قال الوزير الأسبق عبد الكريم ابنو عتيق إن محاولة بعض الخبراء المقارنة بين وضع الولايات المتحدة الأمريكية قبل دخولها الحرب العالمية الثانية والوضع الحالي داخل دول الاتحاد الأوروبي، في ظل عودة النقاش حول مفهوم اقتصاد الحرب داخل أوساط صناع القرار في الاتحاد الأوروبي، يفتقد إلى مجموعة من الشروط والعوامل الغائبة.
واستحضر ابنو عتيق، ضمن مقال توصلت به هسبريس، مؤشرا لغياب الثقة بين الأطراف الأوروبية، معطيا المثال بمحاولة شركة “سافران” الفرنسية اقتناء الشركة الإيطالية “ميكروتكنيكا”، التي تنتج تجهيزات ضرورية للطائرات الحربية والطائرات العمودية العسكرية، “واعتبار روما هذه المحاولة مساسا بمجال حيوي يدخل ضمن السيادة الجيو استراتيجية للدولة الإيطالية، إلى جانب الوضع المالي غير الجيد للاتحاد الأوروبي.
وشدد المصدر ذاته على أن هذه المعطيات تبقى رهينة بشرط خارجي، متعلق بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لـ5 نونبر المقبل، وتوجه أنظار داخل الاتحاد الأوروبي إلى واشنطن لمعرفة نتائج هذا الاقتراع.
نص المقال:
الوزير الأول البولوني دونا لد تروسك، المدعم للخط السياسي المرتبط ببروكسيل، والذي شغل منصب رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، راكم تجارب عديدة، نقابي سابق وعضو بالبرلمان بغرفتيه، أعلن، في 9 مارس الماضي، أن الحرب لم تعد مفهوما ينتمي إلى الماضي بالنسبة لأوروبا، تصريح نزل كالصاعقة، تداولته جل وسائل الإعلام داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة أن بولونيا من الدول الأوروبية التي لها حدود مباشرة مع روسيا.
تصريح رئيس الجهاز التنفيذي البولوني دعمته واشنطن سياسيا وميدانيا، من خلال تنقل وزير الخارجية الأمريكي بلنكين للقارة العجوز، لاسيما محطة باريس، وقيامه برفقة وزير الدفاع الفرنسي بزيارة إلى أحد المعامل المتخصصة في إنتاج الأسلحة، وبالضبط “نكستير”، التي تُنتج مدفع “سيزار” الفرنسي، هذا السلاح أكد تفوقه الميداني في الحرب الأوكرانية الروسية. وهي مناسبة طمأن فيها مسؤولو الشركة الوزير الأمريكي على أن وتيرة الإنتاج قد ارتفعت في المراحل الأخيرة من مدفعين في الشهر إلى 12 قطعة مدفعية، وهي نسبة مرشحة للارتفاع في حالة استمرار التعقيدات الجيوستراتيجية في القارة الأوروبية.
هذه الزيارة تزامنت مع خروج إعلامي مقصود ومفكر فيه للوزير بلنكين، متحدثا باللغة الفرنسية التي يجيدها وزير الخارجية الأمريكي كتابة ونطقا، مع قناة «LCI» الفرنسية، حدد فيه الملامح الكبرى للتعاطي الأمريكي مع الحرب الأوكرانية الروسية، مع العلم أن دول الاتحاد الأوروبي لم تشرع بعد في مرحلة التعبئة الشاملة، خوفا من خلق ارتباك في أوساط المجتمعات الأوروبية الرافضة لفكرة المواجهة العسكرية مع روسيا؛ إلا أن جزءا من وسائل الإعلام شرعت في تناول وبشكل مكثف العديد من الملفات المرتبطة بموضوع الاستعداد للحرب، خاصة تلك المتعلقة بضرورة تقوية الإنتاجات الصناعية العسكرية، ترقبا واستعدادا لكل الاحتمالات الممكنة مستقبلا، بما فيها فرضية وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض الأمريكي.
تزامن هذا مع عودة النقاش حول اقتصاد الحرب، الذي يعني بالدرجة الأولى تعبئة كل الإمكانيات المتوفرة للدولة، من موارد مالية وقدرات صناعية وتكنولوجية ولوجيستيكية ويد عاملة مؤهلة وأطر وكوادر، خدمة لأجندة محددة بشكل واضح واستثنائي، استعدادا وتدبيرا لمواجهة عسكرية إما قائمة أو محتملة.
حالة الطوارئ الاقتصادية هذه ليست جديدة، عرفتها مجموعة من الدول إبان الحروب السابقة، خاصة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لإعطاء دلالة ملموسة لمفهوم اقتصاد الحرب، يكفي الوقوف عند تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال، والتي ما زالت إلى يومنا هذا رائدة، نظرا لقدرتها الفائقة على التحكم في كل الآليات الضرورية لتحريك عجلة اقتصاد الحرب.
وبالرغم من عودة النقاش حول مفهوم اقتصاد الحرب داخل أوساط صناع القرار في الاتحاد الأوروبي، فإن محاولة بعض الخبراء المقارنة بين وضع الولايات المتحدة الأمريكية قبل دخولها الحرب العالمية الثانية، والوضع الحالي داخل دول الاتحاد الأوروبي يفتقد في نظرنا إلى مجموعة من الشروط والعوامل الغائبة، والتي تشكل عائقا بنيويا لدى الفاعل الأوروبي؛ أهمها فقدان بروكسيل للقرار السياسي الموحد، على خلاف واشنطن التي يتمتع فيها الرئيس إلى جانب الكونغريس بصلاحيات واسعة، لاتخاذ قرارات استراتيجية كبرى، تتميز غالبا بالسرعة والفعالية.
وكمثال على مفهوم ملموس لاقتصاد الحرب، يكفي الرجوع إلى بعض القرارات الاستباقية والجريئة التي قام بها الرئيس الأمريكي روزفلت والتي غيّرت مجرى الأحداث؛ أهمها آنذاك الرفع من الإنفاق العسكري الذي انتقل من 1.4 في المائة من الناتج الداخلي الخام سنة 1940 إلى 37 في المائة سنة 1945، وتوسيع الوعاء الضريبي ابتداء من سنة 1943 قصد توفير مداخيل إضافية للخزينة الأمريكية، وطرح سندات الحرب في السوق المالي الأمريكي والتي اقتناها 85 مليون أمريكي، مما سمح للحكومة الفيدرالية الأمريكية بتوفير 186 مليار دولار، ضخت الخزينة جزءا كبيرا منها في مشروع صناعي حربي ضخم ابتداء من سنة 1940، مع وضع هيكلة جديدة لتنظيم الصناعات العسكرية عن طريق خلق وكالة التنسيق الصناعي العسكري، وضع الرئيس الأمريكي روزفلت على رأسها شخصية صناعية معروفة آنذاك هو وليام كندسين، الذي كان مديرا عاما لشركة “جنيرال موترس”.
مباشرة بعد الهجوم الياباني على القاعدة البحرية “بريل أربور”، لم تعد ولو سيارة مدنية وحيدة تصنع في معامل السيارات الأمريكية، تم الرفع من ساعات العمل من 40 ساعة إلى 48 ساعة في الأسبوع، مع حث النقابات على الدخول في سلم اجتماعي مساهمة منها في التعبئة للحرب، ثم تشجيع هجرة بدوية قياسية نحو المدن وصلت إلى 6.5 ملايين نسمة، نظرا للحاجة الماسة إلى اليد العاملة، عندما هاجم هيتلر الاتحاد السوفياتي واحتل جزءا كبيرا من الأراضي الروسية. واشنطن، بواسطة صناعاتها العسكرية، كانت هي السند الرئيسي لموسكو، عن طريق المبادرة الأمريكية التي سميت آنذاك بقرض إيجار، قدمه الرئيس روزفلت إلى الكونغريس الأمريكي وتم التصويت عليه سنة 1941؛ مما سمح لواشنطن بالتصدير نحو موسكو لـ90 في المائة من حاجياتها من قطع السكك الحديدية، و30 في المائة من الشاحنات ذات الاستعمال العسكري، و13 في المائة من الطائرات الحربية.
هذا المجهود الصناعي الكبير، قبل وإبان الحرب العالمية الثانية، هو الذي أعطى نفسا استثنائيا لهذا القطاع الذي لا يزال يحكم سيطرته على الأسواق الكونية للأسلحة بواسطة 42 شركة أمريكية من أصل 100 مقاولة وازنة عالميا.
أوروبا تتوفر على منظومة صناعية عسكرية لا بأس بها، تتكون من 26 شركة كبرى من أصل 100 مقاولة عالمية؛ لكن التنسيق السياسي ضعيف أو شبه منعدم، مع سيادة ثقافة المنافسة وغياب الثقة بين الفرقاء، أمثلة عديدة تؤكد ذلك، أهمها المشروع الفرنسي البريطاني المشترك لبناء حاملة الطائرات قبل خروج لندن من الاتحاد الأوروبي. هذا المشروع لم يرَ النور، نظرا للصراع الحاد بين الأطر التقنية، كل فريق يريد إدخال إنجازاته التكنولوجية على حساب الآخر. النتيجة هي أن فرنسا، ولتعويض حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها شارل دغول، عليها انتظار سنة 2038 لإتمام بناء حاملة طائرات من الجيل الجديد.
مؤشر آخر لغياب الثقة بين الأطراف الأوروبية هو ما وقع في السنوات الأخيرة، عندما حاولت شركة “سافران” الفرنسية اقتناء الشركة الإيطالية “ميكروتكنيكا”، التي تنتج تجهيزات ضرورية للطائرات الحربية والطائرات العمودية العسكرية. “روما” رفضت الموافقة على العملية معتبرة ذلك مساسا بمجال حيوي يدخل ضمن السيادة الجيو استراتيجية للدولة الإيطالية، أضف إلى هذا الوضع المالي غير الجيد للاتحاد الأوروبي وغير القادر على توفير السيولة المالية لتمويل الصناعات العسكرية الضرورية للتوازن الاستراتيجي مع موسكو، مع العلم أن بروكسيل ما زالت تواجه مخلفات كوفيد التي تطلبت من البنك الأوروبي تعبئة وتوفير 750 مليار أورو، وضعها البنك رهن إشارات اقتصاديات دول الاتحاد لإنقاذها من الانهيار.
كل هذه المعطيات المذكورة في هذا المقال تبقى رهينة بشرط خارجي، متعلق بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لـ5 نونبر المقبل، جميع الأنظار داخل الاتحاد الأوروبي متجهة إلى واشنطن لمعرفة نتائج هذا الاقتراع، هل سيستمر “بايدن” الديمقراطي في قيادة الولايات المتحدة الأمريكية أم سيعود “ترامب” إلى البيت الأبيض؟
المصدر: وكالات