقوة نووية أساسية، الخبراء في موسكو يعودون دائما إلى الوراء محملين المسؤولية، في انتشار الأسلحة النووية لواشنطن، منطلقين من وقائع تقوي حجتهم في هذا المضمار، أهمها الدعم التي تلقته إسرائيل عندما سمحت واشنطن لفرنسا بمساعده تل أبيب للحصول على السلاح النووي، بل وافقت لإسرائيل باستيراد المواد المحظورة من شركات أمريكية، ثم عدم اعتراضها على ضرب المفاعل النووي العراقي خوفا من توازن إقليمي محتمل، ومعلوم أن الضوء الأخضر الأمريكي لإسرائيل انطلق منذ الاتفاق السري بين الرئيس الأمريكي “نيكسون” ورئيسة الوزراء “كولدا مايير ” في سبتمبر 1969، وقد ربطت واشنطن موافقتها في تلك الفترة، بشرط عدم تهديد إسرائيل لجيرانها بالسلاح النووي، والاقتصار على التفوق العسكري المعتمد على الأسلحة الكلاسيكية، هذا ما يفسر غياب مفهوم الردع النووي في العقيدة العسكرية العبرية، والذي مازال إلى يومنا هذا من المسكوت عنه داخل الجيش الإسرائيلي والطبقة السياسية الحاكمة.
كل الخبراء يعتبرون أن السلاح النووي كان عنصرا أساسيا في تجنب العالم لحروب كونية كبرى مدمرة، تحول إلى ورقة تفاوض، بل ساعد على خلق نوع من التفاهم بين الكبار، نظرا لثقله السياسي والاستراتيجي، لا سيما عندما يحتدم الصراع بين المكونات الأساسية المتحكمة في الهندسة الكونية.
الحرب الروسية الأوكرانية أعادت إلى واجهة النقاش مسألة الضغط النووي، ليس فقط داخل القارة العجوز، بل امتد حتى إلى القارة الآسيوية، فواشنطن منزعجة من القوة النووية للصين التي تهدد مصالحها وتواجدها في المنطقة، انزعاج دفع بدول وازنة في آسيا إلى طرح النقاش حول قدرة المظلة الأمريكية على توفير الحماية الضرورية في حالة نشوب مواجهة عسكرية مع بيكين، لمجموعة من الدول تعتبر نفسها ضمن المعسكر المتحالف مع واشنطن، من بينها اليابان وكوريا الجنوبية، اللتان تتوفران على كل الإمكانيات العلمية والمادية لتطوير قدراتهما النووية، مستحضرين حالة أوكرانيا التي كانت في بداية التسعينات متحفظة على قرار تحويل كل الرؤوس النووية المتواجدة بترابها نحو روسيا، مفضلة الحفاظ على بعض منها كأوراق ضغط على موسكو، إلا أن المبعوث الأمريكي آنذاك المكلف بتدبير الملف النووي من طرف الرئيس بوش الأب “هيتر ولسن”، والذي كان في الوقت نفسه عضوا بمجلس الأمن القومي الأمريكي، كان له رأي آخر مخالف للطبقة السياسية الأوكرانية، همه الوحيد هو التأكد من إدماج كل العلماء الروس، وحصولهم على مناصب مهمة ماديا بعد عودتهم من أوكرانيا إلى روسيا، خوفا من هجرة العديد منهم نحو دول أخرى لا سيما الصين، ثم إقناع الرئيس الروسي آنذاك، “يلسين” بالسرعة في اتخاذ قرار سحب تلك الرؤوس النووية من أوكرانيا، خاصة وأن بعض القادة العسكريين الروس كانوا غير متحمسين للتقارب مع واشنطن في المجال العسكري والنووي.
وبالعودة إلى النقاشات التي عرفها البرلمان الأوكراني ما بين سنة 1991 و1994، سنجد أن جزءا كبيرا من النخبة السياسية في كييف، كانت غير مطمئنة على الفراغ الاستراتيجي الذي أحدته القرار الأمريكي بإخلاء أوكرانيا من الرؤوس النووية، بل البعض اليوم يؤكد على أن الغرب لو ساعد الأوكرانيين على الحفاظ على قواتهم النووية، لما دخل الروس إلى شبه جزيرة القرم سنة 2014، ولما تجرأ “بوتين” على القيام بسنة 2022، بهجوم عسكري على أوكرانيا، النقاش نفسه الدائر في اليابان وكوريا الجنوبية، أصبح يتبلور في شكل أطروحات رائجة في بعض الأوساط الأوروبية خاصة في ألمانيا وبولونيا، اللتان تسعيان إلى إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بضرورة التفكير في نوع من الغطاء النووي الأوروبي الجديد القادر على دعم القوة النووية التقليدية المكونة من فرنسا وبريطانيا، وذلك بالسماح لهم بالدخول إلى نادي الدول التي تملك الأسلحة النووية، مع تأكيدهما على أن هذه العقيدة الاستراتيجية الجديدة هي وحدها القادرة على ردع روسيا، بل إنها شرط جوهري لإحلال سلم دائم بالقارة الأوروبية، لكن في الفترة الأخيرة برز إلى السطح نقاش جديد بمعطيات مغايرة للمواقف السابقة لبعض الدول داخل الاتحاد الأوروبي، والتي لم تكن قبل الحرب الأوكرانية الروسية متحمسة لمفهوم الاستقلال الاستراتيجي عن واشنطن في ما يخص مجال حماية تراب الاتحاد الأوروبي من أي هجوم محتمل، اليوم وبعد أن اتضحت خيارات موسكو والتي تعتبر بروكسيل التي هي امتداد للمعسكر الغربي، خصما حقيقيا لطموحات ومشاريع بوتين، وقعت تحولات في مواقف بعض الدول منها ألمانيا، التي لم تكن متحمسة سابقا لفكرة غطاء نووي أوروبي موحد، معتبرة أن المشروع اليوم قابل للتحقيق، لكن ضمن رؤية استراتيجية متكاملة، تبدأ أولا بإعادة النظر في الترتيبات التي جاءت بعد الحرب العالمية والثانية، ومن بينها أن فرنسا مطالبة بالتخلي عن مقعدها كعضو دائم في الأمم المتحدة لصالح الاتحاد الأوروبي، وهي في نظر برلين خطوة أولى نحو نظام دفاع فيدرالي يسمح بخلق شروط لترتيبات تشمل مجالات متعددة سياسية وعسكرية، الطرح الألماني يصطدم برفض فرنسي، الذي يرى في الهندسة الكونية لما بعد الحرب العالمية الثانية وموقع فرنسا داخلها، إرثا دوغوليا لا يمكن المساس به.
المصدر: وكالات