أكد عبد الواحد أومليل، أستاذ باحث بجامعة ابن زهر خبير في الآثار والتراث، في حديثه عن إعادة إعمار المساكن المتضررة من الزلزال، على ضرورة “إدماج البعد الثقافي في المشروع السكني المعتمد في تحديد شكل السكن وتخطيطه”، موضحا أن “التراث الثقافي الذي يشكل الهوية الجماعية، هو مرتكز أساسي يجب إدماجه في المشروع السكني المرتقب”.
وأشار أومليل، في مقال له، إلى أن “مساكن ما قبل الزلزال التي كان يقطن فيها المتضررون، هي وليدة ثقافتهم الخاصة، التي تنعكس بالخصوص في الموقع المختار لكل منزل وفي نوعه وتخطيطه الداخلي”، موردا أن “عدم الأخذ في الاعتبار المعطى الثقافي قد يؤدي لا محالة إلى خلل سوسيو-ثقافي لدى الساكنة، ربما ينتج عنه نفورها من السكن الجديد”.
هذا نص المقال:
إعادة إعمار القرى التي ضربها الزلزال الأخير يحتاج إلى توفر عدد من الشروط اللازمة لبناء سكن لائق وملائم للساكنة المتضررة. من أهم هذه الشروط، إدماج البعد الثقافي في المشروع السكني المعتمد في تحديد شكل السكن وتخطيطه. فالمفهوم الشامل للثقافة يركز على منظومة القيم الاجتماعية وأنماط العيش والمعتقدات المستمدة من الدين والأعراف والتقاليد، كما يضم المعارف والفنون والتقنيات، كل هذا يدخل في إطار الحفاظ على التنوع الثقافي الذي تزخر به بلادنا واستثماره في التنمية ليس الاقتصادية فحسب، بل كذلك لبلوغ حياة مناسبة تضمن الحفاظ على الخصوصية الثقافية لهذه الساكنة المتضررة.
يجب التأكيد على أن أولئك السكان هم محافظون بالدرجة الأولى، يتميزون رغم فقرهم بالقناعة والكرم والأخلاق النبيلة، وهو ما لاحظه الجميع إبان حملة التضامن الأخيرة. لذلك، فالتراث الثقافي الذي يشكل الهوية الجماعية، هو مرتكز أساسي يجب إدماجه في المشروع السكني المرتقب.
فمساكن ما قبل الزلزال التي كان يقطن فيها المتضررون، هي وليدة ثقافتهم الخاصة، التي تنعكس بالخصوص في الموقع المختار لكل منزل وفي نوعه وتخطيطه الداخلي.
يجب أن نتذكر أن عمارة هذه المساكن هي من عمل المعلمين ( (Maalmines المحليين وحتى الساكنة، وليست من عمل المهندس المعماري، ولذلك أطلقوا عليها “العمارة العامية أو العمارة بدون مهندسين معماريين”. طبعا هذه العمارة القروية العامية الرائعة، المبنية بمواد محلية حجرية أو طينية، تمكنت من الصمود في هذه المناطق الجبلية الوعرة لفترة طويلة تصل إلى قرون، وهذا دليل قاطع على مهارة الإنسان القروي وقدرته على الابتكار والبقاء في بيئة طبيعية قاسية والتأقلم معها.
يخضع الترتيب الداخلي لهذه المنازل بالأساس للبعد الثقافي المحلي، فهو تجسيد لعادات الساكنة وتقاليدها التي تحافظ بالأساس على خصوصية المنزل. لذلك تتميز هذه المنازل بكونها مفتوحة على الداخل، وتوفرها على مدخل ملتو لتجنب نظرة المارين إلى داخل المنزل، كما أن الغرفة المخصصة للضيوف تكون قريبة من المدخل ومعزولة عن بقية غرف المنزل، بالإضافة إلى المطبخ الذي يخصص له مكان في الداخل مريح للمرأة.
كما أن مساكن التجمعات السكنية أو الدواوير، الكثير منها مبني على مدرجات أعدها الإنسان المحلي، كما أنها متلاصقة ومتساوية الارتفاع. فمساكن كل مدرج تكون مفتوحة على أسطح المساكن التي أسفلها بغرض استفادتها من أشعة الشمس، بالإضافة إلى أن أسطح كل مدرج تستعمل كفضاء لتواصل النساء ولتجفيف المحاصيل الزراعية. كما تستعمل للاستراحة والاستمتاع بالمناظر الطبيعية التي أمامها، بل وحتى للمبيت بها أوقات الحر الشديد.
قد يقول البعض إن ما ذكرناه مبالغ فيه وبأنه يعيق تطور المجتمع القروي المحلي، ونحن نرد بالقول إن عدم الأخذ في الاعتبار المعطى الثقافي قد يؤدي لا محالة إلى خلل سوسيو-ثقافي لدى الساكنة، ربما ينتج عنه نفور هذه الأخيرة من السكن الجديد وبالتالي العمل على إعادة بنائه من الداخل، وفق ما تمليه عاداتها ونمط عيشها، فإشراك الساكنة والمعلمين المحليين، مبدعي هذه العمارة الرائعة في أماكن صعبة، في عملية إعادة الاعتبار تبقى ضرورية لإنجاح المشروع.
طبعا، إعادة البناء المقبلة يجب أن تدمج فيها كل الهياكل المقاومة للزلازل التي تبقي على الطابع المعماري المحلي.
أما بالنسبة لمواد بناء هذه العمارة العامية، التي هي الحجر والطين، فهي مواد محلية وإيكولوجية، تستعمل منذ قرون عديدة في العمارات الدينية والمدنية والعسكرية والاقتصادية، ومازالت قائمة حتى الآن في العديد من المواقع الأثرية رغم تعرضها لزلازل سابقة، مما يدل على صلابتها وبراعة البناء بها.
وعن تقنيات البناء بالحجر التي لا نزال نشاهدها في عمارتنا التقليدية، فهي تقنيات قديمة جدا رافقت استعمال الحجر في البناء. أهم هذه التقنيات وأكثرها انتشارا هي تقنية “عش النحل Nid d’abeilles”، وهي مكونة من حجارة متوسطة الحجم غير منتظمة الشكل، محاطة بأحجار صغيرة مثبتة بملاط طيني. أقدم بقايا هذه التقنية نجدها في جدران مبان تعود إلى قرون قبل بداية التاريخ الميلادي.
أما بخصوص تقنيات البناء الطيني، هناك تقنيتان منتشرتان منذ فترة جد قديمة بالمغرب، وهما: تقنية الآجر المجفف وتقنية التابوت أو اللوح. الأولى هي عبارة عن آجر مجفف مكون من خليط من الطين والقش، يشكل بواسطة قوالب خشبية يتم تعريضها للشمس حتى تجف. أما تقنية التابوت أو اللوح، فهي تتم بواسطة صندوق من الخشب طوله يصل إلى 3 أمتار وارتفاعه لا يتجاوز المتر الواحد. الطين المستعمل هنا يضاف إليه الحصى والجير حتى تزداد صلابته.
استخدم المغاربة هذه التقنية منذ القديم في كل عماراتهم خاصة العسكرية، حيث بنوا بها الأسوار الدفاعية لمدنهم نظرا لصلابتها وردها للضربات المدفعية. ونشير هنا إلى أن تقنية التابوت أو اللوح هي اختراع مغربي، ظهرت لأول مرة في المناطق شبه الصحراوية، ومنها انتشرت في بقية مناطق المغرب وشمال إفريقيا، بعدها انتقلت إلى إسبانيا ومنها إلى القارة الأمريكية بعد اكتشافها سنة 1492.
كما تجدر الإشارة إلى الخاصية الحرارية للبناء الطيني الذي يوفر درجة حرارة مناسبة داخل المنزل، سواء في الصيف أو الشتاء، بالإضافة الى استهلاكه المنخفض للطاقة، وهذا كله يصب في مصلحة الساكنة.
نتمنى أن يؤخذ في الاعتبار هذا التراث الثقافي المادي واللامادي الهام، الذي يدخل ضمن الحقوق الثقافية للساكنة المتضررة. كما أنه يشكل جزءا لا يتجزأ من التنوع الثقافي الذي تتميز به بلادنا، والذي تقول عنه اليونسكو إنه قاطرة أساسية في التنمية.
المصدر: وكالات