منذ بداية تراجع النفوذ الغربي، خاصة الفرنسي، في منطقة الساحل والصحراء وشمال إفريقيا، بدأت الجمهورية الإسلامية في التحرك في اتجاه عدد من العواصم الإفريقية، خاصة نواكشوط وباماكو ونيامي ووكادوكو، مدعومة بتحالفاتها المشبوهة مع بعض الدول الوظيفية في المنطقة، لا سيما الجزائر، حيث تبادلت هذه الدول مع طهران في الآونة الأخيرة عددا من الزيارات على أعلى المستويات، فيما كان إبراهيم رئيسي قد أكد خلال مراسم تسلمه أوراق اعتماد السفير البوركينابي الجديد في بلاده أن “إيران مستعدة لتوسيع التعاون مع الدول الإفريقية”.
وتظهر طهران اهتماما متزايدا بالتواجد في القارة الإفريقية من خلال مجموعة من الوسائل، بما فيها سعيها إلى توقيع اتفاقيات تجارية واقتصادية مع دول القارة، أو من خلال افتتاح الجامعات التابعة لها في هذه الدول، في محاولة لنشر الفكر الشيعي في المنطقة التي تسكنها غالبية مسلمة، فيما يرى متتبعون أن الوجود الإيراني في المنطقة يشكل تهديدا للأمن القومي للدول المستقرة في هذه المنطقة، خاصة المغرب، وذلك بالنظر إلى التجربة الإيرانية في زعزعة استقرار الدول ودعم التنظيمات غير النظامية والإرهابية في الشرق الأوسط وكذا شمال إفريقيا.
وكانت الرباط قد قطعت علاقاتها مع طهران على إثر اتهام المملكة نظام الملالي بدعم البوليساريو عسكريا عن طريق حزب الله، وكيلها في لبنان، إذ يشكل المغرب بدبلوماسيته الاقتصادية والدينية والعلمية خطا مقاوما للاستراتيجية الإيرانية في هذا الصدد التي تروم استغلال الفراغ الأمني في المنطقة وتحويلها إلى ساحة صراع جديدة مع القوى الغربية، مُستقوية في ذلك بحليفها الروسي الذي تتواجد ميليشيات فاغنر التابعة له في عدد من هذه الدول.
أهداف وتهديدات إيرانية
إسماعيل أكنكو، باحث في العلوم السياسية، قال إن “التحركات الإيرانية وتفاعلاتها الاقتصادية والسياسية في إفريقيا ليست وليدة اللحظة بقدر ما تمتد إلى سنوات خلت أيام حكم الشاه الإيراني، خاصة في الفترة الممتدة ما بين سنة 1941 وسنة 1979 بعد ما حصل تحرر في النظام الإيراني من التبعية السوفياتية والمد الشيوعي وقتها، ولعل الأهداف والمرامي التي كانت تنشدها إيران مدعومة بأمريكا وقتها هي إيجاد موطئ قدم في السوق الإفريقية لبيع النفط الإيراني، ونسج علاقات متنوعة مع مختلف بلدان العالم”.
وأضاف أكنكو أن “التاريخ يعيد نفسه اليوم وإن كان ذلك بشكل معاكس، فبعد الحصار الذي فرضته أمريكا وحلفاؤها الغربيون على إيران من خلال الضغط على عدد من الدول بهدف صد كل المعاملات الاقتصادية والتجارية والاستثمار مع طهران، وجدت هذه الأخيرة ضالتها في البلدان الإفريقية، خاصة الغربية منها، التي قامت فيها انقلابات عسكرية، لتكون مجالا خصبا لها لاستعادة زخم علاقاتها التاريخية وبيع منتوجاتها النفطية وتعزيز حضورها التجاري والسياسي، في رسالة واضحة إلى الغرب أن إيران قادرة على التمدد، خاصة في معاقل هذه المستعمرات السابقة”.
وأوضح المصرح لهسبريس أن “هذه التحركات لها أبعاد سياسية واقتصادية، كما أن لها أيضا أبعادا تفيد بوجود تحركات بين قوى دولية كبرى تنسق علنا وخفية من أجل إحكام قبضتها على منطقة الغرب والساحل الإفريقي باعتبارها منطقة ذات أهمية كبرى في الميزان الجيو-سياسي، وهو ما يمكن استنتاجه من خلال التنسيق الإيراني التركي والروسي في هذا الموضوع، وهذا مؤشر على إعادة تقسيم مناطق النفوذ الإفريقية واستغلال ظرفية طرد فرنسا ومختلف التواجد العسكري في النيجر ومالي وبوركينافاسو لإعادة توجيه البوصلة الإيرانية نحو التكتلات والتجمعات الجهوية، خاصة بالمناطق الغنية بالثروات”.
وزاد شارحا: “لئن كان الاقتصاد صلب أولويات التحرك الإيراني في إفريقيا، فإن خلق معادلة سياسية أخرى في منطقة الغرب الإفريقي لا تخلو منها الاستراتيجية الإيرانية، إذ إنها تسعى إلى استغلال هذا التوغل من أجل دعم كل الحركات الانفصالية والتجمعات التي ترى منها فائدة للترويج لفكرها ومزاحمة القوى الدولية الكبرى”.
وخلص أكنكو إلى أن “اتهام المغرب إيران بدعم جبهة البوليساريو وقطع العلاقات الدبلوماسية معها منذ سنة 2018، سيلقي بظلاله على تحركاتها، وسيعيد سيناريو تهديد الأمن القومي للمغرب إلى واجهة الأحداث، خاصة في ظل الدعم الأمريكي والغربي للمغرب في ملف الصحراء، غير أن ذلك لن يؤثر بشكل كبير بالنظر إلى الحضور السياسي والديبلوماسي والعسكري للمغرب وعلاقاته المثمرة مع مختلف القوى الدولية، ومنها الداعمة لإيران”.
تغلغل إيراني ومقاربة مغربية
في السياق ذاته، قال محمد عطيف، باحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي، إن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحاول أن تجد موطئ قدم لها في إفريقيا، وخاصة في منطقة الساحل والصحراء، وتتغلغل اقتصاديا وسياسيا بل حتى دينيا من خلال مجموعات من السياسات الموجهة التي تروم تشييع المنطقة أولا، وفتح جبهة جديدة في صراعها مع القوى الغربية ثانيا”.
وأوضح المتحدث لهسبريس أن “طهران تراهن بقوة على اختراق القارة الإفريقية، خاصة منطقتي شمال إفريقيا والساحل، لمجموعة من الاعتبارات، أهمها أن هذين المجالين يضمان دولا إسلامية تزخر بثروات طبيعية هامة، أضف إلى ذلك طبيعة الوضعية الجيو-سياسية في هذه المنطقة التي تسهل عمليات الاختراق الإيراني”.
ولفت الباحث في العلاقات الدولية إلى أن “النظام الإيراني، على غرار تغلغله في عدد من دول الشرق الأوسط وتحكمه في قرارها السياسي، يُحاول خلق ما يسمى الفوضى الخلاقة في المنطقة من أجل زعزعة استقرارها، إذ يحاول بذلك ضبط توازناتها الاستراتيجية عبر محاولة ملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الفرنسي من الساحل وتقوية وجود إيران الديني والاقتصادي والسياسي بل وحتى العسكري في القارة السمراء بمساعدة بعض الدول الحليفة، خاصة الجزائر التي تراهن بدورها على التواجد الإيراني في إفريقيا نظرا لتقاطع أجندة ومشاريع النظامين الذين يحكمان هذين البلدين”.
وأشار عطيف إلى أن “هذه الاستراتيجية الإيرانية تشكل في الحقيقة خطرا على الأمن القومي المغربي، إلا أن تنزيلها على أرض الواقع يصطدم دائما بمقاربة المملكة المغربية التي تدافع عن استقلالية القرار السياسي والاقتصادي والعسكري الإفريقي، وتواجه هذه المحاولات الإيرانية بدبلوماسية متعددة الأبعاد، بما فيها الدبلوماسية الأمنية والروحية والاقتصادية، مدعومة بسمعتها الدولية ومؤسساتها الاستراتيجية التي تسعى إلى بناء إفريقيا جديدة في إطار وحدة المصير”.
المصدر: وكالات
