مع تباشير الصباح، يبدؤون في التوافد فرادى ومجموعات، راجلين وراكبين، على “دوار إدرق” التابع لجماعة اثنين أكلو بإقليم تيزنيت، التي تشهد حركة غير طبيعية استعدادا لاستقبال “الفقراء الولتيتيين” الذي سيحلون ضيوفا على سكان أكلو على مدار يومين في إطار طوافهم السنوي الذي تعد “زاوية سيدي وكاك” بأكلو واحدة من أهم محطاته.
يستمر “الفقراء الولتيتيون” في التوافد على الدوار، وبالضبط في اتجاه ساحة أُفرشت بالحصير يتوسطها برميل ماء كبير على موقد نار هادئة يحكي الصدأ الذي ضرب واجهته الخارجية قصة الولتيتيين أو “إفقيرن إداولتيت” كما يسمون في لغة أهل سوس.
طائفة إداولتيت.. تجمع قبلي وتقليد صوفي
من هم هؤلاء؟ وما هي قصة طائفتهم؟ للإجابة على هذا السؤال، كان لا بد من توجيهه إلى الشيوخ الذين يحملون على ظهورهم التاريخ، وهكذا فعلت جريدة هسبريس الإلكترونية التي سألت أحدهم الذي يبدو من ملامحه أنه خبر تجارب الحياة وهو يهم بالنزول رفقة آخرين من إحدى سيارات الأجرة التي يُنعش حلول الطائفة بأكلو نشاطها.
قال الشيخ الذي أفاد بأن اسمه لحسن أوسنين، وعمره يتجاوز المائة عام، إن “الفقراء الولتيتيين هم أناس أولا ينتمون إلى اتحادية قبائل إداولتيت التي تضم ثلاث قبائل رئيسية، هي: إداوسملال وإداوباعقيل وإداوكارسموكت، وهم أناس زاهدون في الحياة ويقومون في كل سنة بطواف يمر عبر مجموعة من المحطات من أجل تفقيه الناس في دينهم وصلة الرحم فيما بينهم”.
وأضاف أن “الطائفة الوليتيتية تتواجد الآن في أكلو، المحطة التي نحل بها في يومي الخميس والجمعة الأخيرين من شهر يناير من كل سنة”، موضحا أن “محطة أكلو تجتمع فيها مجموعة من الطرق الصوفية كالناصرية والدرقاوية والبودشيشية، التي تلتحق بالطائفة الولتيتية، إذ يجتمع الكل على ذكر الله والتضرع إليه ورفع الدعوات إليه ليخص برحمته وحمايته البلاد والعباد”.
رافقنا الشيخ إلى ساحة الدوار التي بدأت تمتلئ بـ”الفقراء” الذين تحلقوا في خشوع واضح للاستماع إلى دروس الوعظ والإرشاد التي يلقيها أحد الشيوخ باللغة الأمازيغية، هناك بات واضحا أن الطائفة تضم مريدين اختلفت أعمارهم، بل وحتى مستوياتهم الاجتماعية التي تتضح جليا من خلال ملابسهم والسيارات التي جاؤوا بها إلى هذا المكان. وهذا ما أوضحه المحفوظ نفسحي، الذي صادفناه في هذا المكان، المنحدر من منطقة بونعمان.
أكد الرجل الذي يرافق هو الآخر الطائفة، في حديث مع هسبريس، أن “هذه الأخيرة تضم أشخاصا من طبقات اجتماعية مختلفة ومستويات تعليمية متباينة، فلا فرق هنا في الطائفة بين غني وفقير أو بين أمي ومتعلم، فالكل يسعى وراء هدف واحد هو التقرب من الله”، مشيرا إلى أن “الولتيتيين معروفون في كل بقاع سوس بسمو هدفهم ونبله، غير أن بعض الجاهلين يضربون في أهدافهم الحقيقية ويحاولون تحوير مقاصد هذا الطقس وإعطاءه تفسيرات معينة كاتهام الطائفة بعبادة القبور على سبيل المثال”.
مع انتصاف النهار، يبدأ عدد من ساكنة الدوار في الإتيان بأطباق مختلفة الألوان والأشكال إلى الساحة من أجل إطعام “الفقراء الولتيتين”، حيث لاحظت هسبريس أن عددا من منازل الساكنة مفتوحة على مصراعيها لاستقبالهم وإطعامهم، وهنا قال إبراهيم أبودرار، أربعيني من سكان دوار إدرق، إن “السكان المحليين هنا يفرحون بحلول الولتيتيين في أكلو ويخصونهم باستقبال حافل يتجلى في إطعامهم وإيوائهم طيلة مدة مقامهم في هذا المكان”.
وأشار المتحدث إلى أن “دوار إدرق كان على امتداد سنوات طويلة محطة استراحة لمريدي الطائفة الولتيتية قبل مواصلة مسيرهم، حيث كانوا يحلون ضيوفا على أجدادنا وآبائنا من قبلنا، ونحن اليوم نحافظ على هذا الطقس ونسعى كذلك إلى توريثه لأبنائنا وأحفادنا لما فيه من أجر وثواب”.
بعد تناول وجبة الغداء وأداء صلاتي الظهر والعصر بشكل جماعي في الساحة سالفة الذكر، يتفرق الجمع لتبدأ مسيرة الولتيتين سيرا على الأقدام في اتجاه دوار “الزاوية” المُجاور الذي لا يبعد سوى بكيلومترات قليلة، والذي يحتضن زاوية العلامة “وكاك بن زلوا اللمطي” أو رباط “سيدي وكاك” الذي أجمعت عدد من الكتابات والمصادر التاريخية على كونه أقدم رباطٍ وُجد في البادية المغربية.
يمشون وهم يرددون أمداحا وأذكارا تمزج بين اللغتين العربية والأمازيغية، تتقدمهم سيارة تحمل عجلا سمينا، قبل أن تصل هذه الرحلة القصيرة إلى مشارف بناية بيضاء تتوسطها صومعة بنية اللون على سفوح واد صغير، هناك حيث توجه البعض منهم إلى حجرة بجنبات هذه البناية وحيث تحلق مجموعة من “الفقراء” على شخص أشرف على نحر الذبائح التي استقدمها الولتيتيون المُوجة لإطعامهم طيلة مدة مقامهم في الزاوية، حسب ما أكده عدد منهم لهسبريس.
طقس عريق و”معتقدات” وصراع
محمد بنيدير، رئيس “مركز أكلو للبحث والتوثيق”، قال إن “موسم إفقيرن الذي تنظمه طائفة إداولتيت، يزخر بعادات وطقوس غنية بالدلالات، أهمها مسيرتها الصوفية بذاتها التي تشكل أساس هذا الموسم، والذبح وطقوسه، وحلقات الذكر والوعظ والمدح، والإطعام وعاداته، وما إلى ذلك”.
وأشار المتحدث ذاته إلى أن “هذه التظاهرة ترافقها طقوس وعادات ومعتقدات أيضا؛ فإلى جانب ما يتعلق عادة بتقديم الذبائح قربانا إلى الأولياء، فإن تقديم القرابين إلى الشيخ وكاك تُرجى منه حماية البلاد والعباد من كل مكروه وجلب الخصب أساسا. ومما وقفنا عليه أيضا في هذا الصدد، أن هناك اعتقادا لدى العديد من الناس بأن المشاركة في مسيرة إفقيرن تعد بمثابة أداء مناسك الحج لمن لم يجد إليها سبيلا. أكثر من ذلك، هناك من يعتقد بحضور الرسول محمد إلى ضريح وكاك صبيحة يوم الجمعة الذي يتزامن مع تواجد إفقيرن في هذا المكان، مما يجعل زيارة زاويته مقرونة بزيارة مقام النبي”.
أثناء جولتنا في أروقة ومرافق الزاوية، لفت انتباهنا توافد “إفقيرن” وكذا الزوار على حجرة صغيرة يتوسطها ضريح مغطى برداء أخضر يعود، حسب لافتة رخامية عند مدخل الغرفة، إلى “وكاك بن زلوا اللمطي” أو “سيدي وكاك” كما يحلو للسوسيين تسميته، إذ يدخلون في مجموعات صغيرة للدعاء للراقد في هذا الضريح، الذي يعد أحد أعمدة الفقه في سوس، حسب ما أكده إبراهيم الطاهري، باحث في تاريخ سوس.
بداية حديث هسبريس مع الطاهري كانت حول مؤسس الطائفة، إذ يعتقد عدد غير قليل من المريدين أن مؤسسها هو الشيخ “سيدي أحمد أوموسى”، الذي يتواجد ضريحه بمنطقة تازروالت ما بين مدينتي تيزنيت وتافروات. هنا أوضح الطاهري أن “طائفة إداولتيت لها امتدادات تاريخية تعود إلى ما قبل حياة سيدي أحمد أوموسى، غير أن عددا من المصادر المكتوبة والروايات تربطها بهذا الشيخ، لأنه أعطى لها مكانة وحظوة كبيرتين، ثم أيضا لمكانته في مجال إداولتيت التي يتم إسناد نشأتها إليه، ولكن الصحيح خلاف ذلك، حيث تأسست هذه الطائفة قبل حياة سيدي أحمد أوموسى على الأقل بقرن، وبالضبط في القرن التاسع الهجري”.
وفي ما يخص محطة “سيدي وكاك” التي نتواجد بها، قال المتحدث إن “محطة سيدي وكاك تعد من بين أهم محطات رحلة الولتيتيين، نظرا أولا لرمزية الرجل ومكانته العلمية، وأيضا لارتباط مجالي أكلو وإداولتيت”، مشيرا إلى “وجود محطات رئيسية في طواف الولتيتيين، تجتمع فيها جميع الطرق الصوفية على غرار محطة سيدي وكاك وسيدي أحمد أوموسى وسيدي أحمد إعزا وسيدي الحاج الحبيب، ومحطات ثانوية أخرى”.
وتفاعلا مع سؤال لهسبريس حول الانتقادات التي توجه لبعض الممارسات المرافقة لهذا الطقس الديني السنوي ولممارسة الصوفية بشكل عام، أوضح الباحث في تاريخ سوس أن “هذا الأمر مرتبط بصراع قديم ما بين الصوفية والسلفية، نشأ بنشأة بفكر ابن تيمية وغيره، لكن هذا النقاش لم يكن حاضرا في مجال المغرب في فترة من الفترات”.
ولفت إلى أن “الذين يقولون اليوم إن هذه الطرق الصوفية خارجة عن السنة لم يستطيعوا تحديد كيف وفي أي موضوع يتجلى هذا الخروج، في حين أصل تواجد هذه الطوائف في مجال سوس هو تقريب الدين إلى الناس بلغتهم بحكم أن الكثير منهم لا يتقن اللغة العربية، إذ قاموا بتقعيد قواعد المذهب المالكي وترجموا إلى الأمازيغية متونا نخبوية كمختصر خليل على سبيل المثال”.
وخلص المصرح لهسبريس إلى أن “طائفة إداولتيت حاولت الإجابة عن إشكال رئيسي متعلق بلغة الدين الذي لا يختص بلغة معينة، وهي نموذج كذلك إلى ما تسعى إليه الدولة المغربية اليوم من خلال تبنيها مبدأي الوسطية والاعتدال، إذ قدم فقهاء هذه الطائفة أجوبة حكيمة لنوازل فقهية عديدة بما يتلاءم مع الواقع المُعاش للمفتي وللمستفتي”.
تجارة موسمية وأمداح سوسية
غير بعيد عن الزاوية وفي ساحة تدعى “أسايس”، نُصبت خيام يبيع أصحابها مجموعة من المنتوجات، على غرار البخور ومنتوجات أخرى تشهد إقبالا كبيرا من طرف الزوار، خاصة النساء اللواتي حضرن بشكل كثيف لهذا الموسم، فيما تجمع “الفقراء” في فضاء مفتوح مقابل لمدخل الضريح، تتوسطه مكبرات صوت يتلون من خلالها القرآن وبعض الأمداح النبوية التي تميز طائفتهم باللغة المحلية.
ويعرف موسم الولتيتيين بأكلو حضورا أمنيا مكثفا، خاصة عناصر الدرك الملكي والقوات المساعدة، حيث نصب المركز الترابي للدرك الملكي بأكلو سدا أمنيا على مستوى مدخل دوار الزاوية الذي يحتضن فعاليات هذا الموسم الديني السنوي، فيما أوضح مصدر أمني لهسبريس أنه “بالإضافة إلى السدود الأمنية، تكثف عناصر الدرك الملكي من وجودها في النقاط التي تعرف ازدحاما، كما تقوم بدوريات ليلية طيلة يومي هذا الموسم من أجل الحفاظ على السلامة الجسدية للزوار وتلافي وقوع ما من شأنه الإخلال بالسير العادي لهذه التظاهرة”، مؤكدا أن “الأخيرة مرت هذا العام في ظروف جيدة ولم يتم تسجيل أي حادث أو تدخل أمني”.
وتفاعلا مع سر هذا الاهتمام الكبير الذي يحظى به الطقس لدى ساكنة أكلو وسلطاتها، قال أحمد بومزكو، باحث في التاريخ والتراث، قال إن “حضور هذا الطقس القوي في المشهد الصوفي السوسي، وراهنيته وامتداداته في الزمن الراهن، يعكس أصالته وعراقته وقدرته على الاستمرارية، كما يجسد بالضرورة حالة الاجماع وإثبات الذات. ومن ثمة، اكتسب بفعل تباثه قداسة، وغدا جزءا من النسق الطقوسي المحلي”.
وأضاف الباحث ذاته، في تصريح لهسبريس، أن “مبنى هذا الطقس الجماعي يتأسس على أساس فعل التنقل والدوران، كجماعات من الفقراء من طريقة أو عدة طرق صوفية، على مسالك معلومة وذات جاذبية روحية ورمزية، تشكل معالم خط الطواف. وعادة ما تكون أضرحة وزوايا وأماكن للعبادة ومشاهد معلومة وأخرى تثير ذكريات معينة، إذ من المعلوم أن غالبية هذه المحطات تتم مجاليا داخل تراب قبائل إداولتيت، التي تشكل القاعدة البشرية للطائفة، وتضم ستين مسجدا وعشرين ضريحا”.
وزاد شارحا أن “ما يبين ثبات واستمرارية تواتر هذا التقليد، هو أن برنامج تنقل الفقراء المعتاد يستغرق قرابة أربعة أشهر، على مدار ثلاث مراحل زمنية متتابعة، تزامنا مع أواخر الخريف وبداية فصل الشتاء، وتتحدد تواريخ هذه الدورة الطقوسية تبعا للتقويم الفلاحي، وذلك ابتداء من يوم الجمعة الثانية من يناير الفلاحي، إلى أن تبلغ ذروتها بضريح حماد أموسى بتازروالت، كمحطة للتجميع، قبل أن تتوج هذه الدورة مسارها بملتقى وكَاكَ بأكَلو، حين يبلغ تدفق الزوار ذروته”.
وعظ وإرشاد وطقوس “حضرة”
يبيت مريدو الطائفة في دوار زاوية “سيدي وكاك” بأكلو ليلة واحدة، تشهد إلى وقت متأخر من الليل إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد والتفقه في أمور الدين والدنيا، في مسجد الزاوية وباللغة الأمازيغية في غالب الأحيان.
وفي وقت يفضل فيه البعض منهم الإنصات إلى هذه الدروس، يفضل البعض الآخر، خاصة أتباع الطريقة الدرقاوية منهم، إحياء ليلتهم بطقوسهم الخاصة، حيث رافقت هسبريس بعضا منهم إلى منزل غير بعيد عن الزاوية، يتخذه مريدو هذه الطريقة مُقاما ومقرا لهم.
هناك حيث تحلق عدد منهم حول رجل يرتدي جلبابا أخضر، يتمايلون ويتراقصون على وقع حركات يده ويصفقون مع ترديد كلمات غير مفهومة لا يعرف معانيها وأسرارها إلا المريدون. كلمات سخر منها أحد زوار المكان ساخرا، قبل أن يدخل في نقاش مع بعض “الدرقاويين” حول أصل هذا الطقس الذي يشبه “أحواش”، غير مقتنع بما قُدم له من تفسيرات، متشبتا بالقول إن “هذا لا يوجد لا في القرآن ولا في السنة”.
تابعت هسبريس هذا النقاش الذي جرت أطواره بالقرب من الباب الرئيسي لمقر الطريقة الدرقاوية في “دوار الزاوية”، فكان أرضية لسؤال طرحته على مولاي علي أو سلام، الذي قال إنه “درقاوي” أبا عن جد ويشتغل فقيها في أحد المساجد، فأجاب بأن “أتباع الطريقة الدرقاوية يعبدون الله ويتقربون إليه بهذه الطريقة التي ترون، وما يرددونه هو كالتالي: الله حي، لكن مع الرفع من وتيرة الترديد والخشوع لا تسمع هذه الجملة بكاملها”.
وأضاف أن “الحضرة الدرقاوية بشكلها الحالي هدفها الأساسي هو تنقية القلب من البغض والحسد وغيرها من الصفات غير المحمودة”، مؤكدا أن “هناك أشخاصا كانوا مصابين بأمراض عجز الأطباء على تشخيصها وكانت هذه الحضرة سببا في شفائهم وإزالة الهم والغم عنهم”.
وقد جرت العادة أن يختتم “الفقراء الولتيتيون” مقامهم بأكلو بدعاء جماعي للبلاد والعباد في صباح اليوم التالي، أي يوم الجمعة، بحضور عامل إقليم تيزنيت ومجموعة من الشخصيات الأخرى، قبل أن يتفرق الجمع في اتجاه محطات ومناطق أخرى على غرار محطة ضريح “سيدي بوجبارة” بمدينة تيزنيت.
المصدر: وكالات