حطت إلهام گرماطة الرحال في كندا صغيرة السن، مرافقة أسرتها التي اختارت مغادرة الرباط للبحث عن آفاق أرحب بمونتريال، ثم شبت وترعرعت وسط بيئة محفزة على الكد والاجتهاد من أجل الاستفادة من خبرات تتيح السير نحو المستقبل بخطوات واثقة، دون الميل إلى أي أداء بمقدوره أن يخدم التخلي عن القيم أو إسقاط المبادئ أو التوقف عن نشر الطاقة الإيجابية.
دلفت المغربية عينها إلى ميدان العمل قبل أن تفارق مرحلة المراهقة، وكانت هذه الخطوة محددا رئيسيا لاختيار التوجه الدراسي عند وصولها إلى المرحلة الجامعية، بينما انتقالها إلى الاشتغال في القطاع المصرفي لم يزدها إلا إصرارا على تحصيل النجاح تلو الآخر، والإيمان بأن الطموحات ينبغي أن تنهمر كالشلالات مع إطلالة شمس كل يوم.
بين وجدة والرباط
تنحدر إلهام گرماطة من جهة الشرق في المملكة المغربية، إذ رأت النور وسط مدينة وجدة، وعاشت في هذه الحاضرة الحدودية أولى شهور حياتها قبل أن تغادر مسقط الرأس بمعية أسرتها، لتكون العاصمة الرباط مستقرا بديلا لها، وهناك استهلت مسارها الدراسي الابتدائي قبل أن يحين موعد انتقالها إلى خارج الوطن.
وتقول إلهام: “ذكريات التواجد في وجدة تبقى قليلة في مخيلتي، فقد غادرت المدينة مع والدَاي وعمري صغير جدا؛ إذ لم تكن سني تتجاوز حد الاستفادة من خدمات الرعاية في الحضانة، لكنني مازلت أستعيد بوضوح أبزر المحطات المرتبطة بالتواجد في الرباط، خاصة ما يتعلق بافتتاح المسار الدراسي ضمن مؤسسة مجاورة لمسكن الأسرة في حي الليمون”.
حظيت گرماطة بفترة ثبات في الرباط طيلة السنوات التعليمية الأولى، وبعد إنهاء المرحلة الابتدائية كانت مدعوة لتغيير فضاء العيش مرة ثانية، وهذه المرة صار لزاما عليها أن تنتقل مع والدَيها إلى خارج المغرب، وقد كانت الوجهة مرتبطة بدولة كندا، إلى مدينة مونتريال في كبيك، وتحديدا صوب حي “فيل-إيمار” بالحاضرة نفسها.
عن اللغة والهجرة
وفدت إلهام گرماطة على كبيك في سن صغيرة تتيح لها الاندماج في البيئة المحلية بسلاسة، لكن ذلك لم يكن يعني التواجد في موقع خال تماما من أي صعوبة، إذ شكل التأقلم مع خصوصيات النظام التعليمي المحلي تحديا بالنسبة لها، ما تمثل بحدة عند مستهل الطور الثانوي الإعدادي رغم تمكنها سلفا من اللغة الفرنسية التي يتم بها التدريس في مونتريال.
وعما وقع في تلك الفترة تورد إلهام: “قدمت من المغرب بخلفية دراسية مبنية على تعلمات باللغتين العربية والفرنسية، لكن حضور الفرنسية لا يعني سهولة التعامل مع المقررات في النظام التعليمي الذي انتقلت إليه، إذ إن للكبيك خلفيتها الخاصة في استعمال الفرنسية، وذلك بكيفية مغايرة لما يتم على مستوى المغرب، وقد احتجت إلى وقت للتكيف مع هذه المتغيرات”.
أعفيَت گرماطة من إمضاء سنة تحضيرية قبل قبولها في السنة الثانوية الإعدادية الأولى بمونتريال، وقد عملت بجد كي تساير إيقاعات الدراسة والعيش في فضاءين يغيب عنهما التنوع الثقافي، إذ كان حضور المهاجرين قليلا جدا في الحي الذي احتضن أسرتها وكذلك المؤسسة التعليمية التي تتلقى فيها تعليمها، لكنها أفلحت في إحاطة نفسها بمعارف يحفزون على الاجتهاد.
إقبال مبكر على العمل
حرصت إلهام گرماطة على الانخراط في سوق الشغل إبان فترة المراهقة، إذ لم تكن قد تخطت 16 ربيعا حين بدأت في جني المال عبر العمل بدوام جزئي، وتمثلت هذه الوجهة المهنية في مركز للنداء يقدم خدمات ضمن إطار التواصل مع الزبائن، وقد لازمت هذا المرفق التواصلي طيلة 10 سنوات قبل أن تختار خوض تجربة بديلة في مجال مغاير تماما.
وتستحضر إلهام تفاصيل هذه المرحلة المفصلية من حياتها حين تقول: “شرعت في العمل وأنا تلميذة، وجاء هذا القرار بالتزامن مع الفترة الأخيرة للدارسة الثانوية، إذ تعد مونتريال قوية في ما يهم مراكز النداء، وفرص العمل متاحة ضمن هذا القطاع وفق صيغ مناسبة للمتمدرسين أيضا، لكن رهاني الأساسي كان منصبا على جعل العمل يقوي شخصيتي، وبجانب ذلك شئت كسب خبرة تفيدني لاحقا”.
بقيت گرماطة مرتبطة بالالتزام الوظيفي نفسه رغم تلقيها تكوينا في ‘’الماركوتينغ’’ خلال المرحلة الدراسية الجامعية، مراكمة ترقيات متتالية في مركز النداء حتى تخرجها خبيرة في مجال التسويق، وبعدها مالت إلى العمل في الميدان الذي خبرته خلال فترة التعليم العالي، مطلقة المسار من شركة للطباعات التجارية، ثم انتقلت إلى الارتباط مهنيا بالميدان المالي.
مفعول سنة 2008
تأثرت كبيك وعموم كندا، أيضا، بالأزمة الاقتصادية العالمية التي كانت البلدان عرضة لها سنة 2008، وتجلى ذلك في فترة ركود حاد أثرت على كل ما يهم “الماركوتينغ” حتى أملت على المشتغلين في هذا الميدان التفكير بجدية في تغيير الوجهات. وفي حالة إلهام گرماطة حضر البحث عن مسار أفضل، مع الحاجة إلى حل يضمن أكبر قدر من الاستقرار على مستوى مونتريال.
وتقول المنتمية إلى صف الجالية المغربية في كبيك: “حصلت على فرصة للاشتغال في الميدان المالي بمهاراتي الأساسية التي حزتها من خلال التكوين في التسويق، وهو ما أعفاني من البحث عن تكوينات جديدة بكيفية فورية؛ وتأتى هذا في مؤسسة مصرفية من أدنى مرتبة، ما يعني تولي المهام ذات الصلة بخدمة الزبائن”.
بحضور الإصرار وتوالي التميز عند الخضوع إلى تأطير مستمر في كل ما يهم الاستثمار، تطورت گرماطة مهنيا بالحصول على ترقيات متتالية، حاصدة ثمار مهاراتها في التفاوض والإقناع من أجل إقناع المستثمرين بترويج الأموال، من جهة، والاستفادة من عروض الاقتراض لتطوير المشاريع، من جهة ثانية، حتى صارت ماسكة بزمام منصب رفيع في المسؤولية.
تطلعات متعددة المستويات
تتولى إلهام گرماطة الإدارة الوطنية للتدبير التسويقي في ‘’بنك مونتريال’’، وهي مؤسسة مصرفية رائدة في المجال البنكي على صعيد كندا بأكملها، وهو ما يجعل المزدادة في مدينة وجدة تتولى حزمة من المسؤوليات ذات الصلة بالتدبير التجاري لتمويل المقاولات من أجل إطلاق وتطوير مختلف أنواع المشاريع.
وبهذا الشأن تذكر جامعة رُبع قرن من الاستقرار في كبيك: “كانت النقلة النوعية الخاصة بي حين توليت إدارة وكالة بنكية خاصة بالأشخاص الاعتباريين، وحاولت القيام بكل ما يلزم من أجل ترويج منتجات المصرف وسط النسيج المقاولاتي، لذلك حصلت على مقدار محترم من التجربة كي تتم ترقيتي، ولا تزال أمامي مراتب أعلى أريد الوصول إليها في بنك مونتريال؛ مع الالتزام بالحيز نفسه من المنتجات المصرفية”.
من جهة أخرى؛ تجاهر گرماطة بامتلاك طموحات شخصية إضافية على الصعيد الأسري، معطية الأولوية للمواظبة على نقل أسلوب الحياة الجيدة والقيم الفضلى إلى أبنائها، معتبرة أن قدوتها في هذا الشق من رهاناتها يتمثل في أبيها؛ إذ مازالت تتذكر نصائحه وقت الوصول إلى كندا وإصراره على تمكينها من تنمية الذات بالنهل من الممارسات المجتمعية الإيجابية دون غيرها.
الأسرة والإيقاع المتاح
تجمع إلهام گرماطة عصارة تجربة العيش في كبيك كي توصي الوافدين الجدد على كندا بضرورة الحفاظ على الارتباطات الأسرية، سواء تعلق الأمر بأقارب في الوطن الأم أو مشاركين في خطوة الهجرة عينها، معتبرة أن الاستفادة من العناية المتبادلة توفر الدعم لكافة أفراد الأسرة كي يبقوا على سجيتهم وينالوا التحفيز للسير معا نحو غد أفضل.
وتردف من عاشت في الرباط قبل الوصول إلى مونتريال: “المشغل الكندي يحرص على النظر إلى الدبلومات التي يتوفر عليها الراغب في العمل، عموما، لكن التقييم الحقيقي يحضر عند تفحص مستوى الخبرات التي تمت مراكمتها، لذلك لا ينبغي الخجل من الإقبال على أي اشتغال يتيح التعلم بجد ولو كان ذلك ببداية من آخر درجة في السلم”.
“يمكنني تقديم نصيحة من خلال ما مررت به، إذ أرى أن التعلم من خلال العمل في خدمة الزبائن يفتح آفاقا رحبة، واليقين أن الحريصين على الوصول إلى النجاح المنشود يترقون سريعا، ويرفعون مكانتهم المالية والمجتمعية بالانتقال من طبقة إلى أخرى مع مرور الوقت، ولا إشكال أبدا في القبول بالمتاح حتى امتلاك المقدرة على الانتقال نحو ما يناسب كل امرئ على حدة”، تختم إلهام گرماطة.
المصدر: وكالات